من كتاب خطاب حول الاستعمار للشاعر والمسرحي والسياسي المارتينيكي إيمي سيزار
ترجمة لورا عدوان
إن حضارةً تثبت مرة تلو الأخرى عجزها عن حل المشاكل التي خلقتها هي حضارة بدأت بالتعفن.
وحضارةٌ تختار غض الطرف عن مشاكلها المستحكمة هي حضارة مريضة.
وحضارةٌ توظف مبادئها في الاحتيال والخداع هي حضارةٌ تحتضر.
والحقيقة أن تلك المسماة حضارة أوروبية – أو حضارة “غربية” – حسبما تشكلت على مدار قرنين من حكم الطبقة البرجوازية، قد تأكد عجزها عن حل المشكلتين الرئيسيتين اللتين خلقهما وجودها: مشكلة البروليتاريا ومشكلة الاستعمار. ليس لدى حضارة أوروبا هذه ما تدافع به عن نفسها حين تمثُل في قفص الاتهام أمام “العقل” أو “الضمير”. هي حضارة لا تجد ملجأها إلا في النفاق الذي يزداد مقتَه كلما بان عجزه وتضاءل نجاحه في مواصلة خداع الآخرين.
لا مجال للدفاع عن أوروبا
هذا ما يهمس به خبراء الاستراتيجيا الأميركيين، وليس الهمس بحد ذاته هو المهم.
المهم هنا هو أن “أوروبا” أصبحت محطَّ اتهام، على المستويين الأخلاقي والروحي، ولم يعد هناك مجالا للدفاع عنها.
أما اصابع الاتهام الموجهة ضد اوروبا، فلم تعد مقتصرة على جماهير الأوروبيين وحدهم، بل أخذت تشاركهم في ذلك جماهيرٌ من مختلف أصقاع العالم، فهناك عشرات الملايين من البشر الذين نصَّبوا أنفسهم قضاة لمحاسبة أوروبا.
قد يقتل المستعمِرون في الهند الصينية، ويعذبون في مدغشقر، ويأسرون في أفريقيا السوداء، ويمعنون في غطرستهم في جزر الهند الغربية. ولكن، من الآن فصاعداً، يدرك المستعمَرون أنهم يمتازون، أخلاقياً، على مستعمِريهم، فهم (أي المستعمَرون) يعرفون أن “أسيادهم” المؤقتين يكذبون، مما زرع فيهم يقيناً بأن مستعمِريهم ضعفاء.
أما، وقد طُلب مني التحدث عن الاستعمار والحضارة، فدعونا نبدأ بالكذبة الرئيسية التي تتناسل منها مختلف الأكاذيب الأخرى.
الاستعمار والحضارة؟
عند مُقاربة هذا الموضوع، تواجهنا اللعنة المعهودة التي تعاني منها الغالبية، في القبول حسَن النية بالنفاق الجماعي الذي يصور، بمهارة، المشاكل على غير حقيقتها، ويُوظف جهداً إضافياً لشرعنة الحلول المقيتة التي يعرضها المستعمِر.
بكلماتٍ أخرى، إن الأمر الأساسي، في هذه المقاربة هو الالتزام بوضوح الرؤية والفكرة. يجب أن نفكر – بحذر من يستشعر خطراً – وأن نجيب بوضوح على السؤال البريء الاستهلالي: ما هو الاستعمار؟ وما هو جوهره؟ لنتفق بدايةً على تحديد اللا استعمار: ليس الاستعمار تبشيراً دينياً، ولا مشروعاً خيرياً، ولا تتضمن أهدافه اجتثاث التخلف والمرض والاستبداد، وليس مشروعاً لتجسيد الإرادة الإلهية العليا، ولا محاولة لتعميم وتطبيق سيادة القانون. لنقر مرة واحدة وللأبد، دون أن نهاب أو نرتعد من العواقب، بأن فريق اللاعبين الفاعلين والحاسمين في العملية الاستعمارية يتألف من المغامر، والقرصان، وتاجر الجملة، ومالك السفينة، والمنقب عن الذهب، والتاجر، والنَهَم والجشَع والقوة. في حين يحمي ظهور هؤلاء ظلال مشروع شؤمٍ لشكل من الحضارة الذي سيجد نفسه، في مرحلة معينة من تاريخه ولأسباب داخلية، مدفوعاً لتوسيع حيَّز تنافس اقتصاداته المتناحرة على صعيد عالمي.
أواصل تحليلي هذا، لأجد أن النفاق المصاحب لاستعمار اليوم هو ظاهرة حديثة؛ ففي السابق حين اكتشف كورتيز Cortez المكسيك من على سفح قمة هرم teocalli أو كوزكو Cuzco ومن قبله بيزارو Pizzaro أو ماركو بولو Marco Poloوخلَفُه كامبالوك Cambaluc لم يدَّع ِأيَّاً منهم أنه جلب، إلى المناطق الجديدة التي اكتشفها، بشائر قدوم نظمٍ أسمى من تلك التي كانت سائدة قبل مجيئهم: فقد كانوا يقتلون، وينهبون، ويعتمرون خوذاً ويتسلحون بالأقواس والرماح. أما المعتذرون عن العبودية، فقد جاؤوا في مرحلة لاحقة، ليظهر أن المجرم الرئيسي وراء تكريس هذه العبودية هو الاستغلال لتعاليم مسيحية أخرى أرست المعادلات غير الأمينة التالية: المسيحية = الحضارة، والوثنية = الهمجية. وكانت النتيجة الطبيعية لهذه الأفكار ولادة الظاهرة الاستعمارية المقيتة والعنصرية، وضحاياها من الهنود، والشعوب الصفراء في آسيا والزنوج.
في ضوء ما ذُكر، فإنني أقر بأنه لأمر جيد بل ممتاز أن تتوفر الفرص لالتقاء حضارات مختلفة تسمح بامتزاج عوالم متعددة. فالحضارة التي تنطوي على نفسها ولا تنفتح على حضارات أخرى سيكون مصيرها الاضمحلال مهما كانت عبقريتها الخاصة. والتفاعل بين الحضارات هو الأوكسجين الذي يضمن بقاءها على قيد الحياة. لقد تميزت أوروبا بعدد من المصادفات الحسنة: كونها مفترق طرق بين القارات، ومقر بروز مختلف الأفكار، ووعاء للفلسفات المختلفة، وملتقى لكل المشاعر، مما أهلها لتكون المركز الأفضل لاعادة توزيع هذه الطاقات.
بعد إقراري السابق، يُلح عليّّ السؤال التالي: هل أسهم الاستعمار في خلق تواصل بين الحضارات؟ لِنُعِدْ صياغة السؤال إن شئتم: من بين مختلف الوسائل الممكنة لبناء علاقات بين الحضارات، هل يشكل الاستعمار أفضلها؟
أجيب هنا، بِـ “لا”.
وأضيف أن المسافة بين الاستعمار والحضارة لا نهاية لها، وأن البعثات الاستعمارية مجتمعة وكل التشريعات التي سنها المستعمر أو المذكرات الدبلوماسية التي تم إرسالها خلال التاريخ الطويل للاستعمار، لم تأتِ بقيمة إنسانية واحدة.
بداية، ً يجب أن ندرس الآليات التي يعمل بموجبها الاستعمار لنزع الحضارة من المستعمِر كي يحيله إلى وحشٍ بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فيحط من قدره ويوقظ الغرائز الكامنة فيه: الجشع والعنف والحقد العنصري والنسبية الأخلاقية. هنا لا بد ان نوضح، أنه في كل مرة يُفصل فيها رأس عن جسد أو تُفقأ عين في محجرها في فيتنام ويُقابل ذلك بالقبول في فرنسا، وفي كل مرة تتعرض فيها طفلة للاغتصاب، ويُعتبر الأمر مقبولاً في فرنسا، وفي كل مرة يُعذب فيها شخص في مدغشقر ويقبلون ذلك في فرنسا، في هذه المرات جميعاً وفي شبيهاتها، تبدأ الحضارة بالاضمحلال لتُصاب بانتكاسة عالمية وتتفشى الغانغرينا في جسدها وتبدأ العدوى بالانتشار. فبعد كل المعاهدات التي خُرقت، وكل الأكاذيب التي بُثت، وكل الحملات الاستعمارية العقابية التي أُجيزت، والأسرى الذين تم تقييدهم لاستجوابهم والتحقيق معهم، والمناضلين الوطنيين الذين عُذبوا، بعد كل هذا التشجيع لكبرياء عنصري النزعة ولتبجح استعراضي، فإن كل ما سبق كان مثابة سم تم حقنه في أوردة الجسد الأوروبي لتسير القارة، ببطء ولكن بما لا يدع مجالاً للشك، نحو الهمجية.
ولتستيقظ البرجوازية الأوروبية، ذات يوم مشرق، على صدمة عكسية مروعة حيث النازيون غارقون في إتمام مهمتهم، والسجون تفيض بنزلائها، والجلادون في مسالخهم مازالوا يخترعون أساليب جديدة للتعذيب ويجددون القديمة ويتباحثون في سبل تطويرها.
وتعم الدهشة أوروبا وتسيطر على ناسها مشاعر السخط والنقمة، فيقولون: “ما يحدث أمر غريب! ولكن، لا داع للقلق – إنها النازية، وستزول حتماً!” فينتظرون ويمنون أنفسهم بالأمل، ويخفون عن أنفسهم الحقيقة؛ حقيقة أن النازية هي الهمجية، لكنها همجية الأسمى مكانة، همجية المتوجين على العرش والتي تختزل جميع الأشكال اليومية الأخرى للهمجية. أجل، إنها النازية التي قبل أن تجعل منهم ضحايا لها، كانوا هم شركاء في صناعتها؛ فسمحوا بوجودها واحتملوا انتهاكاتها قبل أن تنقلب عليهم، وتقبلوها دون أدنى شعور بالذنب، فأغمضوا عيونهم عنها وشرّعوا وجودها فقط لأنها حتى ذلك الوقت لم تطال إلا غير الأوروبيين. لقد غرسوا بذور هذه الهمجية وأولوها الرعاية والعناية، إنهم المسؤولون عن وجود هذه النازية التي وقبل أن تُغرق بمياهها الحمراء الآسنة مركب الحضارة المسيحية الغربية كلِّياً، كانت قد بدأت تنز وتتسرب من كل صدع فيه.
نعم سيكون مجدياً لو أجرينا دراسة تشخيصية ومعمقة للخطوات التي اتبعها هتلر والهتلرية، وهي دراسة تستحق العناء، لكي تكشف للبرجوازي الأكثر تميزاً والأكثر إنسانيةً والأكثر مسيحيةً في القرن العشرين أنه يحمل هتلراً في داخله دون أن يعي ذلك، وأنه مسكونٌ بهتلر، وأن هتلر هو الشيطان الذي يتلبسه، وإذا حاول يوماً الاحتجاج عليه وإدانته، فإنه سيكون حينها مهزوزاً، يفتقر للمنطق والحس السليم. وإذا ما أجال هذا البرجوازي نظره في أعماقه، سيكتشف أنه حين يعجز عن مسامحة هتلر عن الجرائم التي ارتكبها فإنه لا يُفكر بالجريمة بحد ذاتها، أي بالجريمة التي اقترفها هتلر ضد الإنسانية، لكن ما لا يستطيع أن يغفره لهتلر هو الجريمة التي ارتكبها ضد الإنسان الأبيض، والذل والمهانة اللتين ألحقهما بالإنسان الأبيض. لا يستطيع هذا البرجوازي المميز أن يسامح هتلر على ممارساته الاستعمارية ضد أوروبا، والتي كانت حتى ذلك الحين مخصصة للاستخدام حصراً ضد العرب في الجزائر، والكوليين في الهند (coollies)، والسود في أفريقيا.
وهنا يكمن مأخذي الأكبر على النزعة الإنسانية المزعومة: كونها هضمت حقوق الانسان لزمن طويل، كما أن نظرتها إلى هذه الحقوق كانت وماتزال نظرة ضيقة وتجزيئية وناقصة ومتحيزة. إنها، ضمن هذه الاعتبارات، نظرة عنصرية بمنتهى القذارة.
لقد تحدثت مطولاً عن هتلر، وهو جدير بالدراسة والبحث لأنه يسمح لنا برؤية شمولية للأشياء، ويساعدنا على إدراك حقيقة المجتمع الرأسمالي الذي يُثبت، في عصرنا الحالي، عجزه عن تأسيس مفهوم حقوق إنسانية تعم البشر جميعهم دون استثناء كما أثبت في الماضي عجزه عن إقامة نظام للأخلاق الفردية. وشئنا أم أبينا، لا يمكننا إلا أن نقر بأنه في نهاية ذلك الزقاق المظلم، المسمى أوروبا، يقبع هتلر، وأوروبا التي أقصدها هنا هي أوروبا كونراد اديناور Adenauer وروبرت شومان Schuman وجورج بيدو Bidault والعديد غيرهم. ونجد هتلر قابعاً أيضاً في ثنايا الرأسمالية التي تصارع لاطالة عمرها، وفي طيَّات الانسانية الشكلية وبين سطور الإعلان عن موت الفلسفة.
وما دامت الأمور على هذا النحو، فلا يسعني إلا استحضار احدى مقولات هتلر نفسه: “إننا لا نتوق إلى المساواة بل للسيطرة. ومرة أخرى يجب أن تتحول بلاد الأعراق الأجنبية إلى بلاد للأقنان والمزارعين والعمال. فالمسألة هنا ليست في اجتثاث اللامساواة التي تسود البشر بل في تعميق اللامساواة وترسيخها بتشريعها ووضع القوانين التي تسوغ استمرارها.”
يُداهمنا صدى هذه المقولة واضحاً ومتغطرساً ومتوحشاً ونحن محاصرين وسط هستيريا حلقة الرقص والعويل للهمجية الأوروبية. ولكن دعونا نهبط درجة واحدة.
من الذي يتحدث هنا؟ إنني أخجل حتى من قولها: إنه المفكر الانساني الغربي، والفيلسوف “المثالي”. صدف أن اسمه هذه المرة إرنست رينان. والمقطع التالي من كتابه “الإصلاح الفكري والأخلاقي”La Reforme intellectuelle et morale ينبئنا بالكثير عن أخلاقيات البرجوازية، كونه كتب ما كتبه في فرنسا بعد خوض الأخيرة لحرب أسمتها حرب الحق ضد القوة:
“إن الجهود التي تبذلها الأعراق البيضاء المتفوقة للارتقاء بالأعراق الدونية والمنحطة هي جزء من ترتيبات العناية الالهية المقدرة للإنسانية. ففي أغلب الأحيان، يكون الانسان الأوروبي العامي شخصاً نبيلاً وقد جرّد من رتبته إلى حين، ويده الثقيلة التي لا تكل عن العمل قد خُلقت أساساً لتناسب مقبض السيف وليس للقيام بأعمال دونية خدمة للآخرين. وحين يدرك هذا الأمر يعود إلى أصوله فيختار القتال. إن “السيادة على الشعوب الخاضعة لحكم الإمبراطورية” Regere imperio populos هي المهنة المقدرة علينا، نحن الأوروبيين، من السماء. فلتتدفق جحافلنا إلى بلاد كالصين التي يصرخ أهلها عالياً طالبين قدوم الغازي الأحنبي. إنها فرصة رائعة لنجعل من المغامرين منا الذين يثيرون المتاعب جنوداً للواجب في مستعمراتنا، فننظمهم في حشود مثل الفرانك Franks واللومبارد Lombards والنورمانديين Normans ، لنتيح لكل شخص القيام بالدور المناسب له. خلقت الطبيعة عرقاً من البشر ليكونوا عمالاً هو العرق الصيني، فهم يتمتعون بمهارة فائقة في الأعمال اليدوية، ويفتقدون تقريباً لأي احساس بالكرامة أو عزة النفس، احكموهم بالعدل وستستخرجون من جيوبهم نظير نعمة ذلك الحكم عائداً كافياً لصالح العرق المنتصر، أما هم فسيكونون راضين حقاً بحكمكم. وخلقت الطبيعة عرقاً من الفلاحين، هم الزنوج، عاملوهم بإنسانية ورحمة وستسير الأمور كما يجب. كما خلقت الطبيعة عرقاً من الأسياد والجنود، هم العرق الأوروبي. لكنك إن فرضت على هذا العرق النبيل العمل في المنشآت الأوروبية المخصصة للعبيد مثل الزنوج والآسيويين فسترى أنهم سرعان ما يثورون. إن كل ثائر، في أوروبا هو جندي فاته نداء الواجب، أو مخلوق جُبل ليعيش حياة الأبطال إلا أنه وجد نفسه مجبراً على العمل في وظيفة تخالف طبيعته فكان أداؤه رديئاً كعامل مع أنه جندي ممتاز. والحال أن هذه الحياة التي ينبذها عمال أوروبا ويثورون عليها ستُسعد العامل الصيني والفلاح الزنجي لأنهما لم يُخلقا للقيام بأعمال العسكر. فلنتح الفرصة لكل انسان كي يعمل في المجال الذي خُلق له، وحينها سيكون كل شيء على ما يرام. ”
هل المتحدث هنا هتلر؟ ألفرد روزنبرغ؟ لا، إنه رينان.
إنما، دعونا نهبط درجة أخرى. ونلتقي بالسياسيين المخضرمين الذين يتحفوننا بخطبهم البليغة. من ذا الذي يملك أن يحتج؟ لا أحد، في حدود علمي. فإذا استمعنا لخطبة السيد ألبرت سارو Albert Sarraut، الحاكم الفرنسي السابق لجزيرة الهند الصينية أمام طلبة المدرسة الاستعمارية Ecole Coloniale في باريس3 وهو يعظهم بأن اعتراض السكان الأصليين على وجود المشاريع الاستعمارية الأوروبية على أراضيهم “باسم الحق المزعوم بامتلاكهم تلك الأرض وحقهم بالاحتفاظ بنمط حياتهم الخاصة سيبقيهم في عزلة مقيتة ويترك الموارد والثروات غير المستغلة لتبقى مهملة إلى الأبد في أيدي أناس يفتقرون لأية كفاءات.”
مَنْ مِنَ الناس نقم واستشاط غضباً حين جاء كاهن يدعى بارد Rev. Barde ليؤكد لنا بأنه إذا بقيت السلع والموارد في عالمنا هذا “موزعة بشكل غير محدد، كما كان عليه حالها قبل الاستعمار، فإنها والحال هكذا ستعجز عن تنفيذ الرغبة الإلهية أولاً ولن تلبي المتطلبات العادلة للشعوب الإنسانية ثانياً”؟
وبناء على ذلك، كما يصرح أخوه في المسيحية، الكاهن موللر Rev. Muller: “فإن الإنسانية لا يجب، بل لا تستطيع أن تسمح بترك الثروات التي أنعم الله بها على الشعوب غير المتحضرة لتضيع نتيجة اهمالهم وكسلهم وعجزهم الدائم عن الاستفادة منها، بل يجب أن ندفعهم تجاه استغلال ثرواتهم لخدمة الصالح العام. ”
لا أحد.
وحين أقول لا أحد، فإنني أعني أنه ما من أحدٍ يحتج، لا كاتباً مرموقاً، ولا حتى إنساناً أكاديمياً واحداً، أو واعظاً، أو سياسياً أو محارباً في سبيل إعلاء راية الحق والدين، ولا حتى شخص واحد ممن يقدمون أنفسهم كمدافعين عن الانسان.
ومع ذلك فما نطقت به أفواه هؤلاء الرينان(يين) the Renans والساروت(يين) Sarrauts the والبارد(يين) The Bardes والموللر(يين) the Mullers، وما تفوَّه به مختلف الذين اعتبروا – ويعتبرون بعد – أنه يجوز لهم شرعاً “ممارسة أعمال النهب والمصادرة بحق الشعوب غير الأوروبية لخدمة الصالح العام” ولمصلحة الأمم الأقوى والأكثر تطوراً، حين نسمع ما نطقوا به، نشعر حينها أن المتحدث هو هتلر.
ما الذي أبغيه هنا؟ أود إخباركم بما يلي: ما من مستعمِر بريء، وما من مستعمِر يمكنه أن يفلت من العقاب الذي ينتظره. فالأمة التي تستعمر غيرها، والحضارة التي تقدم التبريرات للاستعمار، وتبرر بالتالي استخدام القوة، هي حضارة مريضة أساساً. إنها حضارة تعاني من أزمة أخلاقية وما أن تخرج من مطب حتى تنزلق في الذي يليه لتهوي فيه دون أدنى مقاومة، وهي حضارة ترفض باستمرار الاعتراف بما اقترفته بحق الآخرين. إن حضارة كهذه، لا بد أن تستدعي هتلرها، أعني عقابها.
الاستعمار، كما يروجون بنقاء وببساطة: حملة عسكرية اندفعت إلى أراضي الغير بزعم الارتقاء بالبربرية، التي قد تنفجر في أية لحظة نافية للحضارة.
كنت قد أوردت مطولاً، في موضع آخر، بعض الحوادث التي انتقيتها من تاريخ البعثات الكولونيالية.
وهذا لسوء الحظ لم يلقَ استحسان أحد. فكنت كمن يُخرج هياكل عظمية قديمة من خزائنها. وهذا بالفعل ما كنت أقوم به!
هل كان من غير المجدي أن أقتبس قولاً لأحد الجنرالات الذين اجتاحوا الجزائر، Colonel de Montagnac: ” حين أحتاج للتخلص من الأفكار التي تجتاحني أحياناً، أحتاج إلى قطع بعض الرؤوس، ليس رؤوس الأرضي شوكي وإنما رؤوس بشرية.”
ألم يكن من الأجدر عدم إعطاء المنبر لأحد قادة القوة العسكرية لانكلترا وفرنسا في الصين ليقول، Count d’Herisson: ” نعم، كنا نعود محملين ببرميل مليىء بالآذان المقطوعة، التي كنا نجمعها، من أجساد الأسرى ، سواء كانوا مسالمين أم أعداء.”
هل كان علي أن أنكر على القديس Saint-Arnaud حقه بأن يعلن مبادئه البربرية: “علينا أن نجتاحهم لنلقي النفايات هناك، ونحرق، وننهب، ونهلك الشجر والحجر.”
وهل كان مطلوباً مني أن أمنع المارشال Marshal Bugeaud من صياغة كل هذه الأعمال والأقوال صياغة منهجية تمخضت عنها نظرية جريئة تستحضر ما تقدم من تراث أسلافه المشاهير: “يجب أن نشن غزوة عظيمة على أفريقيا، كتلك الغزوات التي قام بها الفرنجة والقوطيين Franks and Coths .”
وأخيراً، هل كان علي أن ألقي بالبطولة العسكرية الشهيرة للجنرال جيرارد 4General Gerard في غياهب النسيان، وألتزم الصمت تجاه الاستيلاء على مدينة Ambike هذه المدينة التي والحق يقال لم تكن تحلم بأن تقف موقف المدافع عن نفسها يوماً: “كانت الأوامر الموجهة للقناصة البارعين الذين اجتاحوا المدينة بأن لا يقتلوا إلا الرجال، لكن لم يوقفهم أحد عن اطلاق النار، لقد ثملوا بعبق رائحة الدم المنتشرة في الأجواء، واستمروا في القنص فلم تنج منهم لا امرأة ولا طفلاً … ومع اقتراب أولى ساعات المساء، وبتأثير الحرارة العالية، غطت السماء غشاوة من الرذاذ الخفيف: إنها الأبخرة المتصاعدة من دماء خمس آلاف ضحية، لقد تبخر شبح المدينة مع غروب الشمس.”
ليجيبوا، بنعم أو لا: هل حدثت هذه الوقائع حقاً؟ وماذا عن الصحفي العسكري، Loti، وشهواته السادية وتلذذه المشين والرعشة الشهوانية التي كانت تجتاح جسده حين كان يراقب بمنظاره آثار إحدى المجازر الناجحة في إقليم أنام (الفيتنام)5. أهذه حقيقة أم لا؟ وإذا كانت هذه الأحداث حقيقية، بما أنه ليس بوسع أحد إنكارها، فهل سيقولون، بغرض التقليل من شأنها، أن جثث الأموات هذه لا تثبت شيئاً؟
وبالنسبة لي، فأنا حينما أستعيد عبر هذه السطور بعض التفاصيل من مشاهد سفك الدماء المشينة، فإن ما يدفعني إلى هذا ليس بأي حال من الأحوال شعور بالابتهاج المرضي بهكذا انتصارات حربية، ولكنني مدفوع للكتابة عنها لاعتقادي بأن هذه الرؤوس التي فصلت عن أجسادها، والآذان التي قطعت، والمنازل التي حرقت، والغزوات المرعبة التي شنت، والدماء التي سُفكت، والمدن التي تبخرت بضربات السيوف، كل هذه الشواهد لا ينبغي أن تمر مرور الكرام، ولا يجب أن يُسمح بالتخلص منها بسهولة. فهذه الشواهد تثبت بأن الاستعمار، وهنا أكرر ما قلته سابقاً، ينتزع الإنسانية حتى من أكثر الناس تحضراً، وتُثبت أن الممارسات والمشاريع والغزوات الاستعمارية التي تُرتكب عادة بدافع الاحتقار والازدراء الموجه للسكان الأصليين ويتم تبريرها بهذه الدوافع، لا بد أن تؤثر حتماً على مرتكبها. فالمستعمِر، وفي محاولة منه لاراحة ضميره، يقنع نفسه بأن ينظر إلى الانسان الآخر كحيوان، ويعوّد نفسه على أن يعامله كحيوان، حتى أنه يميل، وبكامل حواسه، إلى أن ينقلب هو نفسه إلى حيوان. وهذا ما كنت أود أن أوضحه لكم: كيف يرتد الشر على نفسه، هذه هي نتائج الاستعمار التي أردت أن أسلط الضوء عليها.
هل هذا الاستنتاج ظالم؟ غير عادل؟ لا. في زمن مضى، كانت هذه الحقائق مصدراً للفخر والاعتزاز، حين كان المستعمِرون لا يأبهون بتزيين كلامهم أو تجميله ربما لثقتهم العالية بالغد القادم. إليكم هذا الاقتباس، وهو الأخير الذي سأورده، عن شخص يدعى كارل سيغار Carl Siger الذي كتب “مقالة حول الاستعمار” Essai sur la colonization في باريس سنة 1907:
“توفر البلدان الجديدة ملعباً فسيحاً للفرد الأوروبي، حين تسمح له بممارسة النشاطات العنيفة التي ما كانت لتُستوعب في بلده المتحضر إذا ما قسناها بمعايير الرزانة والوقار السائدة هناك. ولكن تتوفر لهذه النشاطات مساحة حرية أكبر، في المستعمرات، لتتطور وتتضح أهمية وجودها للفرد المتحضر تدريجياً. وهكذا تلعب المستعمرات، إلى حد معين، دور صمام الأمان في حياة المجتمعات الحديثة. ومن هنا فإن للمستعمرات قيمة عظيمة، حتى لو اقتصرت أهميتها على هذا الدور فقط.”
بدون أدنى شك، فإن الاستعمار قد خلَّفَ لطخات قذرة لا تسمح قدرة الانسان العادي بازالتها، ولا يمكن أبداً أن يتم التكفير عنها بشكل كلي.
ولكن دعونا نتكلم عن المستعمَر.
يمكنني أن أرى الدمار الذي ألحقه الاستعمار بوضوح: مثلما حل بالحضارات الهندية الرائعة – فلا يمكن لأي (انجاز حضاري) مثل Deterding ولا Royal Dutch ولا Standard Oil أن يعزيني عما اقتُرِف بحق حضارات الأستك والأنكا.
كما أرى بوضوح ما يحدث للحضارات، حين يُحكم عليها بالإبادة والهدم في المستقبل: كما حصل لحضارات جزر البحر الجنوبي في الصين، نيجيريا، Nyasaland. لكني لا أرى بنفس الوضوح الاسهامات التي قدمها الاستعمار.
الأمن؟ الثقافة؟ سيادة القانون؟ وفي غضون ذلك، ألتفت حولي لأرى أنه أينما يتواجد مستعمِرين ومستعمَرين في مواجهة مباشرة، يعم العنف والوحشية والقسوة والسادية والنزاعات، وأما التعليم (الموجود في الحالة الاستعمارية) فهو ليس سوى مسرحية هزلية يتم فيها تصنيع سريع لبضعة آلاف من الموظفين المحترفين، و”الصبية”، والعمال المهرة، والكتبة في المكاتب التجارية، إضافة إلى مترجمين يعتبر وجودهم ضرورة لتسهيل تسيير العمل في المستعمرات بنجاح.
تحدثت عن الاتصال بين المستعمِر والمستعمَر.
لا يسمح الحيز الموجود بين المستعمِر والمستعمَر بوجود شيء غير: العمل القسري، والاكراه والتهديد المستمر، والضغط، والشرطة، وفرض الضرائب، والسرقة، والاغتصاب، وزراعة المحاصيل المفروضة عنوةً، والاحتقار، وانعدام الثقة، والغطرسة، والرضى بالتواكل، ونُخَب بلا عقل، وجماهير مهانة.
لا يتيح هذا الحيز مجالاً لتطور علاقات انسانية، وإنما يُطور علاقات قائمة على الهيمنة والخضوع تحول الانسان ممثل المستعمِر إلى مراقب للتعليم الذي يتلقاه المستعمَر في صفوف الدراسة، ورقيب في الجيش، وحارس سجن، وسائق للعبيد، بينما يتحول الانسان الأصلي المستعمَر إلى أداة للانتاج.
حان دوري الآن لنحت معادلة: الاستعمار = التشييئية
أسمعهم يمطرونني بوابل من الحجج. فهم يحدثونني عن التقدم، وعن “الانجازات”، عن تطبيب الأمراض وتحسين مستوى الحياة.
وأنا أحكي عن مجتمعات تُجتث روحها، وثقافات تُسحق بقوة تحت الأقدام، ومؤسسات تُشوه سمعتها وتُهمّش، وأراضٍ تُصادر، وديانات تُهاجم بعنف، وتراث فني رائع يشهد على ابداع البشرية يُهدم، وامكانيات هائلة تُطمس.
هم يلقون أمامي ما في جعبتهم من حقائق: أرقام واحصائيات، وشق مئات الأميال من الطرق وتعبيدها، وانشاء قنوات الري الحديثة وخطوط السكك الحديدية.
وأنا أحكي عن الآلاف من الرجال الذين أجبروا على تقديم حياتهم قرابين لشق خط سكة حديد الكونغو-محيط Congo-Oceon6. وأحكي عن أولئك الذين، في الوقت الذي أخط فيه هذه الأسطر، يُجبرون على حفر مرفأ أبدجان بأيديهم العارية. وأحكي عن الملايين من البشر الذين حرموا من ممارسة شعائرهم الدينية وانتزعوا بقسوة من أرضهم وعاداتهم وحياتهم، حرموا من العيش، ومن الرقص، ومن المعرفة والحكمة.
أحكي عن ملايين من البشر يُحقنون، وبمهارة، بجرعات كبيرة من الخوف يومياً، وتُزرع في نفوسهم بذور عقدة النقص، ويدربون على الركوع والقنوط والتذلل والارتعاش ليحصلوا بجدارة على لقب الإمعة.
وهم يروون لي قصصاً باهرة عن السفن المحملة بآلاف الأطنان من القطن والكاكاو للتصدير وعن آلاف الفدانات التي زُرعت بالزيتون والعنب.
أما أنا فأحكي عن تعطيل حركة الاقتصاد الطبيعية لسكان البلاد الأصليين، وعن تدمير محاصيلهم الزراعية ليصابوا بسوء تغذية مستمر، وعن تحويل الانتاج الزراعي بما يلبي احتياجات الدول الاستعمارية في المركز، وعن نهب المواد الخام.
وهم يتباهون ويتفاخرون بالتخلص من الانتهاكات لحقوقهم.
وأنا كذلك أتكلم عن انتهاكات، ولكن ما أقوله هو أنهم لم يتخلصوا من الانتهاكات التي كانت موجودة في السابق، بل أضافوا إليها سلسلة من الانتهاكات المقيتة. يحدثونني كيف أُعيد بعض المستبدين المحليين إلى رشدهم. ولكن ما ألحظه هو أنه في العادة تتطور علاقة مصالح متبادلة بين المستبدين القدماء وخلفائهم الجدد، وأن الطرفين ينخرطان في شبكة من الخدمات المتبادلة وعمليات نهب مستمرة لدم الشعب وقوته اليومي.
هم يحدثونني عن الحضارة، وأنا أتحدث عن تحول الملايين من البشر إلى عمال مأجورين يعملون بشروط حقيرة لدى حفنة من الأسياد الرأسماليين وعن الاغتراب والارباك الذي ينتشر.
أقدم، من ناحيتي، دفاعاً ممنهجاً عن الحضارة غير الأوروبية.
وسندرك – مع كل يوم يمر، وفي كل مرة يتم فيها التنكر للعدالة، ومع كل ضربة هراوة من يد شرطي، وفي كل مرة يُقمع فيها العمال بوحشية لأنهم طالبوا بحق لهم، ومع كل فضيحة يتم التكتُّم عليها، ومع كل حملة استعمارية عقابية، ومع كل عربة عسكرية، ومع كل دركي وجندي ميليشيا يمر – سندرك لحظتها قيمة مجتمعاتنا الأصلية القديمة.
مجتمعاتنا الأصلية كانت مجتمعات جُماعية، ولم تكن قط مجتمعات تكد فيها الغالبية لخدمة الأقلية.
لم تكن مجتمعاتنا الأصلية مجتمعات ما قبل- رأسمالية فقط، كما أطلق عليها، ولكنها كانت أيضاً مجتمعات ضد- رأسمالية.
كانت مجتمعاتنا القديمة ديمقراطية دائماً.
كانت مجتمعات تعاونية، مجتمعات أُخوَّة.
إنني أقدم دفاعاً منهجياً عن المجتمعات التي دمرتها الامبريالية.
كانت تلك المجتمعات متجسدة على أرض الواقع ولم تكن فكرة مزعومة؛ وعلى الرغم من الأخطاء والعيوب القائمة فيها إلا أننا لم نكن لنكرهها أو ندينها. فتلك المجتمعات كانت قانعة بما هي عليه، ولم توجد كلمتي فشل failure أو نموذج مثالي avatar في قاموسها. لقد تمكنت من الحفاظ على بكورية الأمل. بينما لن نعثر في القاموس الأوروبي على كلمات يمكن أن تعبر بصدق خالص عن المشاريع الاستعمارية الأوروبية في الخارج، كما تفعل هاتان الكلمتان. (المقصود failure and avatar) عزائي الوحيد هو أن أزمنة الاستعمار لا بد أن تمضي، وأن الأمم قد تنام لبعض الوقت، ولكن الشعوب باقية.
حين أصرح بأفكاري هذه، تنطلق أصوات من أوساط معينة زاعمة أنها اكتشفت أنني أحمل في داخلي “عدواً لأوروبا” ورسولاً يدعو إلى الرجعة إلى عصور ما -قبل الأوربة.
ومن جهتي أنا، ما زلت أبذل جهداً محموماً لأعثر، إنما دون جدوى، على الموضع الذي يمكن أن أكون قد عبرت فيه عن آراء كهذه؛ أحاول العثور على موقع ربما كنت فيه قد بخست الدور الذي لعبته أوروبا في تاريخ الفكر الإنساني، أو فيما إذا كنت قد بشرت بأية رِدَّة للماضي؛ أحاول، لكن دون جدوى، العثور على الموضع الذي زعمت فيه بامكانية تحقق أية رجعة كهذه.
أما الحقيقة، فقد قلت شيئاً مختلفاً تماماً، أورده هنا، وهو أن مأساة أفريقيا التاريخية لم تكن بسبب تأخرها الكبير عن الاتصال ببقية أنحاء العالم بقدر ما كانت بسبب الطريقة التي استخدمتها أوروبا لافتعال هذا الاتصال. قلت أن أوروبا بدأت بالاتصال أو بالتحرش بالشعوب الأخرى في الوقت الذي كانت قد سقطت فيه في أيدي أكثر رؤساء الأموال خسة ونذالة. وقلت أيضاً أن سوء حظنا هو الذي جعلنا نصادف في طريقنا هذه النسخة بالذات من أوروبا؛ إن أوروبا مسؤولة أمام البشرية عن أعلى كومة من جثث الانسانية عرفها التاريخ.
وكنت قد أضفت في موضع آخر، من محاكمتي للاستعمار، أن أوروبا أسست علاقة وطيدة مع سادة الاقطاع المحليين الذين تهافتوا على خدمتها ودخلوا معها في تحالفات دنيئة قوَّت شوكة استبدادهم وعززت سلطتهم ، وهذا بدوره أسهم في إطالة العمر المفترض لبقاء هذه البنى التقليدية في المجتمع المحلي وتكريسها بأبشع الصور.
لقد قلت، وهذا يبدو شيئاً مختلفاً تماماً، أن أوروبا الاستعمارية جاءت لتطعّم المظالم التي كانت سائدة في المجتمعات الأصلية بانتهاكات حديثة، وتحقن مشاعر التمييز التي كانت موجودة قبلها بعنصرية مقيتة.
وما زلت عند موقفي من أوروبا الاستعمارية حين يشنون علي الهجوم بالمقاصد والغايات التي يدعون أن أوروبا تحققها لنا. نعم أقولها باصرار: إن أوروبا الاستعمارية تضللنا حين تحاول أن تبرر ممارساتها الإستعمارية بتجميع الأدلة المادية الواضحة على التقدم الذي جلبته الادارات الاستعمارية إلى بعض مناحي حياة البلدان المستعمَرة. وهذا ليس صحيحاً، إذ أن تاريخ المجتمعات يمكن، على الدوام، أن يشهد تحولاً وانقلاباً، وهذا لا ينطبق على التاريخ فقط، بل على جوانب أخرى في حياة المجتمعات. ولا يمكن لأحد منا أن يتوقع منحى التطور المادي الذي كان من الممكن أن تأخذه هذه البلدان لو لم تحشر أوروبا أنفها فيها، حيث ان القاعدة التقنية، لإفريقيا وآسيا، وإعادة تنظميها إدارياً، وبتعبير آخر، فإن أوربتها، (كما أُكِّد بمثال اليابان) لم تكن مرهونة بالاحتلال الأوروبي. مازلت أصر على أن تلك البلدان لم تكن بحاجة إلى أن تداس بالعقب الحديدية للجيوش الأوروبية كي تتأورب، فقد كانت قادرة على ابتداع طرق أخرى. وأنا حين أدافع عن موقفي المذكور، أستند إلى حقيقة أن الأوربة كانت في طريقها إلى التحقق في تلك البلدان، لكن التدخل الأوروبي أبطأ حركتها فهي في كافة الأحوال تشوهت بسبب السيطرة الأوروبية.
والدليل واضح وضوح الشمس، فاليوم نرى كيف أن الشعوب الأصلية في آسيا وأفريقيا هي التي تطالب بالمدارس والتعليم، بينما أوروبا الاستعمارية هي التي ترفض؛ وأن أفريقيا هي التي تطالب بانشاء المرافىء البحرية وشق الطرقات المعبدة بينما تبخل أوروبا الاستعمارية عليها في هذا الصدد. من الواضح وضوح الشمس أن المستعمَر هو الذي يسعى للتقدم إلى الأمام، بينما لا يتورع المستعمِر عن وضع مختلف العراقيل الممكنة ليس فقط لإبقاء الوضع على حاله، إنما ليشدَّه إلى الخلف.
http://www.kanaanonline.org/articles/01619.pdf