بشار العيسى: لم يكن ضياء…ذلك البياض
ابتسام بوعزيز*
(يكرّم بشار العيسى اليوم في مدينة “المحرس” و هو منفي عن وطنه منذ 28 سنة)
“تجربة بشار اضطرام أفكار و صور و ألوان و عذابات و عشق و سؤال. لقد حاول أن يهب كل ما هو نقي و حيوي في قلبه وروحه وعقله، لتظهر تجربته كدرب خشن جارح بهيج، يقع على نهايات التحمل الإنساني.”
“شخوصي أشباح آدمية تجتاز الجبال كلّها و الوديان جميعها،تحرس الكرة الأرضية في دورانها المعاكس، كي لا تندلق الأغنيات في جرار السمن الطافحة بالهيولى. بشر أشبه ما يكونون بقساوة الجدران الطينية، لهم حساسية الفراشات و عطر البابونج و أسرار الحُجب المعتقة، إنهم الكتب العتيقة الحاوية أسرار الكيمياء و طلاسم التعاويذ، كالأشياء المخبأة في صناديق الأعراس، يفوح منها عطر الرسائل الأولى و المكحلة الأولى و الخاتم الأول.
شخوصي حاملات القشّ في حرية البرية الممتدة ما بين جبال الأنديز و سهوب منشوريا، نسوة يعشقن الثياب الملونة و عطر الحناء و الأغنيات الحزينة كالرحيل. لا زمان لهم، و مكانهم المشهد البصري، حيث يأخذ خطّ الأفق مكانه على عرش الكوكب الأرضي، مرآتهم المجرة، و تخومهم البيادر في ليالي الصيف المقمرة، حيث القمة المضاءة بالأحلام و الرغبات”
هكذا يتحدث بشار عن لوحته في إحدى كتاباته (مقتطف من مونولوغ).
أمّا كيف قارب النقد تجربة بشار:
يقول خليل صفية الفلسطيني في آخر مقال كُتب عن بشار في وطنه سوريا، سنة 1979 قبل مغادرته للمنفى.
“إنّ واقعية- بشار- ليست الواقعية التسجيلية، بل هي واقعية معنية بالموقف من جانب
و متحركة كأسلوب من جانب آخر…واقعية متحركة تفيد كل ما يخدم في النتيجة موقفه و واقعه.
لقد أراد أن يصوّر الارتباط العميق بين الإنسان – امرأة- رجل – و بين الأرض… و من أجل تحقيق هذا الارتباط الجذري بين الأرض و الإنسان، قام بتبسيط و تلخيص كتل الجسد الإنساني… و من ثمّ دمج مساحات الأرض بكتل الجسد الإنساني حيث لا يمكن أن نفصل -فنيا- كتلة الإنسان عن مساحة الأرض. حيث أنّّ الحس التجريدي قد خدم واقعيته و أغناها.
وعن التحولات ضمن الموضوع الواحد في لوحة بشار يقول :
“حافظ بشار على نفس الموضوعات و استمر بمعالجة نفس العناصر الإنسانية لكن برؤية جديدة
و معالجة جديدة، حملت جوانبها رغبة الصانع في التألق بصنعته، و المبدع في البحث عن شتى السبل التي تؤدي في النتيجة إلى التأثير العميق في المشاهد…لا التأثير المباشر.
هذه الرؤية المجددة قادته أيضا لإضفاء ليس الشاعرية الخطية و اللونية على شخوصه و طبيعته فحسب، و إنما القدسية –أيضا- الممزوجة بالمحبة. إن –بشار- يحب أبطال اللوحة لذلك قدّمها بكلّ جمالية و شاعرية في الوقت الذي أراد فيه أن يكشف عن مأساتها و أحزانها. ”
أمّا الناقد العراقي فاروق يوسف في مقاله عن معرض بشار في البحرين بدار البارح سنة 2000 يقول:
“العيسى هو الابن الكوني لبيئته، ذلك لأنه يحلم تلك البيئة المحلية بخيال شروط حياته المتشظية عالميا.الصوري لديه لا يتناقض مع الذهني…ما دام قد وضعهما في فلك طقسي حرّ…لا يفرش أمامه ذاكرته الفولكلورية الجريحة، لأنّه لا يرتجي من الرسم أن يكون كتابا لسيرته الحياتية إلا في حدود ما تقدمه تلك السيرة من ثراء صوري هو في الوقت نفسه مسعى تعبيري..
…إن بشار بلوحاته يحاول أن يعري الزوال من قوته، لا لينتصر لفكرة الخلود…بل ليقشّر ذاته من محتويات ذاكرته.
إن العيسى لا ينسحب من حياته مهزوما، بل يقرر البدء بحياة أخرى محتفظا بجزء من حياته السابقة. هو ذلك الجزء الذي يعنيه و ينعشه بصريا. و هنا يكمن درس آخر مختلف في دروس الإلهام الجمالي.
إن بشار و هو يمضي برسومه إلى حريتها لا يتنكر لذاكرته المكونة من بيوت و ناس و جبال. غير أن هذه المكونات و قد عبرت من خلال مصفاة الزمن لم تعد كما هي، صارت مؤهلة أكثر للإحتفاء بجمالياتها المغايرة (و التي يسميها بجماليات مترفة)”
أمّا أستاذي التونسي محمّد بن حمودة في نص كتبه مؤخرا عن التشكيل السوري يقول :
“اعتبرت أن رهان بشار العيسى ليس أقلّ من إعطاء التصوير الميتافيزيقا التي هو جدير بها. لماذا الميتافيزيقا وما علاقتها بالأرض …؟
…إذا كان الفهم الغربيّ للميتافيزيقا يعهد لها، منذ أيام الحكيمين اليونانيّيْن («أفلاطون» و«سقراط»)، مهمّة توفير قاعدة فوق-محسوسة للحسّيّ، فإنها من منظور حسّ الأرض الذي ألهم… بشار العيسى …نقطة التّقاطع بين المرئيّ واللاّمرئيّ،… انتمت لمجال الاستيهامي والعشقي، إلى ميدان التخييل … فذات المصور-الفنان، على نقيض المصوّر-المعلّم، هي بحكم إبهامها وجروحيتها…،المستند إلى الوحدة الباطنية التي لا قيام له إلا من خلال علاقة انصهارية مع مبدأ قصي بوصفه أصل الأشياء ونموذجها الينبوعي. ولأن هذا الأصل لا يمكن محاكاته فلا يمكن أن يكون رابطة إلا على نحو مبهم، أي على نحو غير تماثلي وغير مرئي… وبحكم مركزية هذا الدور الميتافيزيقي، أي الذي يعلو على ارتهانات العرضي، فقد تبيّن له أنّ الحسّي لا ينقضي حين ينقضي وأنّ الشيء عينه ليس المطابق… فهو قد أقبل على التصوير مستجيبا لنداء حسّ الأرض واستقر في التصوير متلذذا هذه الاستجابة عينها وهي اليوم موطنه الذي يستكنّ إليه بالرغم من إقامته في باريس. ”
خاتمة: إثر الشهادة التي قدّمها بشار في دورة منابر السنة الفارطة و العرض التصويري الذي رافقه فيلم طريق الحرير ، قررت أن أعدّ رسالة الماجستير عن بشار ، فدخلت عالم و حياة و تجربة هذا الفنان، الإنسان و اللوحة ، تحسست اغترابه و قلقه و شجونه و حساسيته وعايشت حتى تطور انجاز لوحته .
بشار ليس تشكيليا و حسب، فهو يكتب النقد التاريخي و يكتب النص الشعري و سألقي على مسامعكم مقتطف مما كتبه في مقدمة دليل معرض في صالة السيّد بدمشق ، سنة 1995 وهو المعرض الوحيد الذي أقامه في بلده بعد غياب 15 سنة.
“لم يكن ضياء…ذلك البياض
و لا كان ترفا ذاك الشغف الطفولي بتناوب الألوان على صفحة جبال طوروس، في امتدادات الأرض تحت ثقل نهارات تموز.
كما لم تكن صدفة تلك الصرخة التي أطلقها أول وليد خرج إلى ظلمة الضوء…
فحبا خشية أن يسقط من ‘المجرة’
كأنه شغب الرّؤيا تلك اللهفة الأولى التي خلّفها ‘المشهد’ بياض المئذنة المختبئ خلف التلال /الأفق، كذلك الوديان و الثلمات و الشجيرات و كلّ الأشياء التي تتداعى الآن في الذاكرة.
منذ 25 سنة لبشار المنفي حضوره في صالات أوروبا ، و للوحته ملامحها التي تشبهه، تحفظ نبضه وتبرز رهافة حسّه و نستشف منها مهارة صنعته ، تغترف مشهديتها من معين ذاكرته الحضارية لمنطقته “ميزوبوتاميا”، والمرسومة في خياله و المتطبعة في ملكاته الحسية التي تختزن كلّ من ذاكرته البصرية و السمعية والشمية. مشهدية تستمد موازينها من تواشج الذاكرة و الخيال مع المكان الاول، مع الأطياب، تراوح بين الألوان الزاهية الصارخة المضيئة، التي تعكس الهوية الضائعة و الانتماء المنشود ، الرافضة لمآسي البشر والحاملة لمناخ و شحنات حميمية تستفز الملكات الاستطيقية لمتقبلها ، فيها الجذور و الأرض و المرأة و العشق و حبّ الحياة ، محرضاته في التعبير منبت رأسه/المكان و القراءة التاريخية و المقامات العراقية وشعر السّياب والأغنية الملحمية و الأساطير الكردية .
لوحته لا تلتزم بأي إيديولوجيا ، بل تعكس ثقافته البصرية و فلسفته الحياتية و قيمه الشرائعية /الأخلاقية للجمال، التي مازلت أحاول اقتفاء أثرها من خلال بحثي، و الذي إلى الآن مازلت أبحر فيه و لا أعرف إلى أي شاطئ سيرسي بي.
و مهرجان “المحرس” إذ يكرمه، يكرم بذلك تجربة فنية برأيي تشبه بيوت و شوارع و فضاءات المحرس و أشجار الزيتون، و الناس الذين أحسّ بالكمّ الهائل في حضورهم بحب في لهفة بشار.
*أستاذة فنون تشكيلية
باحثة ماجستير في علم الجمال
مداخلة ألقيت في حفل تكريم الفنان السوري بشار العيسى بمهرجان المحرس الدولي الواحد والعشرون للفن ـ المحرس ـ تونس. 31/07/2008
خاص – صفحات سورية –