هامشيّة حقوق الإنسان: الألـعاب الأولمبيّة نموذجاً
هارولد هيمان *
رهبان يتظاهرون ضدّ الصين (أ ف ب)رهبان يتظاهرون ضدّ الصين (أ ف ب)يدور كثير من اللغط حول «تنازلات ساركوزي» وقبوله الذهاب إلى بكين من دون شروط في ما يتعلق بحقوق الإنسان. وقد زادت عاصفة الانتقادات بعدما كشفت الصين عن تصميمها على «إبقاء الرقابة على بعض مواقع الإنترنت» في المراكز الصحافية المخصصة لمتابعة الحدث الأولمبي. في الوقت الذي تنصبّ فيه جهود دول العالم على دراسة أفضل السبل لحماية الأرض من الاحتباس الحراري والتدمير المنهجي الذي يصيبها بسبب التلوث الصناعي، يبدو أن الاهتمام بحقوق الإنسان، بمفهومها الشامل ذي الأبعاد الإنسانية، يتراجع أمام مصالح الدول الاقتصادية التي جعلت منها العولمة المحرك الأساسي لعلاقات الدول.
وها هي الألعاب الأولمبية التي تنظّمها الصين في ظل الحديث عن «حقوق الإنسان» تغدو مجهراً للتفضيلات التي كرّستها القوى الكبرى في نظام اهتماماتها.
ورغم الاهتمام الذي يظهر بين حين وآخر بمصير الأرض والبيئة وحقوق الإنسان، فإنه يبدو اهتماماً تجميلياً إلى جانب اهتمام «كبار العالم» بالجوانب الاقتصادية في ظل التهديدات التي تحوق بالاقتصاد العالمي بسبب الدين الأميركي المتعاظم والذي بات يسمى «الانفلاش الأميركي على حساب العالم».
ومع هذا، فإنّ العالم لم يتغيّر؛ المنافسة الاقتصادية لا تزال على أشدّها بين القوى الصناعية الكبرى حاملة لواء حقوق الإنسان التي باتت في أيديها «أداة سياسية» أشبه بمنجنيق تستعمل في السياسة الخارجية متى أبدت ممانعة صغيرة في وجه الهيمنة العالمية. وقد سمحت مفاوضات المنظمة العالمية للتجارة الفاشلة بتبيان حدة التنافس بين القوى العالمية.
والأمثلة كثيرة: تخوض الولايات المتحدة وفرنسا منافسة مهووسة لبيع المفاعلات النووية في شتى أنحاء العالم، ولا تمنعها منافستها التجارية المميتة من التوافق على ملفات سياسية أساسية، مع التشديد على أنه «لا شيء يتجاوز حقوق الإنسان في أولوياتها». إلا أنه حين يصدر البرلمان الأوروبي قراراً ينتقد سجلّ مصر في حقوق الإنسان، تسارع هذه الأخيرة لطرح مناقصة لبناء مفاعل نووي.
وحين ينتقد البعض بيع واشنطن ٧٢ طائرة «تايفون» للمملكة العربية السعودية يكون لذلك تبرير علني هو «محاربة الإرهاب»، بينما يهمس وراء الكواليس أن «ارتفاع سعر النفط خلق طفرة مالية لدى الدول المصدّرة ويجب استيعابها».
وقد بدأت بعض الشرائح من الرأي العام الغربي غير قادرة على فهم ما يجول في خلد زعمائها وهرولتهم وراء أنظمة تدوس على حقوق الإنسان وتكبّل شعوبها في أطر متخلفة، ولا يترددون في إبرام عقود صفقات هائلة من الأسلحة تساهم في زيادة التخلف الاقتصادي والنمو العام للبلد وتؤهب لنشوء فكر متطرّف يزيد من الهوّة التي تفرّق بين الغرب وهذه العوالم.
قبل عام، وقف الغرب يتفرج على جولات نيكولا ساركوزي وجورج بوش في المنطقة العربية يعرضون بيع أسلحتهم الفتاكة ومحطاتهم النووية، ويستقبلهم زعماء سجلّهم في حقوق الإنسان محمّل بوزر ما فعلوه ويفعلونه كل يوم. وقد سبّب استقبال معمّر القذافي بعض النزق لدى الرأي العام الغربي الذي يرى أن سياسة الغرب الخارجية باتت أقرب إلى تكتيك «تسويق وهيمنة على أسواق» من سياسة مصالح تضع في أولوية اهتماماتها «حقوق الإنسان الحقيقية» لا حقوق زعماء الدول التي يتعاملون معها.
وكانت هذه السنة قد بدأت بتساؤل جارف حول ماهيّة حقوق الإنسان في الدبلوماسية الغربية. فالرئيس الفرنسي لم يُعرها أي اهتمام خلال زيارته إلى المملكة العربية السعودية، رغم أن أحد وعوده الانتخابية هو أن تكون حقوق الإنسان أحد أسس سياسة فرنسا الخارجية.
زار بوش أبو ظبي وطالب بالإسراع في تحقيق «الإصلاحات السياسية في المنطقة»، إذ إن الدبلوماسية الأميركية ترى «تقدماً ملموساً» في مجالات «الحرية» لدى جميع حلفائها مثلما تفعل الدبلوماسية الفرنسية في ما يتعلق بأفريقيا.
أي تألق يمثل هذا بالنسبة إلى حقوق الإنسان؟ أما بالنسبة إلى دولة الصين الشعبية القوية، فإن الإليزيه والبيت الأبيض لا يذكران الديموقراطية أبداً، ويفضّلان عوضاً عن ذلك، التحدث عن حقوق الإنسان، وهذا ما يسمح لهما بالتباهي بإطلاق سراح بعض المنشقّين بشكل شبه خفيّ، بعيداً عن الإعلام.
بينما يرى النظام الصيني أن تراجع عتبة الفقر هو تقدم في مجال حقوق الإنسان، فتسارع كل من باريس وواشنطن لتوقيع عقود شرهة مع بكين كمكافأة لجهود الحكومة الصينية في مجال حقوق الإنسان، ويعلن الرئيسان مشاركتهما في افتتاح الدورة الأولمبية المفترض أن «تكرس نجاح الصين».
وعلى سبيل الذكر والتشبيه، فإنّ الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك تحدث بالمنطق نفسه في تونس حين قال إنّ «الغذاء هو أول حقوق الإنسان». لقد باتت حقوق الإنسان أشبه بعملة مقايضة على الساحة الدولية تتبادلها الدول بكل استخفاف واحتقار، مع أن هذه الحقوق هي مبدئياً «ملك البشرية»، والوصول إلى حقوق الإنسان يوجب «بالضرورة» وجود الديموقراطية.
أتكلم هنا على الديموقراطية الحقيقية الحاملة إلهاماً مستمداً من الهيلينية اليونانية والأنكلوساكسونية والثورة الفرنسية في آن واحد. هذه الديموقراطية التي وإن كانت غير كاملة، تظلّ مبنية على أسس ثابتة من فصل السلطات ومبدأ الانتخاب مع سلطة مضادة تشكلها المعارضة إلى جانب احترام الرأي الآخر وضمان حرية التعبير، ما يسمح لحضارات محتلفة بأن تتقبلها وتنسجم معها.
يمكن لحضارات بعيدة أن تنسجم مع هذه الديموقراطية إذا كان المروجّون لها منسجمين مع هذه المبادئ. إن القبول بتجزئة حقوق الإنسان مع أكثر الأطراف تغييباً لهذه الحقوق يحمل في طياته أخطاراً ماكرة وغدّارة منها: ــ سوف تتعلم الأنظمة الاستبدادية فن مخادعة الرأي العام العالمي. ــ سوف تضطر دبلوماسيات الدول الديموقرطية بحقّ إلى أن تجهد لتخفّف من وطأة كل ما يقوم به الاستبداديون حول العالم. ــ سوف يدفع هذا بالرأي العام الغربي إلى حالة قرف تجعل من المواجهة بين إيديولوجية حقوق الإنسان والسياسة الخارجية أمراً لا مفر منه.
لذا نطلب من حكوماتنا أن تكون لديها الشجاعة الكافية للتكلم باسمنا والاعتراف لحكام الأنظمة الاستبدادية بـ: أننا ديموقراطيون وأنهم ليسوا بديموقراطيين، ــ أن كونهم أنظمة ديكتاتورية لا يعفيهم من مسؤوليات ضمن المجموعة الدولية.
إن اعترافات مماثلة تسمى في واقع الأمر «واقعية في السياسة الخارجية».
فلنقل، نحن الشعوب الغربية لهذه الشعوب التي تعيش تحت سقف الاستبداد والديكتاتورية والتيوقراطية و«النهبوقراطية»: «إننا لا نسعد البتّة بالاستماع إلى حكامنا يكيلون المديح لحكامهم في مجال حقوق الإنسان»، فلتكن هذه هدية شعوبنا لهذه الشعوب.
(ترجمة بسام الطيارة)
* صحافي فرنسي ــ أميركي