صفحات سورية

صلاحيات المحكمة الجنائية الدولية

null
توفيق المديني
أثارت مذكرة التوقيف للرئيس السوداني عمر حسن البشير التي أصدرها بحقه أخيراً المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية الارجنتيني لويس مورينو اوكامبو، جدلاً ساخناً في أوساط النخب الفكرية والسياسية العربية، حول صلاحية المحكمة الجنائية الدولية، ولاسيما ان المجتمع الدولي الذي تهيمن عليه القوى العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، يعيش مرحلة من التراجع لجهة تطبيق أسس القانون الدولي، الأمر الذي يعطي للمشككين بنزاهة المحكمة والعدالة الدولية مبرراً كافياً باتهام هذه الأخيرة باستخدام المعايير المزدوجة.
بداية لا بد من التأكيد ان المحكمة الجنائية الدولية انشئت بموجب معاهدة دولية ملزمة للدول التي صدقت على الانضمام إليها دون غيرها، وقد سميت هذه المعاهدة باسم نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية، الذي تم اعتماده في روما في 17 حزيران 1998. ويذكر الخبير في القانون الدولي الدكتور محمد سليم العوا، ان الدول التي صدقت على هذه المعاهدة بلغ عددها حتى 1/6/2008، 106 دول، منها 30 دولة افريقية، و13 دولة آسيوية، و16 دولة أوروبية شرقية، و22 دولة من أميركا اللاتينية ودول البحر الكاريبي، و25 دولة من أوروبا الغربية وغيرها، ويدخل تحت تعبير (وغيرها) الوارد في البيان الرسمي للدول الاعضاء في نظام روما، دولتان عربيتان، هما: الاردن وجيبوتي، ولم تصدق أي دولة عربية سوى هاتين الدولتين على نظام المحكمة.
وانطلاقاً من هذا النص الصريح، هل يمكن محاكمة المسؤولين عن الحرب الخارجة عن القانون الدولي ضد العراق، والحال هذه هم المسؤولون الأميركيون والبريطانيون؟ بكل تأكيد لا يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تنظر في جرائم الحرب، والاعتداءات على حقوق الإنسان المرتكبة في العراق، أو جرائم الحرب المرتكبة في الأراضي الفلسطينية، ولا واحدة على الأرجح، لأن الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وإسرائيل وضمن حدود مختلفة هي من الدول المسيطرة، ولم توقع على المعاهدة التي بموجبها تشكلت المحكمة الجنائية الدولية. لكن عدم التصديق على المحكمة الجنائية الدولية، لا يعني ان الحكام أصبحوا يتمتعون بالحماية المطلقة من العقاب، أو جزاء التاريخ.
المحكمة الجنائية الدولية لا يمكنها التدخل مثلاً إلا إذا كانت الدولة التي وقعت فيها الجريمة والتي ينتمي إليها المتهم قد صدقت على هذه المحكمة، كما أنه يمكن لمجلس الأمن تعليق التحقيقات التي يجريها المدعي العام. كما ان المحكمة الجنائية الدولية ليست لها صلاحيات، إلا إذا كانت الدول لا تمتلك الإرادة أو الوسائل لملاحقة مرتكبي الجرائم.
وفي وضع السودان، تصدّى وزير العدل السوداني للمدعي العام من خلال تقديم دفوعات قانونية ركز فيها على عدم أهلية المحكمة للنظر في القضية بحجة ان السودان لم يصادق على قانون المحكمة، وبالتالي ليس من حقها النظر فيها، فضلاً عن اتهامه للمدعي العام بتجاهل قواعد القانون الدولي في ان الاختصاص ينعقد في أية دولة لقضائها الوطني لمحاكمة كافة مَن يرتكبون جرائم داخل أراضيها من مواطنيها أو غيرهم، وان دور المحكمة مكمل وليس بديلاً للقضاء الوطني، ولا ينعقد اختصاص المحكمة الجنائية الدولية في أي بلد إلا إذا ثبت بالدليل القاطع أنها غير راغبة أو غير قادرة على محاكمة مرتكبي الجريمة.
وتأخذ أنظمة المحكمة الجنائية الدولية في الاعتبار هذا الواقع، إذ تنص على ضرورة أن يعكس تشكيل المحكمة تنوّع الأنظمة القانونية من جهة، وعدم تدخل المحكمة إلا في حال قصور القضاء الوطني من جهة أخرى. وهكذا عندما تكون سلطة الدولة ديموقراطية، وتحافظ على الضمانات القانونية لمواطنيها، فليست هناك مشكلة، إذ بإمكان هذه الدولة التي وقعت الجريمة على أراضيها أن تحاكم مواطنيها بموجب المؤسسات الوطنية التي تشكل أفضل ضمان لحماية حقوق المواطنين.
غير أن الاشكالية تبرز في العالم الثالث بعامة، والعالم العربي بخاصة، حيث طبيعة الدولة هي من النمط التسلطي والشمولي، فضلاً عن ان الحكام والأجهزة يعتبرون أنفسهم فوق سلطة القانون، وحيث ان الممارسات الإجرامية التي ميّزت هذه الديكتاتوريات العسكرية والأمنية ضد شعوبها، وأقلياتها، وتدهور حقوق الإنسان، وغياب مبدأ العدالة والمساواة، وانتشار الفساد داخل الاطر السلطوية بلا استثناء، كل ذلك يجعل من اضطلاع المحاكم الوطنية بإقرار العدالة مسألة مستحيلة، وهذا ما يدفع بالأفراد والمنظمات غير الحكومية ولجان حقوق الإنسان إلى تنسيق جهودهم للتعبير بقوة عن مطالبهم، دعماً لتحقيق العدالة في بلدانهم، التي كانت دولهم قد اعتمدتها شكلياً في دساتيرها فقط قبل أن تدفنها خلال العقود الأربعة الماضية من عمر الدولة التسلطية العربية.
لا يزال القانون الدولي مبنياً على مبدأ سيادة الدول، ولا تزال الدول والحكام يحتفظون بوسائل حماية فعالة. غير ان هذه الحصانة التي يتمتع بها رؤساء الدول والديبلوماسيون ليست حصانة مطلقة، ولا تشمل فئة خاصة من الجرائم هي على جانب من الأهمية، مثل جرائم ضد الإنسانية أو الجرائم الجماعية، التي لا حصانة لها، لأنها من الجرائم التي لها وضعها الخاص في القانون الدولي. وهناك قواعد في القانون الدولي لا يجوز التنصل منها، وتشمل هذه القواعد السامية منع الجرائم ضد الإنسانية وللدول كافة الصلاحية في محاكمة المتهمين بمثل هذه الجرائم عملاً بمبدأ الصلاحية الشاملة.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى