صفحات سورية

رسالة مفتوحة حول المحكمة الجنائية الدولية

null
عبدالله تركماني (*)
بعد ما يقرب من ستين سنة على صدور “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” لم تصل الشرعة الدولية لحقوق الإنسان ـ بعد ـ إلى توفير الآليات الفعّالة لبلوغ الأهداف المنشودة من الإعلان والمواثيق الأخرى، فمن المعروف أنّ الآليات المعتمدة لا تتعدى إعداد تقارير ومناقشتها وإصدار توصيات بشأنها. وقد كان هذا الخلل مصدر قلق العديد من النشطاء في مجال حقوق الإنسان الذين سعوا إلى إصلاح النظام المعمول به في إطار هيئة الأمم المتحدة وجعله أكثر فعالية وتجاوباً مع مطامح الشعوب إلى الحرية والعدالة والحكومات الرشيدة.
وفي هذا السياق كانت المطالبة بـ”إنشاء المحكمة الجنائية الدولية” أحد أهم المطالب لتوفير الآليات والضمانات الكفيلة بالوقاية من الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان ومحاسبة مرتكبيها والمسؤولين عنها ومعاقبتهم. فما هي الأسس التي تقوم عليها المحكمة؟ وما هي صلاحياتها؟ وما هي مواقف الأطراف الدولية والإقليمية منها؟
لقد جاءت المحكمة في العام 2002 استجابة للمطالبة المستمرة بتعقب مرتكبي الجرائم بحق الإنسانية، فقد تضمنت المعاهدة تعريفاً واضحاً ومحدداً لهذه الجرائم: “كل الجرائم التي ترتكب في إطار هجوم واسع النطاق ومنهجي وموجّه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين ويشمل جرائم القتل المتعمّد والإبادة والاسترقاق وإبعاد السكان أو نقلهم بالقوة والسجن أو الحرمان الشديد من الحرية البدنية والتعذيب”.
وفي كل الأحوال تكمن أهمية المحكمة الجنائية الدولية في أنها المحكمة الأولى التي تختص بجرائم الحرب والإبادة الجماعية والانتهاكات المنظمة لحقوق الإنسان في أي مكان من العالم. وهي لا تلغي الأنظمة القضائية الوطنية ولا تتدخل إلا عندما تعجز هذه المحاكم عن التحقيق في الجرائم الخطيرة الموصوفة أعلاه، غير أنّ سلطاتها تطال حتى رؤساء الدول عندما ترتكب جرائم ضد الإنسانية.
ومن الملاحظ أنّ الاعتراض على تأسيس هذه المحكمة جاء من حكومات الدول ذات السياسات المنافية لحقوق الإنسان، ومن الولايات المتحدة الأميركية المنهمكة في فرض هيمنتها على العالم، وبطبيعة الحال من حكومة إسرائيل التي تمارس إرهاب الدولة ضد الفلسطينيين. وتنبع معارضة أغلبية الحكومات العربية ( لم تصدّق على المعاهدة سوى المملكة الأردنية الهاشمية، بينما وقّعت النظام الأساسي مبدئياً 13 حكومة) من الادعاء بأنّ المحكمة تشكل خرقاً لمبادئ السيادة الوطنية للدول، في حين أنّ السيادة الوطنية الحقة هي سيادة الشعب والمؤسسات الوطنية المنتخبة والمستندة للإرادة الشعبية الحرة والملتزمة بمبادئ حقوق الإنسان، ولا يمكن بأي حال تقليص مفهوم السيادة ليقتصر ـ عملياً ـ على سيادة الحاكم العربي وتحويلها شعاراً للاستبداد السياسي وكبت الحريات العامة.
ومن المفارقات اللافتة للانتباه أنّ إدارة الرئيس الأميركي السابق وقعت المعاهدة لأنّ ذلك، حسب تعبير كلينتون، يقع ضمن تقاليد “الريادة الأخلاقية الأميركية في العالم”، بينما رفضت إدارة الرئيس بوش المصادقة على المعاهدة بل انسحبت منها نهائياً. ويبدو أنّ الرفض الأميركي لقيام المحكمة يعود لأسباب خاصة، هي: تفادي أي خطر أو تهديد قد يلحق وكلاء الشبكات الأميركية والعاملين فيها والمنخرطين في نشاطات وفاعليات سرية أو مكشوفة، كما توضح في العراق، يمكن أن تطالها المساءلة والملاحقة القضائية الدولية. في حين أنها تطالب مجلس الأمن الدولي بتغطية مذكرة المحكمة الجنائية الدولية بشأن الرئيس السوداني عمر البشير!!
ومما يدهش المرء أنّ الدول العربية قد تقاعست عن المصادقة على معاهدة المحكمة الجنائية الدولية بالرغم من الفرصة التي توفرها لمحاسبة المجرمين الصهاينة على مجازرهم المتواصلة ضد الشعب العربي الفلسطيني، وبالرغم من أنّ نصوص المعاهدة لا تتعارض مع دساتير الدول العربية أو مع القضاء الوطني لأي قطر عربي، وكل ما هنالك أنّ الدول العربية مطالبة بإجراء بعض التعديلات التشريعية في قوانينها الجنائية على ضوء النظام الأساسي للمحكمة الدولية، خصوصاً في ميدان تعريف الجرائم الدولية والعقوبات اللازمة لها. فالمحكمة لا تمثل سيادة أجنبية مستقلة عن إرادة الدول، بل إنّ الدول الأعضاء هي التي أنشأتها بإرادتها بموجب اتفاق دولي نص صراحة على أنّ المحكمة ذات اختصاص تكميلي وليس سيادياً على القضاء الوطني. ويبدو أنّ خشية بعض الأوساط العربية الحاكمة تكمن في الحرص على الحصانة من الملاحقة القانونية، خصوصاً أنّ المعاهدة لا تستثني من الملاحقة رؤساء الدول وحكوماتها والوزراء والنواب وضباط الأمن والقائمين على التعذيب والمنتهكين لحقوق الإنسان.
إنّ المؤسسة التي تتحفظ الحكومات العربية على إنشائها ليست هيئة أو مجلساً تتخذ فيه قرارات لها الصفة السياسية، بل هي محكمة جنائية تحكم بموجب القانون الذي أنشأها والقوانين الوطنية والدولية وشرعة حقوق الإنسان والأدلة والقرائن والمرافعات التي يدلي بها أمامها من قبل جهتي الاتهام والدفاع على حد سواء. فهل نحن خائفون أن نقف أمام محكمة لنترافع ونقارع الحجة بالحجة ونحتكم لشرعة القانون ومبادئ العدل والإنصاف بالنسبة لأي اتهام يمكن أن يوجّه إلينا؟ أم أننا خائفون من أن نقارع خصومنا بالحجج والبراهين؟
(*) كاتب وباحث سوري مقيم في تونس
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى