صفحات سورية

“قصة مدينتين” لو أن غزّةَ يبتلعها البحر

null
وهيب أيوب
بعد توقيع اتفاقية أوسلو في أيلول عام 1995، كنتُ برفقة أحد الأخوة الفلسطينيين من القدس المحتلة، الذي بادرني بالقول ودون مقدمات: هذه خيانة وعرفات باع القضية الفلسطينية وسيحاسب على ذلك. قلت لصديقنا المقدسي، لا تتسرّع بالحكم مع أنني لست ممن يؤيدون عرفات في سياساته ولا نهجه داخل منظمة التحرير، لكني اعتقد أن هدف إسرائيل الأساسي من تلك الاتفاقية هو إيجاد شرخ بين الفصائل الفلسطينية في منظمة التحرير وداخل الشعب الفلسطيني لما تعلمه إسرائيل من إجحاف كبير بحقوق الشعب الفلسطيني تحتويه الاتفاقية، إضافة لمدى الغموض الذي يكتنف كل بندٍ من بنودها. وبالرغم من كل ذلك فإن إسرائيل باعتقادي لم تكن تنوي تنفيذ الاتفاقية، على أمل نشوء صراع واقتتال فلسطيني- فلسطيني يجعلها في حلّ من أمرها، ويجعل العالم أجمع الذي يدعم القضية الفلسطينية يرى أن هؤلاء لا يستحقون دولة.
لهذا كان واضحاً أن إسرائيل تفاوض من أجل التفاوض وليس بهدف الوصول إلى حل، وقد أوضح ذلك رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق شامير بقوله: سنبقى نفاوض حتى آخر العمر.
ثم أردفتُ قائلاً لصديقنا، سوف اعتبر ياسر عرفات خائناً بالفعل كما تقول في حال تحققت أهداف إسرائيل من الاتفاقية، وهو نشوب صراع واقتتال بين الفلسطينيين، وهذا سيكون بداية نهاية القضية الفلسطينية، وهو ما يتحمل مسؤوليته عرفات وفريقه الموقِّع على الاتفاقية.
ثم انتفض قائلاً: ومتى إذن ستتحرّر فلسطين؟
قلتُ له: ليس بعد… عندما تتحول الدول العربية المحيطة بإسرائيل إلى واحة من الديمقراطية والعدل والرخاء والحرية، ويبات الفلسطينيون يفرّون من ضنك العيش ومن الظلم الإسرائيلي قاصدين تلك الدول، عندها فقط يبدأ العد التنازلي لاضمحلال الدولة العبرية كدولة خاصة باليهود. فردّ علي بالمثل الشعبي المعروف “عِيش يا كديش”. قلتُ له: الله يسامحك… لا بأس هذه قناعتي.
وللحق والتاريخ، استطاع عرفات بدهائه المعهود إدراك الملعوب الإسرائيلي، آخذاً بالحسبان إمكانية تحقيق مكاسب ولو جزئية، على مبدأ خُذ وطالب. إلا أن الشيء الأهم هو إمساكه بصمام أمان القضية الفلسطينية، وهو عدم الانجرار تحت أي ظرفٍ من الظروف لاقتتال فلسطيني داخلي، واعتبار الدم الفلسطيني خطاً أحمراً ممنوعٌ تجاوزه، وهو ما كانت تراهن عليه إسرائيل وتنتظره بفارغ الصبر، إلى أن قطعت الأمل أخيراً، ونظرت إلى عرفات بمثابة العقبة الكأداء التي تحول دون تحقيق أهدافها، فعملت على تصفيته بالسم المؤدي للموت البطيء، على حد ما يؤكده الفلسطينيون وغيرهم.
هذا الخط الأحمر المُحرّم على كافة الفلسطينيين اجتيازه، وهو اقتتال الأخوة واستباحة الدم الفلسطيني، لم تُقم له حركة “حماس” أي اعتبار، واعتبرت أن السلطة والاستئثار بكل شيء فوق كل الاعتبارات، واستباحت الدم الفلسطيني بأبشع صور الوحشية والهمجية في غزّة من اعتقالات وتعذيب وقتل على مرأى من العامة، وإلقاء البعض بعد تكبيل أيديهم وأرجلهم وإغماض أعينهم من الطوابق العليا ليلقوا مصيرهم بأساليب يندى لها الجبين، وتحققت النبوءة، ولكن معكوسة، فبدل أن يفرّ الفلسطينيون من ظلم الإسرائيلي باتوا يلجؤون إليها من ظلم إخوانهم الفلسطينيين. مبروك لـ “حماس” لقد تم تحرير غزّة…!
غزّة التي كانت تُقلق رابين في منامه لدرجة أنه كان يقول: أتمنى أن أصحو يوماً وأرى غزّةَ وقد ابتلعها البحر…، لكن “حماس” كانت أسبق من البحر، واكتسحت بأمواجها الهائجة المُسلّحة المنفلتة من عقالها شوارع غزّة، فأغرقتها رعباً وخوفاً وتنكيلاً بإخوانهم من حركة فتح، وسمّت ذلك، التحرير الثاني لغزّة..! وسجّلت سابقة غير معهودة في تاريخ القضية الفلسطينية بأن تدفع بفلسطينيين آخرين للاستجارة بعدوّهم المحتل، إسرائيل… مبروك مرة أُخرى لحماس…
فأنتم حرّرتم غزّة مرتين، مرة من العدو الإسرائيلي ومرّة من العدو الفتحاوي!
لا بأس، فالشيء بالشيء يُذكر، فنظرائكم في “حزب الله” الإسلامي، ولكن بنكهة أُخرى، قام بتحرير الجنوب من العدو الإسرائيلي، ثم قام لاحقاً بتحرير بيروت من العدو الـ14 آذاري..!
بيروت التي أذاقت مقاومتها الوطنية العدو الإسرائيلي أثناء حصاره لها عام الـ 82 مُرَّ الهزائم، وطردته منها شرَّ طردة، يأتي لاحقاً من يُفترض أنهم من أبنائها “حزب الله” ليجتاحوها ويبتلعوها ويذلّوها. لكن بيروت عصيّة على الإذلال وعلى كل من عاداها وحاول استباحتها.
الآن يطمئن الإسرائيليون ويهدؤوا بالاً، فحماس مشغولة باستكمال تحرير غزّة من الأعداء الفتحاويين، و “حزب الله” مُنهمكٌ بتحرير بيروت ولبنان من الأعداء الآذاريين.
هنيئاً لكما… “حماس” و “حزب الله”، لقد وفَّرتم على البحر في غزّة وفي بيروت تلطيخ سمعته بإغراق المدينتين وابتلاعهما، وأطفأتم هواجس رابين في قبره وأرحتم عظامه، فماذا بعد…؟

وهيب أيوب
الجولان المحتل – مجدل شمس
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى