عن سمير القنطار واليه
محمد علي الأتاسي
كان هناك في عودة الأسرى وجثامين الفدائيين اللبنانيين والعرب جانب رمزي يتجاوز الواقع اللبناني ليلفّ المشرق العربي برمته، ويعود بنا إلى فترة ماضية من تاريخ الثورة الفلسطينية ومن العمل الفدائي المسلح ومن خصوصية النشاط السياسي والتنظيمي الذي كان سائدا قبل ظهور المقاومة الإسلامية في لبنان عام 1982. يتصل هذا الجانب اتصالاً وثيقاً بالمآلات التي انتهت إليها الأنظمة المرتبطة بالقومية العربية بعد حرب 1967 وانكسار مشروع بناء الدولة الحديثة ودخول المنطقة العربية عصر الحقبة النفطية. حضور هذا الجانب الرمزي من خلال قوافل الجثامين المغطاة بأعلام أكثر من دولة عربية، لم يكن يوازيه إلا غياب سؤال في أفواه الخطباء والمتحدثين المحتفين بالمقاومة، يلامس من قريب أو من بعيد الهموم العربية الأخرى المتعلقة بسؤال الحرية في معناه الأشمل، المرتبط ليس فقط بتحرير أسرانا من سجون العدو، ولكن بتحرير معتقلي الرأي والضمير في سجوننا الوطنية، وبتحرير شعوبنا من قيود التبعية والتخلف والاستبداد.
لقد شكّل العمل الفدائي الفلسطيني بالنسبة الى جيل عربي بأكمله في لحظة تاريخية معينة، وخصوصاً بعد معركة الكرامة عام 1968، رداً شافياً على سؤال الهزيمة والتخلف والعجز في مواجهة الغطرسة الإسرائيلية، وكان لا بد للأسف من احتلال بيروت عام 1982، من دون أن تخرج في العواصم العربية تظاهرة واحدة، حتى يلوح من جديد سؤال النهضة الأول المرتبط بالتقدم والديموقراطية والمشاركة السياسية والإصلاح الثقافي والديني. لكن، كما غطّت الايديولوجيا اليساروية الاحتجاجية على هذا السؤال في أعقاب حرب 1967، عادت الايديولوجيا الإسلاموية لتفعل الشيء نفسه بعد حرب 1982. وجاء سقوط بغداد في العام 2003 من دون مقاومة تذكر، ليعيد من جديد تذكيرنا بالسؤال النهضوي الأول وبعجزنا عن تقديم أيّ إجابات شافية عنه.
من حق لبنان اليوم أن يفرح بتحرير أسراه وبقدرة مقاومته الإسلامية على الصمود في وجه آلة الحرب الإسرائيلية ونجاحها في امتحان كسر الإرادات. لكن أن يتم تصوير الأمر على أنه بداية النهاية لإسرائيل وأن نموذج المقاومة الإسلامية في واقعه المحلي وامتداداته الإقليمية، هو النموذج الأمثل عربياً وإسلامياً، ليس فقط في المواجهة العسكرية مع إسرائيل، ولكن في النموذج الحضاري وفي العمل السياسي والحزبي وفي الزهو بالقائد وفي شخصنة العلاقة بينه وبين جموع الناس، فإن في هذا ما يستدعي الخوف من المستقبل، ليس فقط على المقاومة ولبنان ولكن على مصير المنطقة بأسرها.
في الحقيقة، لم تكن لديَّ الرغبة في البداية أن أتطرق الى هذا الموضع الشائك خوفاً من أن أتهم بتعكير أجواء الفرحة بعودة الأسرى وفي مقدمهم سمير القنطار، لكن كان يكفي أن أقرأ المقال الجميل والعميق الذي كتبه الزميل حسام عيتاني في جريدة “السفير” بتاريخ 23/7/2008 تحت عنوان “معركة واحدة”، لكي أحزم أمري وأمضي قدماً في هذا الاتجاه.
كتب حسام عيتاني مذكّراً بالآتي: “هي معركة واحدة. هي معركة الحرية في المشرق العربي. معركة صياغة وعي حر يقول بحق اللبنانيين والعرب في العيش بكرامة لا تنتهكها أحذية الاحتلال الإسرائيلي والأميركي، ولا تنتهكها أيضا أنظمة وقوى سياسية مسلحة تعمل، من حيث تدري أو لا تدري، على مد الاحتلال بمبررات البقاء وأسباب التشبث برؤاه السياسية والأمنية للمنطقة وللشعوب العربية. هي معركة واحدة من أجل تحرر العرب من مركّبات النقص والعقد الطائفية والدينية والانضمام بعد طول تأخر إلى مسيرة الحضارة الإنسانية”.
وقع كلمات حسام عيتاني حول وحدة المعركة، ذكّرني بأحاسيس مشابهة انتابتني قبل سبعة أعوام وأنا أقرأ في جريدة “السفير” نفسها بتاريخ 14/11/2001 مقالاً عنوانه “الديموقراطية هي البديل من اليأس” كتبه سمير القنطار يوم كان لا يزال معتقلاً في سجن نفحة في صحراء النقب. لحسن الحظ، وجدت بين أوراقي الشخصية المقال محفوظاً بعناية شخص خضّته، وهو في سجنه العربي الكبير، كلمات عميقة ومؤثرة لمعتقل عربي في سجون الاحتلال الإسرائيلي. فماذا قال سمير القنطار في هذا المقال الذي كتبه بعد شهرين تقريباً على هجمات 11 أيلول ومع ظهور تورط تنظيم “القاعدة” في هذه الهجمات، وقبل أن يبدأ جورج بوش حربه المجنونة على العراق؟
كتب سمير القنطار: “إن أزمة المجتمعات العربية التي هي في حد ذاتها أزمة أمتنا العربية، جذورها تعود إلى طبيعة الأنظمة التي تسود والتي هي أنظمة إما شمولية وإما سلطوية، بمعنى أنها أنظمة لا يمكنها أن تسمح للجماهير بإطلاق طاقاتها والتعبير عن ذاتها، وتالياً هي لا تتعاطى مع الإنسان العربي وفق طموحاته ورغباته، وتالياً تمكنه من التأثير والتغيير بعيداً عن الحاجة إلى العمل المباشر في سبيل الحفاظ على التوازن النفسي بين ما يؤمن به ونظرته الذاتية الى نفسه كفرد يشكل حلقة في المجموع الاجتماعي السياسي والحضاري المتعاقب تاريخياً من جهة، وبين واقع الحال المرتبط والمحيط به سياسيا واجتماعياً وحضارياً من جهة أخرى”.
وأقرّ سمير القنطار بأن حال التخلف التي يعيشها الإنسان العربي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بوجود الأنظمة الديكتاتورية الجاثمة على صدور الناس قائلاً في هذا المجال: “لا يمكن أي مجموعة بشرية مهما تعلمت من لغات ومهما تكيفت مع التطورات التقنية أن لا تكون متخلفة، طالما هي تعيش في ظل أنظمة تسلبها إرادتها وقدرتها على تحقيق ذاتها بكل ما يعنيه الأمر من معنى. إن حالة التخلف الاجتماعية هذه السائدة جردت الإنسان العربي من القدرة على ترجمة اقتناعاته وأحاسيسه بطريقة تجعله يستطيع التأثير في جدول أعمال السلطة الحاكمة، ناهيك بتغييب دوره في التقرير في شأن الهرم الحاكم وتركيبته البنيوية والبشرية وإسقاطات هذا الواقع سياسياً”.
ورداً على سؤال ما العمل في ظل هذا الواقع المؤسف، كتب: “جواباً لن أطالب الولايات المتحدة الأميركية والغرب بأن يغيرا سياستهما وأن يكفا عن الكيل بمكيالين بل أطالب القوى الديموقراطية العربية، بأن تضع لنفسها برامج عملية للتغيير بدءا من تشكل مجموعات ضغط من أجل الدفاع عن حرية التعبير وعن الرأي الآخر، والتعددية السياسية، واحترام حقوق الإنسان المختلفة، وصولاً إلى صوغ ميثاق اجتماعي في كل دولة عربية يضع الإنسان العربي في مركز الاهتمام ويحوله إلى وحدة سياسية قادرة على إطلاق طاقاتها والمشاركة في تقرير حاضر الأمة ومستقبلها في الميادين كافة”.
السؤال هنا، هو ما الذي تغيير خلال الأعوام السبعة الماضية، حتى تختفي كلمات من مثل الديموقراطية أو حقوق الإنسان أو الأنظمة الشمولية أو التعددية السياسية أو حرية الرأي من قاموس سمير القنطار؟ ولماذا يتخلى عميد الأسرى العرب في السجون الإسرائيلية عن هذا الربط المصيري بين معركة الحرية في الداخل العربي ومعركة التحرير في مواجهة العدو الإسرائيلي، هذا في وقت يزداد اطرادا عدد السجناء السياسيين في السجون الوطنية، لا لأنهم مارسوا العنف أو تعاونوا مع العدو الخارجي أو أساؤوا الى سلامة الكيان الوطني، ولكن لأنهم طالبوا بالحقوق الأساسية لمواطنيهم وفي مقدمها حق المشاركة السياسية والذي من دونه لا حصانة حقيقة لهذه الأوطان.
ترى هل نأتي بجديد إذا قلنا إن صراعنا مع العدو الإسرائيلي هو في الأساس صراع حضاري، وتالياً فإن الإنسان المقموع والمهزوم لا يستطيع أن يرتقي إلى مستوى هذا التحدي الحضاري وأن يقاتل باقتدار في أيٍّ من ميادين الحياة. إن في حرية الإنسان في المشرق العربي تحصيناً لحرية الإنسان اللبناني، والعكس صحيح. من هنا فإن أهم ما يملكه الإنسان اللبناني اليوم لا يتجسد في منظومة الصواريخ ولا في شبكة الاتصالات ولا في القيادة الكاريزماتية على أهميتها، بل هو يتجسد أساساً في التنوع المجتمعي الخلاق وفي الحد الأدنى من الحرية السياسية والفردية ■
النهار