تيمور لنك… رمز معاصر!
د. طيب تيزيني
صدر عن وزارة الثقافة السورية منذ بضعة أشهر، وبمناسبة احتفالية “دمشق عاصمة للثقافة العربية 2008″، كتاب طريف بقدر ما هو ذو أهمية سوسيوثقافية بالغة على صعيد الوضعية العربية الراهنة: ذلك هو “عجائب المقدور في أخبار تيمور”، من تأليف شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبدالله الدمشقي الأنصاري- المعروف بابن عرب شاه، وقدّمه مع إعداده وضبطه الأديب المرموق خيري الذهبي. والحق، أن هذا الكتاب يمكن النظر إليه على أنه نموذج للكتابة التاريخية في الحقل السوسيوثقافي، وربما كذلك في حقول أخرى مثل الأدبي، والنفسي- ممثلاً بالحرب النفسية- والسياسي والاستراتيجي وغيره، هذا من طرف، أما من طرف آخر، فثمة وجه آخر للمسألة يتمثل في موضوع الكتاب الرئيسي نفسه، نعني شخصية تيمور لنك التاريخية، كونها رمزاً حياً وذا طابع شمولي تقريباً للاستبداد، الذي أطلق عليه المستشرق الألماني Witt Voget مصطلح “الاستبداد الشرقي”.
ومع التحفظ على ذلك المصطلح، الذي لا يفتقد البعد العنصري، يمكن القول، إن الاستبداد ذا الأبعاد الأربعة المالي والسياسي والدعاوي (الإعلامي) والمعرفي المعني بمرجعية الحقيقة (وهذا الاستبداد أصبحنا قادرين على تحديده وضبطه بعد اكتشافه)، نجده ماثلاً في أشكال الاستبداد التي ظهرت في التاريخ العربي والإسلامي. ولعل النموذج الذي نحن الآن بصدده، يقدم صورة فاقعة وبكيفية ظلامية عشوائية مرعبة. ولا شك أنه من الخطأ التاريخي النظر إلى صيغتي الاستبداد المذكورتين في التاريخ المذكور، كما في مجتمعات عربية معاصرة، على أنهما متماثلتان؛ ذلك لأن لكل منهما تاريخياً وبنيوياً (أي ما يخص بنيتيهما)، خصوصيات تحول دون الأخذ بهذا الرأي. ولذلك، فضمن هذه الرؤية المشروطة، من المحتمل جداً أن نضع يدنا على كثير من الدلالات والرموز، التي تجمع بينهما، وهذا ما يسمح للنُّظم الاستبدادية العربية الراهنة وغيرها بأن تجد في التاريخ العربي والإسلامي ما يمكن أن توظّفه (استلهاماً أو تبنياً) في إطار استحقاقاتها الراهنة اقتصاداً وسياسة ودعاوة وحقيقة.
ذلك يظهر بوضوح فيما قدمه “ابن عرب شاه” في كتابه المذكور، الذي كتبه بعد فترة ليست مديدة من بعد “تدويخ العالم” على أيدي تيمور لنك. قال المؤلف: لقد أرسل العزيز الغفور على الناس في القرن الثامن عشر من الهجرة بِحارَ فِتن أقبلت كقطع الليل المظلم لم ير أحد ما هي، فإذا هي تيمور لنك- ص23. في هذه الصورة الشمولية المرعبة إرعابَ المأساة الكونية الكبرى، يعرّف “ابن عرب شاه” بتلك الشخصية، التي تكاثرت حولها الأقاويل على امتداد حياته وبعد حياته، بحيث يكتسب طابع شخصية تقترب كثيراً مِمن يوازيها في عصرها: إنها شخصية رجل النظام الأمني الأول أو الثاني…إلخ. ويتدعّم ذلك بما يُضفيه الناس على ولادته، التي تشي بما سيكون “حسب تأويل الكهنة وأهل العيافة”. فلقد قال عنه بعضهم: “يكون شرطياً، وقال بعض آخر ينشأ لصاً حرامياً، وقال قوم بل يكون قصّاباً سفّاكاً، وقال آخرون بل يصير جلاداً بتّاكاً، وتضافرت هذه الأقوال إلى أن آل أمره إلى ما آل إليه”، ص25.
إن سجون النظام الأمني العربي تكتظّ منذ عقود بأجساد بشرية لا يمرّ وقت طويل أو قصير إلا وتتحول إلى جثث، لا يُسمح بنقلها إلى الخارج لأنها جثامين مُعدّة للدفن، بل تدفن حيث هي، دون محاكمات ودون مساءلات، بل أحياناً دون أن تحظى بسجلات ما توثّق وجودها. لقد اجتاح تيمور لنك مقاطعات واسعة من العالم، وذلك عبر أسنّة الرماح، ودمّر ما لا يحصى من المدن ورمّل الملايين من النساء، ويتّم أرتالاً ضخمة من الأطفال، وأفقر هؤلاء جميعاً، وأنتج تقليداً فظيعاً من “ختل الخصوم وخلْبهم واسترقاق عقولهم وسلبهم. – ص293. وإذا كان تيمور لنك قد أطلق على نفسه الألقاب التالية: صاحب قران الأقاليم السبعة، وقهرمان الماء والطين، وقاهر الملوك والسلاطين، فإن النماذج التيمورية المعاصرة يُطلق عليها، خصوصاً، اللقب التالي: قاهرة شعوبها، عبر تواطئها الخفي مع الخارج، وإعلان عدائها الظاهري لها. إذاً، ثمة مسألة ما يتعيّن على المفكر العربي أن يواجهها!
جريدة الاتحاد