روافد اللاعقلانية في الثقافة العربية
فهد راشد المطيري
العقلانية بمعناها الواسع تشير إلى نظرة تفاؤلية بقدرة الإنسان الذاتية على اكتشاف الحقائق وحل مشكلات الواقع، وذلك من خلال الاعتماد على العقل والمنهج العلمي، ومن دون الحاجة إلى افتراض وجود قوى خارقة للطبيعة تنير للإنسان الطريق وتفتح له أبواب المعرفة. الإنسان العاقل لا يتردد في الاعتراف بقصور العقل كأداة معرفية، لكنه لا يتخذ من هذا القصور ذريعة للانقلاب على العقل والبحث عن بدائل خارج نطاق العقل والمنهج العلمي. إذا قبلنا بهذا التعريف الشامل لمفهوم العقلانية، فإن من الإنصاف القول إن اللاعقلانية هي التيار السائد في ثقافتنا العربية، والدلائل على هذه الحقيقة أكثر من أن تحصى، لكني سأكتفي من خلال هذا المقال بالإشارة إلى ثلاثة روافد تصب جميعها في نهر اللاعقلانية الجارف، كما أود الإشارة أيضاً إلى أن أي محاولة لتأسيس تيار عقلاني عربي لن يكتب لها النجاح إلا من خلال التصدي لهذه الروافد التي ما فتئت تغذي التفكير اللاعقلاني في الثقافة العربية.
1 – رافد ارتكاسي
تحتل النزعة السلفية مكانة خاصة في الثقافة العربية، وهي نزعة تتجلى بوضوح في نطاق السلوك الديني من جانب، وفي نطاق السلوك الاجتماعي من جانب آخر، فمراجعة كتب التراث هي الأداة المعرفية التي تحدد طبيعة السلوك الديني، كما أن مراجعة قائمة العادات والتقاليد هي الأداة المعرفية التي تحدد طبيعة السلوك الاجتماعي، وأما العقل فليس له دور في تحديد طبيعة هذين السلوكين، ذلك ان العقل لا ينتمي إلى مصادر المعرفة في العقلية السلفية، ومن هنا فإن النزعة السلفية تعتبر رافداً ارتكاسياً يساهم في تفاقم اللاعقلانية في الثقافة العربية.
2 – رافد توافقي
إذا كانت وظيفة الرافد الارتكاسي هي حصر مصادر المعرفة في التراث الديني-الاجتماعي، فإن وظيفة الرافد التوافقي هي إخضاع كل معرفة علمية جديدة إلى شروط هذا التراث، ونتيجة لهذه الوظيفة تم تعزيز سلطة التراث وتشويه كل معرفة علمية جديدة. أبرز الأمثلة على ذلك نجدها في كتب «الإعجاز العلمي في القرآن» و«الاقتصاد الإسلامي»، كما نجدها أيضا في محاولات إخضاع الديمقراطية لشروط الشريعة الإسلامية. لا تعبر هذه الأمثلة عن عملية سطو على مجهود الآخرين، فثمار العقل حق للبشرية من دون استثناء، لكن الأمر المؤلم حقا هو أن هذه الأمثلة تشير إلى أن ما توصّل إليه الآخرون عن طريق العقل والتفكير العلمي أضحى رهينا لسلطة التراث في ثقافتنا العربية. بمعنى آخر، الرافد التوافقي أدى إلى تكبيل العقل بقيود اللاعقل، وبذلك يكون قد ساهم في تفاقم اللاعقلانية العربية.
3 – رافد اتكالي
تزامنت النهضة الأوروبية مع وجود نزعة تفاؤلية بقدرة العقل على سبر أسرار الكون بعيداً عن تعاليم الكنيسة، وبلغت هذه النزعة التفاؤلية ذروتها في عصر التنوير الأوروبي، ثم ما لبث العقل الأوروبي أن دخل في أزمة حادة أسفرت عن نشوء تيارات معادية لكل ما هو عقلاني، خصوصا في فترة ما بين الحربين، كما أن مرحلة «ما بعد الحداثة» ليست سوى امتداد لهذه النظرة العدائية ضد العقل والمنهج العلمي. هذه الصورة المختصرة عن تاريخ العقل الأروربي تحتم على المثقف العربي أن يكون حذراً في ما ينقل من علوم وآداب غربية إلى اللغة العربية.
لكن الواقع، مع الأسف الشديد، يشير إلى عكس ذلك، فهناك من المثقفين العرب ممن يترجم أفكار «هيغل»، مثلاً، من دون أن يصاحب هذه الترجمة قراءة نقدية لحجم الدمار الذي أسفرت عنه هذه الأفكار على صعيد الإنسان الأوروبي أولا، وعلى صعيد العقل الأوروبي ثانيا، كما أن هناك من الشعراء والأدباء العرب ممن يحاكي في أعماله تيارات أدبية غربية معادية لكل ما هو عقلاني، من دون أدنى التفات إلى حقيقة أن تلك التيارات نشأت في ظل وجود أزمة حادة في العقل الأوروبي، وهي الأزمة التي لم نتشرف نحن في مواجهتها إلى هذه اللحظة، ولن ننال هذا الشرف حتى تسود العقلانية أولا في ثقافتنا العربية، وعندها يصبح لكل حادث حديث، وعندها أيضا يصبح من حق الأدباء والشعراء العرب أن يصيحوا بأعلى صوتهم «دادا»؛ (حركة ثقافية أوروبية نشأت إبان الحرب العالمية الأولى)، وأن يعبثوا بلغتنا العربية ويرتكبوا في حقها كل أنواع المعاصي، لكن إلى حين مجيء تلك اللحظة، وإلى حين زوال اللاعقلانية الطاغية في الثقافة العربية، يصبح الأدب غير الملتزم بإنعاش العقل العربي مجرد رافد من روافد اللاعقلانية العربية.