في جرثومة السياسة الوطنية
جاد الكريم الجباعي
قال إدغار موران: جميع الفنون أنتجت روائع، إلا السياسة، فقد أنتجت مسوخاً. لا يملك المرء إلا أن يشارك موران هذا الرأي، لا لأن حلم أفلاطون في وحدة الملك والفيلسوف لم يتحقق فقط، بل لخلو السياسة حتى يومنا من أي عنصر أخلاقي أيضاً. فهل ستظل السياسة تنتج مسوخاً؟!
السياسة قدرنا، وليس لنا سوى الأمل في إنتاج علاقة صحيحة بين الفكر والأخلاق والسياسة. تحقيق هذا الأمل منوط بإعادة تعريف السياسة بأنها وظيفة اجتماعية وأخلاقية ملازمة للمواطن، تحددها جملة من الحقوق والواجبات والالتزامات الملقاة على عاتقه، بوصفه عضواً في جماعة سياسية، أولاً. مبدأ هذه الوظيفة هو جدل الحرية والمسؤولية، أو الحرية والقانون. وبأنها فاعلية اجتماعية ومجتمعية تحدد اتجاه سير المجتمع المعني ووتائر نموه وتطوره ثانياً، قوام هذه الفاعلية هو مشاركة جميع المواطنين (الأحرار) في الشؤون العامة وفي حياة الدولة. وبأنها شأن مدني عام يؤثر في حياة الأفراد والجماعات ويتأثر بها ثالثاً، فليس مصادفة أن مفهوم المدينة ومفهوم السياسة من جذر واحد (police). وبأنها الوسيلة الفضلى والشرط الضروري لحل التعارضات الاجتماعية الملازمة للاجتماع البشري بالطرق السلمية، والوسيلة الفضلى والشرط الضروري لحل جميع الخلافات والنزاعات، ولنفي الحرب خارج المدينة (الدولة) وخارج المدنية أخيراً، فضلاً عن تعريفها العلمي بأنها علم السلطة، وعلم الدولة، وعلم وفن إدارة الشؤون العامة.
الحرب والمدنية ضدان. الحرب عنف مطلق وشر مطلق. إنها آفة المدنية ونكوص إلى التوحش. الحرب والسياسة ضدان؛ فليس صحيحاً قول كلاوزوفيتز أن “الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى”؛ فالحرب لا تقع إلا بعد أن يدعي أحد طرفي النزاع أو كلاهما “استنفاد” الوسائل السياسية والطرق السلمية. ونحن ندعي أن الطرق السياسية والوسائل السلمية لا تستنفد، لأنها حقل الممكنات التي لا حصر لها؛ وادعاؤنا قائم على ثقة مطلقة بالعقل الكوني وبالضمير الإنساني. اقتران السياسة بالحرب، حتى يومنا، مرده إلى اقتران الحق بالقوة والسطوة، لا بالتعاقد. (لكل من الحق بقدر ما له من القوة)، وإلى إقامة مبادئ الحق والأخلاق على الاقتناع الذاتي لأي جماعة تدعي أن لها من الفضل والفضائل ما ليس لغيرها، وأن لها من الحقوق والامتيازات ما ليس لغيرها. وذلكم هو أساس نشوء الأيديولوجيات الدينية / المذهبية والمنظومات الفكرية التفاضلية.
يذهب بعضهم إلى تعريف السياسة بأنها علم السلطة، ويعرفها آخرون بأنها علم الدولة. التعريف الثاني أقرب إلى تلبية حاجتنا الجذرية الماسة إلى فهم ما هي الدولة، وما هي السياسة، بوصفها علم الدولة؛ إذ لا يزال مفهوم الدولة، غائماً في ثقافتنا، إن لم نقل إنه لا يزال غائباً عنها، وهو إلى ذلك ملتبس بمفهوم السلطة. وهذا لا يغني بالطبع عن فهم السياسة، بما هي علم السلطة، لتمييز سلطة الدولة من سلطة النخبة أو سلطة العشيرة أو سلطة الطائفة أو سلطة الطغمة أو سلطة الطبقة أو سلطة الحزب، ولمعرفة أشكال السلطة الأخرى، ولمعرفة مصادر السلطة، التي تنبع من كل شيء، حسب تعبير ميشيل فوكو. والتعريف في الحالين مسألة نظرية. ولكن للسياسة جانباً عملياً لا يقل أهمية عن الجانب النظري، بل هو أساس الجانب النظري وغايته.
لذلك نرى أن السياسة هي علم الدولة، على الصعيد النظري، وهي علم وفن إدارة الشؤون العامة، والعمل المتواتر والمتراكم في سبيل تحسين شروط الحياة الاجتماعية، على الصعيد العملي. ولا بد أن القارئ قد لاحظ ارتباط العلم والفن بالعمل في تحديد المعنى العملي للسياسية. هذا الارتباط لا ينبع من الخبرة التاريخية، منذ بزوغ الأزمنة الحديثة، فقط، بل تفرضه رؤية حديثة للسياسية بوصفها وظيفة ملازمة للمواطن، وأحد المعاني الأساسية للمواطنة، التي تعني المشاركة في الشأن العام، وفي حياة الدولة، وتتضمن الحرية والمسؤولية والمساواة.
فرق أفلاطون تفريقاً حاسماً بين الفرد الطبيعي، أو الكائن الاجتماعي، وبين المواطن؛ الأول، الفرد الطبيعي، مسوق بسائق حاجاته ومصالحه ورغباته وعواطفه وأهوائه ونزواته. هذا الفرد الطبيعي هو أي واحد منا في حياته اليومية. والثاني، المواطن، هو من يتطلع إلى الحرية والعدالة والمساواة، ويتعلق بقيم الخير والحق والجمال. وهذا أيضاً هو أي واحد منا، حين يخرج من قوقعته الفردية، الأنانية، أو من درعه المصفحة، كدرع السلحفاة، أو من جلده المغطى بالأشواك، كجلد القنفذ، ويرى ذاته في الآخر كائناً عاقلاً وأخلاقياً. الفرد الطبيعي، أو الكائن الاجتماعي، هو أساس المجتمع المدني؛ والمواطن هو أساس الدولة السياسية، أو الدولة الوطنية. المواطن إذاً هو الفرد الطبيعي أو الكائن الاجتماعي وقد صار، هو نفسه، كائناً سياسياً وأخلاقياً من طبيعة الدولة ذاتها (الدولة كائن سياسي وأخلاقي، أو مجتمع سياسي عمومي).
أجل المواطن كائن سياسي وأخلاقي من طبيعة الدولة، بوصفها كذلك، أي بوصفها كائناً سياسياً وأخلاقياً. مفهوم المواطن مرتبط بمفهوم الدولة السياسية أو الدولة الوطنية الحديثة، يستمد منها جميع خصائصه وجميع مقوماته. آية ذلك أن المواطن هو تجريد الفرد الطبيعي من جميع صفاته الفردية، ومن جميع محمولاته، التي يكتسبها بوصفه عضواً من أعضاء المجتمع المدني، الذي ينتمي إليه. والدولة الوطنية الحديثة، في واقعها الفعلي، هي تجريد المجتمع المدني من جميع الصفات، التي تتعارض مع كونه وحدة جدلية وكلية عينية، وتتناقض مع كونه أمة موحدة هي مضمون الدولة. الدولة تجريد المجتمع المدني وتجريد كل فرد من أفراده، ولذلك كانت الدولة مفهوماً مجرداً أو كائناً عقلياً هو من طبيعة العقل ذاته. نحن لا نرى الدولة، بل نرى مؤسساتها ونستفيد من وظائفها، نرى المؤسسة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، التي تتصف كل منها بصفة الوطنية الخالصة، أي بصفة العمومية الخالصة، كالمؤسسة التشريعية، أو بالعمومية التي لا تزال تلابسها بعض العناصر الخاصة، كالسلطة التنفيذية والسلطة القضائية.
المؤسسة التشريعية هي التجسيد العياني للدولة الوطنية، تتركز فيها صفات السيادة والاستقلال والحرية. لكن أعضاء هذه المؤسسة ليسوا كذلك بعد، إذ لكل واحد منهم صفة مزدوجة، فهو ممثل الشعب بوجه عام من جهة، ولكنه ينتمي إلى فئة اجتماعية معينة ويعمل على تغليب مصالحها من جهة أخرى. ولذلك ينتخب أعضاء المؤسسة التشريعية دورياً، (كل أربع سنوات، مثلاً)، للتعبير عن تغير نسبة القوى الاجتماعية. وتجدر الإشارة إلى أن تغير أعضاء البرلمان لا يمس عمومية المؤسسة التشريعية أو وطنيتها الخالصة في قليل أو كثير. أما السلطة التنفيذية فلا تتصف بالسيادة إطلاقاً، واستقلالها عن السلطتين التشريعية والقضائية هو استقلال نسبي، لأن وظيفتها هي تطبيق القوانين العامة، وليست حرة إلا في نطاق القانون، الذي أوكلت إليها مهمة تنفيذه، وليست مخولة بسن أي قانون. السلطة القضائية حرة في تطبيق القوانين على الحالات الخاصة التي لا يمكن حصرها، ولها حق الاجتهاد، وهي مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية استقلالاً تاماً، ولكنها ليست ذات سيادة. السلطتان التشريعية والقضائية هما عقل الأمة وضميرها الأخلاقي، والسلطة التنفيذية هي جهازها العصبي.
المعنى العميق للمواطنة هو معناها السياسي / الأخلاقي، ولا فصل بين السياسة والأخلاق. هذا المعنى يتأتى من المشاركة في الشأن العام وفي حياة الدولة. والمدهش أن هذا المعنى أو هذا المغزى، السياسي / الأخلاقي، هو أحد الأشكال التي تتخذها المواطنة، أو هو تحديد ذاتي للمواطن (السياسة شكل من أشكال الحياة الاجتماعية مضمونه هو المواطنة أو الوطنية). إذاً السياسة هي أحد أشكال المواطنة، وهي تحديد ذاتي للمواطن. (الفرد الطبيعي يحدد ذاته، في نطاق المجتمع المدني، بأنه عربي أو كوردي مثلاً، أو بأنه مسلم أو مسيحي، مالك أو غير مالك إلى آخر ما هنالك من تحديدات شخصية واجتماعية وثقافية. أما المواطن فيحدد ذاته، في نطاق الدولة الوطنية، تحديداً سياسياً، بأنه ليبرالي أو اشتراكي أو ديمقراطي، وبأنه عضو في النادي الفلاني أو الجمعية الفلانية أو الحزب الفلاني إلى آخر ما هنالك من تحديدات سياسية) السياسة هي أحد أشكال حياته وأحد أشكال وجوده الاجتماعي. والشكل، في مغزاه الأكثر عينية هو العقل، بوصفه معرفة نظرية؛ والمضمون، في مغزاه الأكثر عينية هو العقل، بوصفه الماهية الجوهرية للواقع، سواء كان واقعاً مادياً أو أخلاقياً، بحسب الفيلسوف الألماني هيغل. الانتماء السياسي يتخطى جميع الانتماءات ما قبل الوطنية ولا يلغي أياً منها، وهو أساس العلاقات الاجتماعية الحديثة. وميزته أنه انتماء حر وطوعي وغير نهائي، بل هو انتماء مفتوح على تطور الفرد نفسه وعلى تطور الحياة الاجتماعية الوطنية وعلى نمو العناصر الإنسانية في الوطنية ذاتها، وعلى تغير أشكال الحياة السياسية. (المواطن الفرنسي، مثلاً، هو مواطن فرنسي وصار مواطناً أوروبياً في نطاق الوحدة الأوروبية، ومواطن عالمي في نطاق الجماعة الإنسانية، ولا تناقض بين هذا وذاك وذلك).
تمييز المشاركة في الشأن العام من المشاركة في حياة الدولة بدا ضرورياً لتأسيس السياسة في المجتمع على أنها متعددة المستويات والأبعاد، فنظافة الحي، على سبيل المثال، شأن عام لأهل الحي، وشأن خاص من شؤون المدينة، والمشاركة في الانتخابات المحلية والبلدية شأن عام لأهل المحلة أو البلدة، وشأن خاص بهده المحلة أو البلدة لأهل البلد، ولكن المشاركة في الانتخابات البرلمانية هي مشاركة مباشرة في حياة الدولة وفي الشأن الوطني العام. المشاركة الإيجابية في منظمات المجتمع المدني، هي مشاركة مباشرة في الشؤون العامة بالمعنى الأول، ومشاركة مباشرة وغير مباشرة في حياة الدولة. وهي، في الحالين، فعل خلاق، من الأفعال التي تصنع التاريخ الوطني.
السائد عندنا، حتى اليوم، أن السياسة وظيفة مقصورة على النخبة؛ بل على نخبة النخبة؛ وهذه نظرة قاصرة، ومرتبطة بموروث استبدادي لا يزال يشكل وعينا السياسي (السياسة السلطانية). والمؤسف أن الأحزاب القائمة كرست هذا المعنى النخبوي وعززته، إذ جعلت من السياسة وظيفة مقصورة على عضو الحزب، بل على قيادة الحزب. فتطابق النشاط السياسي والنشاط الحزبي. السلطة من جهة، والأحزاب السياسية من جهة أخرى هما المظهران الوحيدان للحياة السياسية. ولذلك كانت الحياة السياسية فقيرة ومقفرة ومحبوسة في منظومات أيديولوجية مغلقة، من جهة، والجسم السياسي الوطني هزيل وسقيم ومتناثر، من جهة أخرى.
أساس فقر الحياة السياسية وهزال الجسم السياسي هو عدم إدراك أهمية منظمات المجتمع المدني المستقلة، وغير الحزبية وغير المحزَّبة، بوصفها مظهراً مهماً من مظاهر الحياة المدنية بوجه عام ومن مظاهر الحياة السياسية، بوجه خاص، لا يقل أهمية عن الأحزاب السياسية. بل إن هذا المظهر هو ما يمنح السياسة معنى وطنياً، ويجعل منها لحمة النسيج الاجتماعي؛ إذ تكف معها العلاقات العشائرية والمذهبية والطائفية والإثنية عن كونها علاقات سياسية، بل مجرد علاقات اجتماعية. (انتماء الفرد (س)، بجميع صفاته ومحمولاته وانتماءاته، إلى ناد رياضي أو ثقافي أو اجتماعي أو إلى جمعية معينة، أو إلى نقابة، مثلاً، هو انتماء إلى جماعة جديدة وحديثة، تضم إلى جانبه أفراداً مختلفين عنه في كل شيء، ولا سيما في الانتماء العشائري أو المذهبي أو الإثني. هذا الانتماء الجديد يمنح الفرد والأفراد المتشاركين هوية جديدة، وينشئ بينهم علاقات جديدة نابعة من الوظيفة التي اختاروا أن يقوموا بها معاً، ومحددة بالنظام الذي اختاروه لأنفسهم، فلا يمكن أن تكون هذه العلاقات ذات محتوى عشائري أو مذهبي أو إثني أو جهوي، بل ذات محتوى سياسي حديث قوامه هوايات مشتركة ومصالح مشتركة وتطلعات مشتركة تولد نوعاً من “عصبية” جديدة، ونمطاً جديداً من التنافس، وتعيد تشكيل القوى الاجتماعية وتوزيعها، وتمنح التعارضات الاجتماعية الناجمة عن التفاوت في الملكية أو في الثروة شكلاً سياسياً وأخلاقياً، وثقافياً ينفي أي مظهر من مظاهر الشقاق والتنافر، وأي مظهر من مظاهر التطرف والعنف، بل يستأصل جذور العنف من الحياة الاجتماعية).
لعله ليس واضحاً في أذهان الكثرة منا أن العلاقات الاجتماعية، في المجتمعات الحديثة، هي علاقات ذات محتوى طبقي أو فئوي، (اجتماعي/ اقتصادي) وثقافي وسياسي وأخلاقي, وهي علاقات تواصل وتعارض واحتياج متبادل واعتماد متبادل وتعاون وأعمال مشتركة، في جميع المجالات. بخلاف العلاقات الاجتماعية في المجتمعات المتأخرة، التي هي علاقات تخارج وتنافر وتفاصل بين جماعات مغلقة وكتل مصمتة وهويات ثابتة، عشائرية ودينية ومذهبية وطائفية وإثنية. وليس واضحاً، من ثم، أن السياسة، مثلها مثل الثقافة والأخلاق، هي نسيج الحياة الاجتماعية في المجتمعات الحديثة. ولذلك لا تختزل السياسة إلى انتماء حزبي ونشاط حزبي، بل إن الانتماء الحزبي والنشاط الحزبي مظهران من مظاهرها فحسب. إن من أسوأ ما ابتلينا به اختزال السياسة إلى ممارسة سلطوية وإلى انتماء حزبي، بل أيديولوجي. هذا الاختزال نابع من النظر إلى المجتمع على أنه موضوع هامد ومطاوع لفعل السلطة، أو لفعل الحزب، أو موضوع هامد ومطاوع لفعل النخبة. (تعتقد الأحزاب المعارضة، عندنا، كما تعتقد السلطة، اعتقاداً راسخاً أنها هي التي تقرر مصير المجتمع وتحدد اتجاه سيره، في حين يفترض أن المجتمع هو من يقرر مصير السلطة ومصائر الأحزاب ويحدد سياساتها).
أجل، الثقافة والسياسية والأخلاق مجتمعة، هي نسيج الحياة الاجتماعية، وقوام وحدة المجتمع وقوام الوحدة الوطنية، وهي قوام عملية الإنتاج الاجتماعي، بخلاف التعليم، الذي جعل من عملية الإنتاج الاجتماعي “بنية تحتية”، ومن الثقافة والسياسة والأخلاق، “بنية فوقية”، ذلك أن عملية الإنتاج الاجتماعي، مفهومة فهماً صحيحاً، محكومة بالعوامل الثقافية والسياسية والأخلاقية، ومحددة بها، بقدر ما هي حاكمة ومؤثرة فيها. فليس من الممكن فصل ما هو اقتصادي (مادي) عما هو ثقافي وسياسي وأخلاقي، إلا فصلاً مفهومياً وإجرائياً، لأغراض الدراسة والبحث والفهم. “الصراع الطبقي”، الذي يخلب ألباب بعضنا، مقولة فكرية / سياسية، مفهوم عقلي / أخلاقي، من المفاهيم التي تساعدنا على معرفة الواقع وتفسير التاريخ، وكذلك “الصراع القومي”، الذي يخلب ألباب القوميين، وليس حرباً همجية مفتوحة تشنها طبقة على طبقة أخرى، أو أمة على أمة أخرى، بغية القضاء عليها، كما هو شائع عندنا، وليس صراع ضوار على مبدأ “قوة الأسد ومكر الثعلب”. الحيوانات فقط يفترس بعضها بعضاً، بحكم غريزة البقاء، ولا ينتج من الافتراس نوع جديد من الحيوان.
إذا كانت السياسة وظيفة ملازمة للمواطن، فإن هذه الوظيفة تتجلى، بصورة أساسية، في تمكن المواطن وتمكينه من الدفاع عن حقوقه وحريته، وقدرته على تحسين شروط حياته، وتحسين شروط عمله، والحفاظ على صحته وسلامة بيئته ونظافتها، وحصوله على القدر الذي يريد من المعرفة والثقافة، وتنمية قدراته ومواهبه، والتمتع بأوقات فراغه، وإشباع حاجاته المادية والروحية، وتوجيه حياته الوجهة التي يريد من دون ضغط أو إكراه من أي سلطة، إلى غير ذلك مما يندرج في الوظائف الاجتماعية، التي بوسع المجتمع أن يقوم بها بنفسه، وإلا فعلى الدولة أن تقوم بها. فمن المعروف أن جميع وظائف الدولة هي وظائف اجتماعية لا يستطيع المجتمع أن يقوم بها وحده.
ممارسة هذه الوظائف غير ممكنة إلا في أطر أو تنظيمات جماعية ومجتمعية، تختلف من وظيفة إلى أخرى. فبدلاً من تنطع النخبة للدفاع عن حقوق الأفراد وحرياتهم وعن مصالحهم المشتركة، يفترض أن يقوم الأفراد أنفسهم بذلك، من خلال منظمات يقيمونها بأنفسهم ويحددون وظائفها وآليات عملها، تقوم كل منها بوظيفة ضرورية، أو تلبي حاجة ضرورية. إقامة هذه التنظيمات المستقلة بمبادرات ذاتية هو نوع من ممارسة سياسية يومية، على المستوى الصغري (الميكروي)، إذا جاز التعبير. هذا النوع من الممارسة السياسية هو الذي يصنع السياسة، على مستويات أكبر وصولاً إلى المستوى الوطني، الذي تتصدى له الأحزاب السياسية، وتمارسه من خلال سلطة الدولة. هكذا تتكون السياسة وتنمو بنمو الغيرية وبنمو عنصر العمومية في الأفراد والجماعات وفي التنظيمات الاجتماعية، عنصر العمومية هنا هو الوطنية الجامعة والموحِّدة.
في المجتمعات التقليدية، التي تعرف أنواعاً مهمة من التكافل الاجتماعي، ولكنها محصورة في البنى التقليدية الضيقة ومقصورة على أعضاء هذه البنى، يتوجب على النخبة الحديثة أن تنشر وعياً مناسباً بأهمية منظمات المجتمع المدني العابرة للبنى التقليدية، والمختلفة عنها نوعياً من حيث بناها ووظائفها، وأن تسهم في بنائها وتنخرط في أعمالها. فمنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان، مثلاً، لا يمكن أن تكون مقصورة على عشيرة أو طائفة أو جماعة إثنية، ولا يمكن أن تكون بنيتها ووظيفتها كبنية العشيرة أو الطائفة أو الجماعة الإثنية، ووظيفتها. وقل مثل ذلك عن المنظمات التي تدافع عن حقوق المرأة أو عن حقوق الطفل أو عن حقوق المستهلك أو عن حقوق مزارعي القطن أو عن حقوق المزارعين كافة أو عن حقوق العمال في قطاع معين أو عن حقوق العمال كافة، وعن المنظات ذات الطابع الثقافي والفني والرياضي، وغيرها من عشرات أنواع الجمعيات. التضامنيات الحديثة، العابرة للبنى التقليدية، هي البدوة الضرورية لتحديث المجتمع، والحاضنة المناسبة لإنتاج السياسة. هنا تكتسب السياسة معنى المشاركة في الشؤون العامة أو في إدارة الشؤون العامة، وتكتسب مضموناً وطنياً. وهنا تكمن قيمة السياسة الوطنية وقوتها وطاقتها الإبداعية.
السياسة، بهذا المعنى، لا تنتج أبطالاً وشهداء، ولا تسفر عن منتصرين ومهزومين، أو رابحين وخاسرين، بل تنتج نماذج مدنية مهذبة، نماذج ثقافية وأخلاقية نبيلة، وتنتج قيماً اجتماعية وإنسانية. الحرب وحدها تنتج أبطالاً وشهداء، وتسفر عن منتصرين ومهزومين وعن رابحين وخاسرين، وبئس إنتاجها من إنتاج، وبئست نتائجها من نتائج. تعظيم الأبطال وتقديس الشهداء وجهان لثقافة واحدة هي ثقافة الحرب، ثقافة الموت والدمار (للبطل والشهيد جذر مشترك). الأبطال هم المنتصرون والرابحون، والشهداء هم المهزومون والخاسرون، يا لها من ثقافة! الانتصار في الحرب هو انتصار الموت على الحياة وانتصار الهمجية على المدنية وانتصار الخراب على العمران وانتصار الغريزة على العقل والتوحش على الأخلاق وانتصار “المادة” على الروح. والهزيمة هي هزيمة الحياة وهزيمة المدنية والعمران والعقل والأخلاق وهزيمة الروح الإنساني، لدى المنتصرين والمهزومين على السواء. السياسة التي تستحق اسمها انتصار الجميع على الحرب وعلى ثقافة الحرب وأخلاق الحرب، وهي وحدها الطريقة العقلانية والأخلاقية، التي يربح فيها الجميع. (المهاتما غاندي هو مثال السياسي الأخلاقي للأزمنة القادمة).
معارضة الحرب بالسياسة، (على اعتبار الحرب نسقاً ثقافياً، فكرياً وأخلاقياً، لا مجرد مجابهات ومعارك عسكرية، وعلى اعتبار السياسة نسقاً ثقافياً، فكرياً وأخلاقياً مختلفاً اختلافاً جذرياً عن النسق الأول)، هي التي تكشف لنا الفروق النوعية بين ثقافة مبدؤها العصبية والحق الخاص والقوة الحيوانية العارية، “قوة الشوكة”، نعني ثقافة البطل والشهيد، وثقافة مبدؤها الإنسان والمواطن والحق العام وقوة القانون، “قوة الوردة”. وبين منظومة أخلاقية قوامها ازدراء الآخر وازدراء القيم الاجتماعية والإنسانية، ومنظومة أخلاقية أخرى قوامها الحرية والعدالة والمساواة، والاعتراف بالآخر، كما هو وكما يريد أن يكون، واحترام حقوقه وحريته، واحترام القيم الاجتماعية، الوطنية والإنسانية، واحترام القانون. وبين مرجعية فكرية حصرية وإقصائية، دينية أو مذهبية أو إثنية أو أيديولوجية، ومرجعية فكرية أخرى واقعية وإنسانية. هذه المعارضة، التي بمقدور أي واحد منا أن يذهب إلى أدق تفاصيلها تبين لنا أن ما يسمى سياسة في ثقافتنا هو اسم آخر من أسماء الحرب، (القضاء على البورجوازية والقضاء على الرجعية والقضاء على أعداء الأمة العربية وعلى أعداء الأمة الإسلامية والقضاء على أعداء الثورة وعلى “أعداء الشعب” والقضاء على كل شيء لا يوافق الهوى والمصالح الخاصة العمياء) وهو مما يؤكد ارتباط السياسة بالفكر والأخلاق، وما يقتضي إعادة بناء مفهوم السياسة على أسس فكرية وأخلاقية حديثة، وطنية وإنسانية.
التاريخ الداخلي لمجتمع من المجتمعات لا تصنعه الأعمال العظيمة والأحداث المدوية فقط، ولا يصنعه نشاط الأحزاب وتضحيات مناضليها فحسب، بل تصنعه الأعمال اليومية الصغيرة لملايين الفاعلين. جرثومة السياسة، أي أصلها، في بعدها التاريخي، أي في مسار تكونها ونموها، هو هذه الأعمال الصغيرة والروح التي تمنحها معنى واتجاهاً. والتقدم هو ذهاب هذه الأعمال في الاتجاه ذاته، في لحظة تاريخية معطاة، كلحظة مقاومة الاستبداد المحدث والانتقال إلى الديمقراطية أو مقاومة الاستعمار، ولا فرق. هذا النوع من المقاومة لا تقدر على كبحه وإحباطه أعتى القوى القمعية. ذهاب الأعمال اليومية “الصغيرة” في اتجاه معين، في لحظة تاريخية معطاة، هو الذي يجعل من السياسة حقلاً وطنياً عاماً، بقدر ما يعي الفاعلون ضرورة الاتجاه الذي يذهبون إليه وأهميته ومصاقبته لمصالحهم الخاصة، التي باتوا ينظرون إليها بمنظار المصلحة الوطنية العامة. فالسياسة مرتبطة بالمصلحة أو بالمنفعة أوثق ارتباط وأشده، ولذلك يمكن تعريفها بأنها علاقات موضوعية، لا هوامات ذاتية.
نتحدث هنا عن جرثومة السياسة الوطنية، أو عن أصل السياسة الوطنية، أو عن جينيالوجيا السياسة، (علم جينات السياسة)، البادئة بمفهوم المواطن والوظائف المنوطة به والمسؤوليات الملقاة على عاتقه، بصفته كائناً سياسياً وأخلاقياً هو أساس الدولة الوطنية. هذه الجرثومة هي أساس تحرر الفرد من الروابط الطبيعية، العائلية والعشائرية والدينية والمذهبية والإثنية، ومن نير السلطات الخارجية، التي تعينها تلك الروابط، واندماجه طوعاً في الفضاء الوطني، وخضوعه لسلطة جديدة غير مشخَّصة هي سلطة القانون، الذي يسهم هو نفسه في وضعه، بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وندعي هنا أن القانون هو سلطة داخلية ذات أساس أخلاقي، وتجسيد للحرية الموضوعية وضمانة أكيدة للحرية الذاتية. والأشخاص المكلفون تطبيق القانون، هم أنفسهم خاضعون له، وليسوا سوى موظفين لدى مصدر السلطة (الشعب) يتقاضون أجوراً لقاء قيامهم بالمهام الموكلة إليهم. لا يمكن اكتشاف الدلالات الفكرية والأخلاقية للسياسة بمعزل عن الدلالات الفكرية والأخلاقية للقانون.
موقع الآوان