العلمانية والديموقراطية والمجتمع المدني بين فكي التسلط والتطرف
نقولا الزهر
منذ سبعينات القرن الماضي، وبعد أن أحكمت الأنظمة العسكرية التسلطية سيطرتها على كثيرٍ من البلدان العربية التي كانت أقرب نسبياً إلى الحداثة في كلٍ من (مصر، سورية، العراق، والجزائر)، وبعد أن فشلت هذه الأنظمة فشلاً ذريعاً في تحقيق أي هدف من الأهداف القومية والاجتماعية التي طرحتها عند تسلمها السلطة، راحت تتراجع وتنكفئ الشعارات الوحدوية والطبقية والاشتراكية، وأخذ يحل مكانها نوعان مختلفان من الشعارات السياسية: إسلامية متطرفة ترفعها حركات دينية ظلامية إرهابية وهي الأقوى والأكثر هيمنةً، ومن جهة أخرى شعارات الديموقراطية، والمجتمع المدني، والعلمانية، تطرحها أحزاب وفئات سياسية طلقت أحزابها اليسارية والقومية الأم، التي كانت قد انحازت نهائياً إلى جانب السلطات الحاكمة في هذه البلدان وانضوت في أجهزتها السياسية والإيديولوجية. و انضمت إلى هذا التوجه الوطني الديموقراطي مجموعاتٌ من المثقفين والمستقلين والليبراليين.
وفي الواقع، خلال هذه الحقبة، كان الخاسر الأكبر هو (اليسار العربي) الذي باتت أحزابه في حالٍ من التبعيةِ الكاملة للأنظمة الحاكمة، وخاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ومنظومته. فهذا اليسار العربي التاريخي الذي كان (جابذاً أو جاذباً وحتى جذاباً) في خمسينات القرن الماضي صار (نابذاً) بامتياز في نهاياته وبدايات القرن الحالي. وإذا كان ذلك اليسار، بالاسم والصورة والمظهر ما زال (يساراً)، ففي الشكل والمحتوى والفعل، صار يميل وينوس وفق ما تطرحه السلطات الحاكمة من شعارات تخدم مصالح بقائها وتأبيدها في الحكم. وفي كثيرٍ من الأحيان علينا ألا نستغرب، فهذا اليسار التاريخي الذي كان يتباهى في فترة ماضية(بعلمانيته) ونبذه للدين والمتدينين، يَصُفُّ هذه الأيام في أحيانٍ كثيرة إلى جانب دعاة الحاكمية أو ولاية الفقيه، لا فرق، إذا ما استدعت الظروف السلطوية ذلك ، وطبعاً هذا يجري تحت ذريعة”التصدي للأمبريالبة الأميركية والعولمة والليبرالية المتوحشة!
أما تيارات الإسلام السياسي السلفية والأصولية والتمامية، فرغم اندفاعتها الهائلة بعد هزيمة 1967في معظم البلدان العربية ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام، فقد منيت بالكثير من النكسات والهزائم السياسية، ليس فقط في مواجهتها مع الغرب والرأي العام الدولي، وإنما أيضاً على أرضها وفي بلدانها وعقر دارها(مصر، سورية، الجزائر، السودان،وأخيراً السعودية). فهذا التيار قد أقام فكره على تقديس وتصنيم النص وقطع العلاقة بينه وبين الزمن ، وفي إطار العمل والممارسة اعتمد نظرية (الفسطاطين والحرب السرمدية بين دار الإيمان ودار الكفر)، وإغلاق أي أفق للانفتاح على الآخر. هذا الفكر وهذه السياسة وإن استطاعا القيام بتدميرٍ وتخريبٍ وقتل هنا وهناك، فهما لا يمتلكان القدرة على المواجهة الشاملة والاستراتيجية. والتجربة العراقية تؤكد وجهة النظر هذه؛ فقد انقلب القسم الأكبر من جماهير التيار المتطرف عليه وعلى أساليبه(في الأنبار وديالى والموصل وحتى في الجنوب في البصرة والناصرية).
ولقد أدى استخدام التيار السلفي للعنف إلى نتائج كارثية عليه وهذا ما دفع إلى بعض المراجعات ونبذ العنف (حركة الاخوان المسلمين في سورية، الجماعة الإسلامية في مصر، وبعض الفصائل الإسلامية في المغرب العربي). لكن في اعتقادنا، هذه المراجعات لم تدخل في العمق ولم تتخطََ الإطار السياسي البراغماتي والتكتيكي، فلم تذهب بالاتجاه الإصلاحي والنقدي على المستوى الفكري بشكل عام، كالموقف من الديموقراطية ومن الآخر الديني والسياسي، وكذلك الموقف من المرأة وتفعيل دورها السياسي والاجتماعي، ومن الزواج المدني والمختلط وقضايا الإرث والكثير من المسائل الاجتماعية الأخرى التي تحتاج إلى إعادة النظر. إن إصلاح ما هو دنيوي في الفكر الديني، يسهم إلى حدٍ كبير في التغييرالسياسي الاستراتيجي والتاريخي. وفي الواقع هذه مسألة في منتهى الأهمية بالنسبة إلى مستقبل العالم العربي. وقد كانت قضية الإصلاح الديني في الغرب أحد الأعمدة الرئيسة التي قامت عليها نهضته وحداثته. وهنا علينا أن نميز بين (مصطلح الحداثة) الذي يحيل إلى النقد والتجديد والإصلاح الفكري والاجتماعي، و(مصطلح التحديث) الذي يحيل إلى استيراد التقنيات واستخدامها. نحن بحاجة إلى تفعيل المصطلحين كلاهما، لكن هنالك أوهام لدى من يعتقد أنه بإمكانه انجاز التحديث بدون الغور في مسالك الحداثة مهما تذرع بمسائل الخصوصية والتراث والتقاليد. حول هذا الموضوع بالذات، كان قد أعطى فريدريك انجلز أهمية كبرى للإصلاح الديني في أوربا ، حينما اعتبره ” أهم من نشيد المارسيلييز(النشيد الأممي)”. وفي الواقع الاجتهادات والجهادات الفكرية ضمن هذا التيار مازالت إلى الآن تصدر عن أفراد ومثقفين وليس من حركات سياسية إسلامية(علي عبد الرازق، عبد الله العلايلي، خالد محمد خالد، نصر حامد أبوزيد، جمال البنا، رضوان السيد، علي الأمين، وكثيرون… ) .ولنأخذ مثالا على ذلك حركة الأخوان المسلمين في مصر التي تعتبر الحركة الأم للإسلام السياسي على مستوى العالم العربي، فهي لا يزال يطغى على مشروعها السياسي الشعار الذي يقيم القطع مع الآخر سواءً الآخر الديني أو الآخر السياسي(الإسلام هو الحل)،غير عابئة بمصالح التيارات السياسية الأخرى، وحتى غير عابئة بالنسيج الديموغرافي المصري الذي يشكل الأقباط حوالي خمسه(15 مليون). وحتى الآن السلطات الحاكمة في معظم بلدان العالم العربي بما فيها لبنان، تخدم بشكل غير مباشر وربما عن قصد، مزدوجة (السلطة/ التطرف) بمحافظتها على القوانين الانتخابية العتيقة، وتعمل كل ما بوسعها لقمع أي محاولة لاعتماد الانتخابات القائمة على اللوائح النسبية المستخدمة في أكثر بلدان العالم، وذلك لاستبعاد القوى الوطنية الديموقراطية والعلمانية.
في خضم هذا المخاض القاسي الذي يسيطر على المنطقة العربية، راحت تطفو على السطح منذ حوالي العقدين، مفاهيم الديموقراطية والعلمانية والمجتمع المدني. وهي لم تنطلق كما يروج البعض من ترف مثقفين أو عبر تسويقٍ غربي، وإنما هي انطلقت من كونها ضرورة وطنية وتاريخية تطرح نفسها (خطاً ثالثا) في منطقتنا ضمن معادلة صراع الحلقة المفرغة القائمة على: السلطات العربية/التطرف.
هذا التيار الثالث مهامه جسام، وطريقه شديدة الوعورة، ومن أهم تحدياته توسيع وتقوية قاعدته الاجتماعية. هناك من يعتبر هذا التيار حالماً وطوباوياً، خاصة الذين يراهنون في حل القضية السياسية في مجتمعاتهم على التدخل الخارجي. وكذلك من يحصر الحل بالإسلام فقط يعتبره تياراً سياسياً غربياً معادياً، وأما من يلوذ بالسلطات الحاكمة وظلالها فيكيل له كل أنواع التهم بما فيها الخيانة. وفوق هذا وذاك فهو يتعرض لهجوم لاذع من بعض الأطراف المتأرجحة بين السلطة والمعارضة(اليسراويون والقوميون الأصوليون). وطبعاً هذا الهجوم يجري دائماً وأبداً تحت يافطة الاتهام بالليبرالية، التي ابتسروا كل سماتها التاريخية الفكرية(النهضوية والمدنية والعلمانية والديموقراطية) بالرأسمالية والأمبريالية!! ناسين أن غياب هذه السمات هو السبب الداخلي الرئيس الذي أدى إلى الانهيار الدراماتيكي للمنظومة الاشتراكية، وكان هذا الغياب أحد أهم أسباب انهيار الوحدة السورية المصرية في 28 ايلول عام 1961 وانهيار النظام الناصري في ايارعام 1971 ، وسقوط تجارب الحكم (القومية الاشتراكية) الأخرى في العالم العربي.
رغم كل هذه الصعوبات والتحديات الهائلة التي تعترض التيار الوطني الديموقراطي العلماني والحداثي، في اعتقادنا يبقى هو الذي يحيل إلى التقدم في العالم العربي. لأنه هو الذي يدفع إلى تغليب وتقوية مفهوم الدولة على مفهوم السلطة، وبمعنى آخر تكريس دولة الحق والقانون، على عكس ما هو سائد الآن في معظم الدول العربية، حيث الدولة تختصر بالسلطة التنفيذية وأجهزتها الأمنية.
لكن هذا الخط الثالث أي خط المجتمع المدني والديموقراطية والعلمانية ، لكي ينجز أهدافه، لا يكفيه نقد الخصوم(السلطة، التطرف الديني، التطرف القومي،الأصولية اليسارية). كل هذا لا يكفي، إنما الأمر يتطلب بالإضافة إلى ذلك، نقد الذات ومراجعتها الدائمة فكراً وممارسة، وعدم الخوف من الاختلاف والتباين في وجهات النظر داخله. ويبقى السؤال الأهم المطروح أمامه هو: كيف يمكن أن يبني قاعدته الاجتماعية في داخل المجتمع؟؟… أو بالأحرى كيف يحقق شيئاً من الهيمنة بالمعنى الغرامشي أي شيئاً من النفوذ داخل المجتمع المدني؟ ولا بد هنا من القول، كما أن النضال الاقتصادي المجرد من النضال السياسي يدخل ضمن مفهوم الانتهازية السياسية، كذلك النضال السياسي إذا جرد من عمقه الاقتصادي والاجتماعي يدخل حينئذ في إطار الذاتية السياسية المجردة من عمقها الموضوعي.
ولذلك فهذا التيار الذي يبحث عن قاعدته الاجتماعية ليس معنياً فقط بطرح الشعارات السياسية البحتة، إنما هو معني بالتفاعل مع هموم الناس اليومية والاقتصادية والمعاشية والصحية والتعليمية والثقافية والشبابية والنسوية والبيئية، فهذه الميادين هي ميادين بناء المجتمع المدني الذي يعتبر سواغ السياسة وبحرها. وعلى هذا التيار أن يأخذ بعين الاعتبار أن حوالي ثمانين بالمائة من سكان الدول العربية المحكومة بأنظمة شمولية، قد ولدوا وترعرعوا في عهد هذه الأنظمة، وهم خارج نطاق السياسة، التي مازالت في أذهانهم تعني السجن والتعذيب والنفي والتشريد؟؟؟ السؤال الأساس إذن هو كيف يمكن أن تدخل هذه الأكثرية الساحقة في المجتمعات العربية إلى المجال السياسي وساحة الشأن العام؟؟ هذا السؤال ليس فقط مطروحاً على المعارضات العربية؛ إنما مطروحاً أيضاً على السلطات العربية الحاكمة، وليكن في علمها أن المجال السياسي إذا بقي محصوراً بها وبأعوانها فالنتائج ستكون مدمرة، ونظرة بسيطة إلى الوضع الإقليمي كافية لتعطينا فكرة عن الوضع المأسوي الذي وصل إليه نفوذ الدول العربية وجامعتهم في المنطقة، وأفضل ما يقال عنه أنه صار في الويل!!
الحوار المتمدن