في تراجع الحاجة الى المثقف
خالد غزال
يسود منذ سنوات نقاش عالمي حول موقع المثقف ودوره في انتاج الثقافة وفي التغيير الاجتماعي عامة. ينحو النقاش إلى أحكام ترمي إلى الاعتراف بتراجع هذا الدور على وجه الإجمال، بل يذهب بعضها إلى نعي المثقف. والمقصود بالمثقف هو الفاعل الاجتماعي والسياسي، فيما لا ينطبق الحكم على العاملين في مجالات ثقافية أخرى مثل الأدب والشعر والفن بمختلف أشكاله. تأتي المقارنة على قاعدة الوهج الذي حفّ بفئة واسعة من المثقفين في النصف الثاني من القرن العشرين، و”السلطة” التي تمتع بها المثقف ومارس بموجبها فعلا في الحراك السياسي والاجتماعي في أكثر من مكان في العالم. يربط محللون التراجع بمستوى التطور التكنولوجي وسيادة عالم الفضائيات التي باتت مصدرا للثقافة السهلة والمبسطة التي تصل إلى كل إنسان داخل بيته، وهو أمر انعكس على مستوى إنتاج المعرفة، وقلص من دور الكلمة المكتوبة التي كانت أساسا في عملية التثقف.
لا تصدر النظرة حول تراجع المثقف ودوره الاجتماعي عن بلدان فقيرة في هذا المجال، بل إن النقاش جار في البلدان المتقدمة والمسؤولة أساسا عن انتشار الثقافة العالمية. مما يعني أن بلدان ما كان يعرف بالعالم الثالث تعاني من حالة مفجعة على هذا الصعيد. يفرض نقاش هذا التراجع ما يتجاوز النظرة الاختزالية من كونها نتاجا للثورة التكنولوجية ولاكتساح العولمة لجميع مجالات الحياة وإنتاجها لثقافتها التي يغلب عليها الطابع الاستهلاكي. لتراجع المثقف أسباب موضوعية تتصل بالصعيد السياسي والحراك الاجتماعي، كما له أسبابه الذاتية المتصلة بالمثقف نفسه والتحولات التي أصابت توجهاته. لا تنفصل حال المجتمعات العربية عن سائر المجتمعات المماثلة لها في درجة التطور، بل تشكل نموذجا حيّا عن واقع الثقافة والمثقف بالنظر إلى ما يحف بها من قضايا أساسية على المستوى المحلي والعالمي.
مرحلة صعود المثقف
تتفاوت النظريات التي تقرأ ازدهار الثقافة أو تراجعها وبالتالي انحطاطها في بلد معين، فبعيدا عن تجريد العمل الثقافي واستقلاليته الكاملة التي تسهم في ازدهاره، لا يجب إنكار أن النهوض الثقافي أو تراجعه كان دائما مرتبطا ارتباطا وثيقا بالتطورات السياسية في البلد المعني. وعلى الشعارات السياسية كانت تبنى المنظومات الفكرية، شرحا وتوضيحا وتجاوزا للشعار والبناء عليه بما يتجاوز السياسي ليطال أمورا تبدأ من الفلسفي وتطل على الاقتصادي والاجتماعي. لا ينفي هذا الحكم أن الثقافة تظل لها استقلاليتها الخاصة وان المثقف ليس نتاجا آليا لما يفرزه الحراك السياسي.
لم ينفصل الازدهار الثقافي وإنتاج النظريات في القرن العشرين عن الصراع السياسي أولا بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، وهو صراع يحمل كل طرف فيه منظومة إيديولوجية كانت موضوعة في خدمة هذا الصراع والاستقطاب التي ولدها. في وهج السجال الحامي ولدت طبقة من المثقفين في كلا المعسكرين، وطورت كل فئة ما تراه ضروريا من الفكر السياسي والفلسفة السياسية، وهي فلسفات تفاوتت بين الليبرالية والشمولية، وهي كلها تعكس الواقع السياسي إلى هذه الدرجة أو تلك، سواء بتعبير مباشر أو باستقلالية نسبية عن هذا المعسكر أو ذالك.
شهدت مرحلة الخمسينات والستينات ما عرف بظهور اليسار الجديد، وبالتطورات التي عصفت بالمعسكر الاشتراكي،انقساما وسجالا حادا بين الصين ومن والاها وبين المعسكر الدائر في فلك الاتحاد السوفيتي السابق. لكن هذه المرحلة ارتبطت بصعود ما كان يطلق عليه ب”المثقف العضوي” الملتزم قضايا الشعب والموظف لثقافته وفكره في خدمة القضية الاجتماعية. يعود المصطلح إلى كونه إفرازا من الفكر الاشتراكي والالتزام الحاد الذي كان يفرضه، أكثر منه نتاجا للرأسمالية. شكل صعود اليسار الجديد الذي كان يستلهم الماوية والغيفارية والتروتسكية وكل منوعات الفلسفة السياسية المناهضة آنذاك للماركسية بصيغتها السوفياتية. وهي مرحلة كانت غنية جدا في السجالات الفكرية ضمن معسكر اليسار نفسه وبين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي. يدل على ذلك ما قدمته الثورة الثقافية في الصين في الستينات من القرن الماضي وما ألهمته أحداث أيار في فرنسا عام 1968. وقد عرف العالم الثالث موجة من صعود ثقافة اليسار الجديد بفكره ومنتجيه، وهي موجة اتسمت بالحيوية واستمرت نسبيا في السبعينات إلى أن شهدت انهيارها وانحسارها مع انهيار المقومات السياسية والإيديولوجية التي شكلت دعائمها.
ارتبط ازدهار الثقافة في العالم العربي في العقود الممتدة بين الخمسينات والسبعينات من القرن الماضي بالتطورات السياسية التي شهدتها المنطقة العربية في تلك الفترة. أدى صعود الحركة القومية بتياراتها المتعددة خصوصا منها الناصرية وحزب البعث إلى طرح شعارات سياسية ستشكل قاعدة تكون الثقافة العربية في تلك المرحلة. اتسمت تلك المرحلة بطرح القضايا الوطنية المتصلة بالتحرر من الاستعمار بشقيه الغربي الامبريالي والصهيوني المغتصب لفلسطين، فنجم عن ذلك شعار التحرر الوطني والقومي. في موازاته حملت الحركة القومية شعارات تحديثية تستجيب لطموحات الشعوب العربية وآمالها، فكانت شعارات الحريات السياسية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتقدم الاقتصادي ونقل الشعوب العربية من التخلف إلى الحضارة.. شكلت هذه الشعارات مصدرا لبلورة فكر سياسي وإنتاج مثقفين طوروا هذه الشعارات واكسبوها بعدا فكريا وفلسفيا لا تزال آثاره جلية بصرف النظر عن الصحة والخطأ في الطروحات التي برزت في تلك المرحلة. واستتباعا لذلك، عرفت الثقافة العربية احتكاكا بالفلسفات الغربية وجرت ترجمات واسعة لهذه الفلسفات المتعددة والمتنوعة، فاغتنت المكتبة العربية بها وشكلت هذه الترجمات زادا ساعد في تكوين مثقفين محليين ومنتجين في اكثر من ميدان. ولا يخفى أن تيارات ثقافية متعددة من اليمين واليسار والوسط كان لها وجود فاعل وشكلت سجالاتها ونتاجها عاملا في ازدهار الحياة الثقافية في تلك المرحلة.
في بعض عوامل تراجع دور المثقف
لا ينفصل التراجع عن التطورات السياسية الدراماتيكية التي شهدها العالم منذ منتصف السبعينات وصولا إلى الزمن الراهن، بدءا من محطة انهيار منظومة اليسار الجديد بعد فشل الثورة الثقافية في الصين في أعقاب المآسي التي خلفتها، وبعد أن ظهر خطر النظرية التي قالت بمركز للثورة العالمية هذه المرة يمثلها “العالم الثالث” أو البلدان الرأسمالية المتخلفة، عندما تركبت ترسيمة “النظريات العالمثالثية” التي قرأت التخلف والتقدم بوصفهما وجهين متقابلين لعملة واحدة. فبموجب هذه النظرية يحمل الاستغلال الامبريالي الازدهار للدول الصناعية والفقر والتخلف إلى البلدان التابعة، مما ترتب عليه اعتبار جماهير البلدان المتخلفة عنصر التحول وعماد الثورة العالمية. لذلك جرى تصنيف “العالم الثالث على انه البطن الرخو للنظام الرأسمالي العالمي”. وتبع ذلك القول بنظرية حرب الشعب الطويلة الأمد التي تحولت مقولة مفتاحية لدى اليسار الجديد.
العامل الآخر في تراجع المثقف والحاجة إليه تمثل في انهيار المعسكر الاشتراكي الذي أزال، لفترة من الزمن، ذلك السجال الفكري والسياسي بين المنظومتين الرأسمالية والاشتراكية، والتي انعكست “ارتخاء” بين المفكرين، على رغم بروز نظريات “نهاية التاريخ” و”صراع الحضارات”. ترك هذا العامل أثره في الدول المتقدمة بشكل خاص، وأضاف “مأساة” طالت الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين في العالم الثالث، بعد الضربة الكبرى التي أصابت مقولات “النظريات العالمثالثية”.
أما العنصر الثالث والمستمر حاليا فهو مستوى التطور الذي قدمته العولمة وخصوصا منها ثورة الاتصالات والأثر الذي تركته على الثقافة. لم تعد الأجيال الجديدة منهمكة في العمل على تكون ثقافة جادة وشاملة كما عرفته أجيال المراحل الثورية في العالم، باتت الحاجة إلى سهولة اكتساب الشيء مهما كان نوعه، وقدمت التكنولوجيا كل التسهيلات التي تجعل المرء قادرا على تحصيل المعلومات بأقصى سرعة. في هذا المجال، وبنظرة تدمج بين عوامل انهيار منظومات فكرية سابقة، وحلول وسائل تؤمن الحصول على ثقافة استهلاكية، أصبحت الثقافة بالمعنى السابق عديمة الحاجة تقريبا للمجتمعات المتقدمة منها والمتخلفة إلى حد بعيد. كما تضاءل موقع الثقافة بمعناها القديم أيضا بعد تراجع أحلام المشاريع الثورية والتغييرية، سواء بسبب اليأس والإحباط، أم بسبب تغير منطق التغيير ووسائله.
في العودة إلى العالم العربي الذي عرف في مرحلة زمنية معينة نهوضا فكريا متعدد الجوانب، فان آثار التراجع تتخذ كل يوم حجما فادحا من التحقق. هنا أيضا لابد من ربط التراجع بالتطورات السياسية التي عرفتها المنطقة. شكلت هزيمة حزيران (يونيو) 1967 الأزميل الأكبر في نعش الثقافة العربية السائدة. لم تكن الهزيمة عسكرية فقط بمقدار ما كانت هزيمة لمشروع سياسي واجتماعي واقتصادي وفكري، طال في جوهره كل المنظومات الفكرية السائدة من قومية واشتراكية وليبرالية. سقطت منظومات ثورية وشكلت تلك المرحلة العلامة الرئيسية في انهيار مشروع التحديث الذي رفع شعارات التحرر القومي والاستقلال الوطني والتقدم الاجتماعي وتحقيق الحريات السياسية وإقامة مجتمع العدالة والمساواة.. سادت فوضى ثقافية ومراجعات وانتقالات من موقع ثقافي إلى آخر. لكن الفراغ الذي تركته هزيمة الثقافة لم يدم طويلا لتملأه التيارات الأصولية بمنظومتها الفكرية والسياسية الشاملة والشمولية.
لم تدفع الثقافة فقط ثمن الانهيارات البنيوية، بل كان الافدح عليها السياسة الرسمية التي مارستها الانظمة القائمة والتي سعت الى تدجين المثقفين بوسائل متعددة تبدأ من الارهاب عبر الاعتقال والتعذيب وتمتد الى النفي من البلاد وصولا الى الاعدام والتصفيات الجسدية. اما الوسيلة الاخرى للتدجين فكانت في احتواء اجيال من المثقفين في اطار السلطة ومواقعها في الادارات العامة. ساعدت الهزائم العربية المتتالية بعد 1967 في مزيد من الاحباط العام الذي لعب دورا في مزيد من التهميش وتغيير المواقع. هذا من دون انكار حجم الاثر الذي تركه ازدهار ثقافة الاستهلاك وما تقدمه ثورة الاتصالات من تحصيل ثقافة سهلة ومتنوعة.
لم يترافق فشل التجارب الثورية والمنظومة الثقافية التي حملتها بمراجعات حقيقية لهذه التجربة وللمفاهيم الفكرية التي قامت عليها وارشدت ممارستها. وقد شهدت الثقافة العربية على وجه العموم توجها في اوساط قسم واسع من المثقفين يرتكز على ظواهر ثلاث ، الاولى تمترس المثقف عند افكاره السابقة والبقاء في قوالب جامدة من دون الاخذ في الاعتبار ان وقائع الحياة ادخلت من التغييرات الشاملة بحيث يستحيل قراءة الاوضاع الجديدة بنظارات الوقائع السابقة. والثانية تقوم على انتقال مثقفين من مواقع يسارية الى يمينية او اصولية اسلامية. من حق المثقف ان يغير خياراته الفكرية والسياسية، لكن من واجبه ايضا ان يعيد قراءة التجربة التي انخرط بهاوقدم نتاجا ثقافيا تربت عليه اجيال، مما يعني ان تقليد النقد الذاتي لا تزال غير معروفة لدى الحجم الاعظم من العاملين في الفكر والثقافة. اما الظاهرة الاخيرة والافدح ، فهي تلك المتصلة بانعكاس انهيار مشروع التحديث العربي على المثقف. تسبب الانهيار بتقلص دور الدولة والمساحة المشتركة التي تمثلها لصالح انبعاث مكونات البنى التقليدية التي قامت الدولة على انقاضها في الاساس. ازدهرت القبليات والعشائريات والطوائفية والبنى الاثنية في معظم المجتمعات العربية، وادى انبعاثها الى انتاج مثقفيها او الحاق اقسام واسعة من الاجيال الثقافية بها. التحق المثقف بقبيلته وتحول الى منتج لثقافتها ومبشرا بهويتها، كما بات منظرها السياسي والفكري. ويشهد العالم العربي اليوم منوعات واسعة من انماط مثقفين يمارسون دور “مثقف السلطان” المتمثل بالطائفة او القبيلة، او ملتحقا بالحركات الاصولية وداعية لمقولاتها ومبررا لافكارها ومبشرا بمبادئها.
هل من دور متجدد للمثقف في العالم العربي؟
تحتل ثقافة الحركات الاصولية القائمة على تقديس غير المقدس من القضايا الدنيوية والمستندة الى الاساطير والخرافات والغيبيات، متوجة باستخدام النصوص الدينية وفق ما تراه موافقا لتطلعاتها السياسية، الساحة الكبرى من الحياة الثقافية في المجتمعات العربية المأزومة. لم تأت سيطرتها من فراغ بمقدار ما كانت نتيجة هزيمة مشروع التحديث الذي حضن الى حد ما وفي مراحل معينة ثقافة ذات صلة بالعقلانية والتنوير. مما يعني ان المجتمعات العربية تقف اليوم امام تحدي انتاج ثقافة التقدم والعقلانية، وهي معركة مجتمعية يتداخل فيها السياسي مع الثقافي والفكري.
اذا كانت المجتمعات العربية تواجه اليوم مسألة نهضتها المتجددة بعد ان اجهضت المحاولات السابقة، فان احد شروط تحقيق هذه النهضة يقوم في الجانب الفكري الثقافي. سيكون من العبث تصور الدخول في هذه المعمعة من دون مواجهة تحديات على رأسها الردود الذي ستلجأ اليها الحركات الاصولية، تكفيرا وارهابا وتنكيلا وقمعا، مما يضع اصحاب هذا الفكر المتجدد امام محنة لن يكون سهلا القفز فوقها. في ظل الفوضى الثقافية السائدة بين انبعاث الفكر السلفي وتخبط منظومات المرحلة القومية والاشتراكية وعدم قدرتها على المراجعة، لابد من تسجيل ايجابي لما تشهده الساحة العربية من الدخول في معركة بناء ثقافة عقلانية، وما يعانيه العاملون في هذا المجال من اضطهاد وتهديد وتهميش ومنع تداول هذا النتاج الجديد.
في العودة الى المثقف في المرحلة الراهنة القادمة، قد يكون من المفيد له اعادة قراءة متجددة لدوره وموقعه بما يعني مغادرة اوهام التغيير التي سادت في الماضي عبره، ومغادرة ذلك الدور “الرسولي” الذي ساد لدى فئة واسعة من العاملين في هذا المجال. وهي مغادرة تستوجبها قراءة موقع المثقف في الحقبات السياسية الماضية بنجاحاتها واخفاقاتها. اما التحدي الاكبر على المثقف فسيكون في مدى انفصاله عن البنى التقليدية الصاعدة في كل مكان، وان يقبل البقاء “في الهامش” ليمكن له ان يمارس دوره الاستقلالي النقدي الذي يحفر عميقا في تربة المجتمع. ان تجاوز الهامش والتنطح لدور صاخب لن يؤدي بالمثقف الا الى الالتحاق بالسلطة سواء اكانت نظاما سياسيا ام قبيلة او طائفة او اي بنية من البنى التقليدية.
في كل الاحوال لن يكون دور المثقف النهضوي معزولا عن التقدم او التراجع في تطور المجتمع، فالصعيد السياسي وما يفرزه يلعب دورا كبيرا في النهوض او التراجع للثقافة الى اي مجال انتمت.