حماس بين خيارين
ميشيل كيلو
ثمة، بين الأيديولوجيا والواقع، هوة لطالما ابتلعت قوى سياسية وأحزابا مهمة، بما في ذلك قوى عظمى كالاتحاد السوفييتي وأحزابا كبيرة كالأحزاب الشيوعية والليبرالية.
تقود الأيديولوجيا الواقع إلى حين، عندما تكون فيها جوانب استباقية بالنسبة له. لكنها، بعد فترة من التطبيق ومن قولبة الواقع وفق خططها، تتحول إلى قيد عليه يحول دون تطوره وانبساطه وتفتح الجديد فيه، فتنهار، بغض النظر عن ما قد يكون وراءها من قوى منظمة، مثلما أثبتت تجربة السوفييت، وتثبت اليوم تجارب النظم الأيديولوجية في الوطن العربي.
في العلاقة بين الأيديولوجيا والواقع، يتوقف كل شيء على مراعاة التوازن الدقيق الكامن في معرفة اللحظة الملائمة، التي تقلع الأيديولوجيا فيها عن قيادة الواقع، وتلك التي يبدأ الأخير فيها بتخطيها وتفجير جدرانها الضيقة، ودفعها إلى حال تصير معه عقبة أمام التطور، بعد أن كانت أداته وموجهه وحاضنته. إن معرفة هذا التوازن الدقيق ومتابعته لحظة بلحظة، بدأب ونزاهة، هو الواقعية السياسية، التي تختلف كل الاختلاف عن الانصياع لما هو قائم في الواقع، لأن هذا الانصياع ليس واقعية بالضرورة، وإنما هو غالبا ضرب من الانتهازية يدفع بصاحبه إلى التخلي عن مشروعه وتاليا دوره، ويجعله تابعا لغيره يمارس السياسة باعتبارها فن التبعية وليست فن تغيير الواقع، عبر الممكن الذي يجب أن نراه ونفيد منه بالطريقة التي تضعه في خدمة مشروعنا وإرادتنا.
بلغت حماس بعد انتصارها الانتخابي لحظة حساسة تفرض عليها قراءة العلاقة بين مشروعها والواقع في ضوء تغيير حولها إلى جهة مسؤولة عن التوفيق بين القضية الفلسطينية، الشديدة التشابك مع واقع عربي ودولي للعدو مكان ونصيب ودور فيه، وبين قراءتها الخاصة لمصالح وطنها العليا، التي تلزمها بأنماط لا مفر منها من التفاعل مع سياسات سبق للسلطة الوطنية أن انتهجتها، يعني التخلي عنها ضياع منجزات وطنية، محدودة لكنها حقيقية، تمت خلال السنوات الخمسين المنصرمة، منها اعتراف العالم بالفلسطينيين كشعب له وطن من حقه إقامة دولة مستقلة عليها، واعترافه بأن هذا الشعب يمتلك قضية وطنية تتخطى قرارات الأمم المتحدة حول اللاجئين. ولعل المأزق الذي تواجهه حماس اليوم، حتى قبل أن تشكل الحكومة الجديدة، يتجلى في أمرين أحلاهما مر هما : تطبيق برامجها الأصلية مع ما يعنيه ذلك من سقوط أي نهج آخر في التعامل مع العدو غير نهج الكفاح المسلح، مع ما يحمله ذلك من عزلة عن العرب والعالم وتعرض للقوة “الإسرائيلية” المتفوقة، الممسكة بمفاصل اقتصادية واجتماعية مهمة جدا تتصل بحياة وحريات الشعب الفلسطيني، أو التخلي عن مشروعها وقبول العمل انطلاقا مما توصلت إليه السلطة الوطنية ومنظمة التحرير، مما سيحولها إلى قوة أمر واقع تعترف بالعدو وتتفاوض معه وتلتزم بالامتناع عن حمل السلاح ضده… الخ، وسيعني نهاية المشروع الإسلامي العام في فلسطين، الذي اختار تكثيف جهوده عليها، لما تمثله بالنسبة إلى العالمين العربي والإسلامي، ويمكن أن يترتب على نجاح ثورة إسلامية فيها من فرص ستضمن حلول الإسلاميين، مهما طال الزمن، محل حكومات المنطقة الحالية، أو محل بديلها الديمقراطي المحتمل.
بكلام آخر: إذا تمسكت حماس بمشروعها خسرت، وإذا تخلت عنه خسرت. فلا مفر من أن تخترع طرقا في النظر والعمل تتيح لها الإفادة إلى أبعد حد من الواقع الراهن، دون أن تتخلى عن طريقتها الخاصة في صياغته وتجديده وقيادته إلى حيث تريد : دولة فلسطينية حرة، قادرة على مواصلة النضال والجهاد من أجل فلسطين التاريخية، ولو بعد حين. ثمة ملاحظة مهمة هنا هي أن هذا بالضبط كان مخطط ياسر عرفات، الذي قام على أخذ ما يمكن أخذه، دون التخلي عن الحق في الصراع من أجل فلسطين التاريخية، وعن الإفادة من أي تطور يقع في الوطن العربي يمكن أن يغير توازن القوى بينه -وتاليا بين فلسطين- وبين العدو، ويقيم أوضاعا جديدة تتيح استئناف النضال الوطني الفلسطيني من أرضية مختلفة عن أرضيته الراهنة، التي فرضتها عليه توازنات قوى وأوضاع عربية ليست في صالحه، لكنها يجب أن تتحول إلى مناطق محررة حقا بوسع تبدل الأوضاع العربية تحويلها إلى قاعدة للصراع القادم في حقبه الجديدة والمختلفة.
هل تتبع حماس نهج القائد الشهيد أبو عمار، فيكون فيه خروجها من مأزق صعب، أم تواصل خطابها الأيديولوجي، الذي كان فاعلا في طور التعبئة والقتال، وإعداد الرأي العام الفلسطيني، لكن نفعه سيكون أقل في ممارسة حكم من واجبه تأمين فلسطين ضد انكسار ما، داخلي أو خارجي، قد يتسبب به سوء الإدارة، أو العزلة عن العرب والعالم، أو نقص الموارد، أو إصرار على أن معركة فلسطين إما أن تكون مسلحة، أو لا يكون هناك معركة وفلسطين.
يراقب العرب والمسلمون حماس، ويتمنون لها النجاح في مهمتها، ليس فقط لأنها تقوم بتجربة ذات أبعاد قومية ودينية، سياسية واجتماعية، اقتصادية وثقافية، عسكرية وأمنية، بل كذلك لأنها أول قوة إسلامية تضع خطابها ومشروعها على محك الحرية والديمقراطية، وتنال تفويضا شعبيا حقيقيا لتطبيق أفكارها ورؤاها على واقع عربي – إسلامي معقد، تتقاطع عنده عواطف العربي والمسلم البسيط وآماله وطموحاته، فلا يحق لها أن تفشل، لأن فشلها -لا سمح الله- يعني كارثة من غير الجائز وقوعها بحال من الأحوال.
ينتظر العرب حماس وما ستقدمه من ردود على التحديات الموجهة إليها، في المجالين الخارجي والداخلي. ومع أنهم يثقون بقدرتها على التعامل بجدية قصوى مع الشأن العام الفلسطيني، فإنهم على ثقة أيضا من أن هناك قوى كثيرة لا تريد لها النجاح، لأنها ترى في فشلها فشل فلسطين، التي شقت حماس بدم الشهداء الطاهر دروبا جديدة أمامها، ولا بد أن تدير بالحنكة السياسية والواقعية الثورية معركتها، خاصة وأنها لم تحقق ما حققته على صعيد العمل العسكري إلا لأنها عرفت كيف تدرجه في صعيد سياسي فاعل.
حماس أمام الاختبار الصعب، فلنصل لها ولنساعدها على تجاوزه