تطور مخيف
ميشيل كيلو
لم يكن العالم العربي أو الإسلامي هو الذي طور نظرية صدام الحضارات باعتباره احتمالاً مستقبلياً يكاد يكون حتمياً، من واجب الدول الغربية، أي الصناعية والمتقدمة، خوضه بكل ما أوتيت من قدرة، لكونه الحرب العالمية الرابعة، التي سيكون من الضروري القتال خلالها ضد المخالفين في الحضارة أو العقيدة أو الدين، ولا بد لكسبها من خوضها بزخم يفوق الزخم الذي عرفته الحرب الباردة، إذا كان الغرب يريد إنهاءها بنصر مبين يشبه ذاك الذي أحرزه ضد السوفييت.
ولم يكن العالم العربي والإسلامي هو الذي أعلن، في نهاية الحرب الباردة، أن الغرب لن يظل موحدا ما لم يبحث عن عدو جديد تتنافى طبيعته مع هويته، يمثل عالما آخر غير عالمه، وثقافة أخرى غير ثقافته، وأن هذا العدو لن يكون القومية، فقد ولى زمانها، أو الاشتراكية، التي اندثر نظامها، أو الليبرالية، التي غدت كلمة التاريخ الأخيرة ونهايته، حسب قول فوكوياما، بل سيكون الإسلام: الدين الذي يمتلك قدرات أيديولوجية وتعبوية هائلة، ويعتنقه عدد من البشر كبير إلى درجة تجعله قادراً على شن وخوض حرب عالمية، وأثبت في أفغانستان أنه قادر على محاربة قوة عظمى هي الاتحاد السوفييتي، وعلى إنزال الهزيمة بها، ولديه من العزم والتصميم ما يجعله راغبا في تحدي الدول الغربية وحضارتها الصناعية/ التقنية، التي يسمونها – زورا وبهتانا – الحضارة اليهودية/ المسيحية، فلا مفر، إذن، من مواجهته بصورة وقائية، تقوم على توجيه الضربات إليه وكسر إرادته قبل أن يبدأ الحرب الحتمية، التي لا يستطيع أحد منعها، وبوسع الغرب كسبها إن عمل بذكاء ومبادرة وحزم، وفهم طبيعة المرحلة التاريخية الجديدة، التي دخل العالم فيها، بعد انفراد الرأسمالية بالعالم، وأمريكا بالرأسمالية.
ولم يكن العالم العربي والإسلامي هو الذي أرسل الجيوش إلى ديار الغرب، الذي أعلن رغبته في جعله يتأقلم مع نظم وقيم دوله المتقدمة، وتفاهم على اقتسام ثرواته، وتقرير هوية وأنماط نظمه، وقرر أن سلوكه سيعتبر حربيا وعدوانيا إن رفض الانتقال إلى حال يمليه عليه الغربيون، وقال صراحة إنه سيتم الرد عليه بالقوة وما يتفرع عنها من ضغوط سياسية وحصار اقتصادي ومقاطعة تقنية وعزل تجاري… الخ، إن هو رفض ما سيملى عليه ويخطط له.
أخيرا، لم يكن العالم العربي والإسلامي هو الذي رفع موازناته العسكرية إلى أرقام فلكية، وهو الذي طور شبكات كشف واستطلاع لا نظير لها في تاريخ العالم، وبعث بأقماره الصناعية إلى الفضاء الكوني، لترصد وتتسقط حركات وهمسات كل مخلوق على وجه الأرض، وتتلمس ما في جوفها من ثروات، وعلى سطحها من كائنات، وفي عقول بناتها وأبنائها من أفكار وفي قلوبهم من عواطف ومشاعر.
وللعلم، فإن أمريكا، الدولة التي تقود العالم المتقدم، والتي تتابع هذا كله بدقة فائقة، لم تر الفقر والجوع والبؤس والبطالة والتشرد والذل والحرمان والمجاعات والنزاعات والحروب الأهلية، لذلك، لم تقل كلمة واحدة عملية حول سبل معالجة هذه الكوارث والتصدي لها، بل تحدثت عن حرية التجارة وحرية الأسواق، كأن الفقراء والجياع يتاجرون أو يملكون ما يبيعونه في الأسواق، أو كأن الحروب تترك لهم ما يتمسكون به ويعيشون من أجله. ولأن أمريكا تجاهلت واقع البشر والعالم، فقد ردت على كل أزمة بصنع المزيد من السلاح، وعلى كل حرب بتبني عقائد تقول باستخدام المزيد من العنف، وعلى كل كارثة بالمزيد من تجاهل أسبابها الحقيقية، وبتلفيق أسباب وهمية لها تضر بالقسم الأعظم من البشرية، لكنه يجب على العالم اعتبارها صحيحة وإلا كانت الأساطيل والصواريخ له بالمرصاد.
واليوم، تنشر جريدة محافظة في مكان قصي ومنسي من العالم رسوما تسيء إلى نبي العرب والمسلمين (صلى الله عليه وسلم)، فتبادر وسائل إعلام كثيرة إلى إعادة نشرها في البلدان الصناعية المتقدمة، لمعرفتها أنها ستثير احتجاج مواطنيها المسلمين ومواطني العالم العربي والإسلامي، الذين يربو عددهم على المليار وربع المليار إنسان، فكأنها تتعمد نشرها لتستفز هؤلاء وتشعل نيران حرب من نوع جديد هي حرب حضارات، أعتقد أنها بدأت مع هذه الرسوم لتضعنا أمام تطور مخيف يجب أن نستعد له، بعد أن أحدثت مرحلتها الحالية، الأولى، كل هذه التعبئة وهذا العنف في أربع جهات العالم، وتبين أن الفخ، الذي نصبه أصوليون غربيون للعالم العربي/ الإسلامي، قد أعطى النتائج المرجوة، وأعد الساحة لعنف أعمى لن يدور بين المسلمين وغيرهم، بل داخل صفوفهم أيضا، يبدو أن الحرب على العراق كانت مجرد بداية له، وأنه سيكون في المرات القادمة أشد وأكثر فتكا، خاصة إذا ما انفرد الأصوليون على الجانبين بإدارته وحولوه إلى الحرب المطلوبة، التي ستكون حرب حضارات في الظاهر، لكنها في العمق استمرار لحروب السيطرة والإخضاع، التي شنتها الدول المتقدمة على المتأخرة، والبلدان الصناعية على المناطق الزراعية، ولم تخل يوما من ادعاءات تزعم أن وراءها رغبة حقيقية في نشر الحضارة والتمدن.
توشك موجة الاحتجاج ضد الرسوم، التي عرفها العالم العربي/ الإسلامي، على الانتهاء، وقد كسب من وقفوا وراءها الجولة، من حيث شقوا العالم إلى معسكرين عدوين، يزعم المتقدم منهما أنه إنما يقاتل من أجل الحرية وحدها، بينما تبرز في ثانيهما قيادات أصولية لطالما قال العالم المتقدم إنه يستهدفها دون المسلمين العاديين، فكأن بروزها كان هدفه، وكأنه أراد وضعنا أمام أحجية صعبة الفهم، إلا إذا كانت أمريكا تريد توحيد بقية العالم وراءها في الحرب ضد العرب والمسلمين، الذين تقدمهم، بقوة الاستفزاز الفظيع والإساءة، في صورة من لا يستطيع أن يكون أصولياً وعنيفاً، بدلالة ما حدث خلال مظاهرات العالم الإسلامي ضد الرسوم، التي بينت كم يمكن لهؤلاء أن ينقلبوا في أي وقت إلى مقاتلين ضد الحضارة الغربية، وكم تستطيع آلة الكذب الكونية تحويلهم من ضحايا إلى مجرمين ومذنبين.
دفع اليمين الدولي الأصولية الإسلامية إلى واجهة المسرح السياسي في العالم العربي/ الإسلامي، لأنه هو، على الأرجح، جزء من استعدادات حرب الحضارات المطلوبة. فهل يدرك المسلمون، أتباع دين التسامح والوسطية والاعتدال، مرامي اليمين الدولي الحقيقية، أم ينساقوا وراء الأصوليين، فيتورطوا في حرب ساحتها هويتهم، لا يجوز السماح بنشوبها، كي لا تضيع دنياهم، دون أن ينتصروا حقا لدينهم؟ وهل يفهم العرب والمسلمون طبيعة الفخ، فيتحاشوا السقوط فيه، أم يسمحوا لقلة منهم أخذهم إليه بأعين مفتوحة، في لحظة تتسم بافتقارهم إلى الوحدة الداخلية، التي هي أول مستلزمات صمودهم، حتى لا أقول انتصارهم؟
ليست الرسوم المسيئة للنبي (صلى الله عليه وسلم) مجرد مصادفة، لذلك، لا يجوز أن يكون الرد عليها عشوائياً وحسب، ولا بد من وضع استراتيجية تبطل حرب الحضارات، التي يريدها اليمين في العالم المتقدم، لأن في إبطالها أعظم انتصار للعرب والمسلمين، وأفظع هزيمة لعدوهم الجديد