صفحات سورية

قصة التغيير” في سورية واحتمالاته

null
جلال/عقاب يحيى
أحكاية التغيير: أوانها، وسبلها، وآفاقها ترسم لوحة تضاريس المعارضة السورية وهي تدخل الميدان مجبرة، فتتكدّس العقود، وتتعدد الآراء، وتكثر الخلافات والتباينات، والنتيجة: استمرار نظام الاستبداد، واستمرار الإشكال حول التغيير وشكله، وأفقه..

عندما انقضّ الأسد (وزير الدفاع) على القيادة، والحزب، ممثلاً بأعلى هيئة قيادية فيه (المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي)، وأعلن قيام” الحركة التصحيحية” في السادس عشر من تشرين الثاني1970 (الانقلاب بدأ فعلياً في الثالث عشر، وجرى اعتماد السادس عشر باعتباره تاريخ إذاعة بيان الحركة)، كان شغله الشاغل قطع الطريق على انقلابات مضادة، فعمل، وهو الخبير بالجيش والانقلابات، كل ما من شأنه إفشال الوصول إلى دمشق عبر تطويقها بسلسلة من القطعات التي وضع المقربين على رأسها (رفعت، والوحدات الخاصة، وجيوش من القوى الأمنية)، وتصفية، وإبعاد، واعتقال كل من يشتبه بمعارضتهم، وتقريب أبناء العائلة، والقرية، والجهة، والطائفة وتسليمهم المفاصل الحساسة في الأجهزة الأمنية، والجيش..

مع ذلك، ومع فشل قيادة الحزب في التصدي للأسد مذ برز كقائد لتكتل عسكري، ولمدة تقرب العامين، رغم” قرارات المواجهة”، وسياسة التعايش والاحتضان، و” مرحلة الإزدواجية”، وظروف انعقاد المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي (إثر الإخفاق في حماية الثورة الفلسطينية في الأردن، بعد التدخّل السوري العسكري، ووفاة الزعيم عبد الناصر)، والبلبلة، والشكوك داخل القيادة حول المرحلة، والظاهرة، واستمرارها، وحول انعقاد المؤتمر وقراراته، وتداعياته.. فإن مناخ الانقلاب المضاد للانقلاب كان شائعاً بقوة، تغذيه عديد الأخبار، والتوقعات، والروايات، والتوقيتات القريبة جداً، فالأبعد قليلاً..

وكانت أوساط حزبية، وسياسية عربية ودولية تتصور أن إقدام القيادة على عقد المؤتمر، واتخاذ تلك القرارات الحاسمة يعني في ألف بائه: أن هناك تحضيراً جادّاً لتجسيد تلك القرارات، وأنه لن يطول كثيراً.

كان ذلك مدخلاً لولوج كهف “قصص” التغيير التي كانت كثيرة التداول، والحضور منذ الأيام الأولى للانقلاب، وكأنه سيقوم اليوم أو غداً.

وعلى مدى أشهر متعاقبة، اصطخبت فيها الروايات والأخبار عن محاولات لم تنجح، وعن إقدام فلان، وتخاذل، وتكويع علان، بما أوجد، وعزز بروز عقلية انتظارية تعيش على هذا الأمل، وتجري حساباتها، ومناقلاتها، ومواقفها على أمواجه، وقد تجاوزت البعثيين الذين اتخذوا موقفاً معارضاً للانقلاب (لأسباب وخلفيات متعددة) إلى عديد الأوساط السياسية، والشعبية.

ورغم أن الزمن أضعف تلك الحكايا، وهشّم، وعرّى معظمها.. إلا أنها كانت تستفيق بين الحين والآخر على شكل” سيناريوهات” كاملة، بأسماء، ورموز، وتحالفات.. وربما ساعة صفر، وكلمات سرّ!!..

التغيير المأمول ذاك تمحور حول أسلوب واحد: انقلاب “عسكر الحزب” على الانقلاب لإعادة الأمور إلى نصابها، وإعادة الحزب إلى السلطة، و”قبر المؤامرة ” التي أسقطت سلطته. (لأنه كان معافى، وبأحسن الأوضاع، لولاها!).

وعند تراخي ذلك الاحتمال، كثُر الكلام عن “انقلاب عسكري” عبر تحالف بعثيين وغيرهم، كـ”جماعة عمران”، مثلاً.. أو انقلاب عسكري لمجاميع أخرى لا علاقة لها بقيادة البعث المعتقلة (“جماعة العراق” مع غيرهم).. واللائحة طويلة، والمشاريع كثيرة لسنوات وصلت سقفها عند إقدام النظام على الدخول إلى لبنان ضمن صفقة كبرى مع الولايات المتحدة، والسعودية، وبعض الدول الخليجية، والعربية، ومباركة إسرائيلية..

المراهنة على “الجيش العقائدي”، أو بالأصح “جيش سورية الوطني” الذي اشتهر بمواقفه القومية، خاصة من القضية الفلسطينية (قدس الأقداس)، في أن يرفض الانجرار إلى ضرب الثورة الفلسطينية المتحالفة مع الحركة الوطنية اللبنانية، ولصالح الحلف الانعزالي، ومن معه، وخلفه، وبالتالي: سيعلن تمرده، والانقضاض على النظام..

لم تكن قصراً على الحالمين، والمتأملين بانقلاب عسكري، من البعثيين وحسب، بل إن قوى سياسية سورية معارضة، وفلسطينية مناشدة.. كانت شبه متأكدة أنّ ما قام به النظام الأسدي لن يمرّ دون عقاب، وحساب من الجيش.. فنشطت الآمال، ومعها: البحث عن الصيغ الجمعوية المناسبة (جبهة جديرة باستقبال الحدث).. وتبخّرت التوقعات حين قام الجيش بالمهمة، رغم كمّ الأخبار عن نوايا، ومشاريع انقلابية أقرب إلى المسرَحة.

” الفرص”، أو المراهنات تلاحقت في المنعطفات الكبيرة.. عندما كان النظام يتجرأ على الزجّ بالجيش، وتاريخ سورية، ودورها الطبيعي في غير الأمكنة المعتادة (في الداخل السوري، أو العربي).. فتجددت الآمال عند الصدام الدموي الذي حصل مع الإسلاميين، وراهن البعض على “تفسخ” الجيش، ومساندته” للعصيان العام” الذي دعت إليه الحركة الإسلامية مطلع 1980، ثم مع أحداث حماة، ومجزرتها الشهيرة / شباط 1982/..

وتلاشت الأحلام، والمراهنات، بعد أن “انتصر” النظام، وخرج أكثر قوة وتماسكاً.. مستفيداً من كمّ أخطاء الممارسة، ومن قاعدته الشعبية، والمذهبية.. لتعزيز سطوته، وفلتانه الأمني.. وتعميم الترهيب، والخوف.. فيما يعتبر: المنعطف النوعي في مساره، وفي تموضع، وحراك، ورد فعل الشعب السوري، وشدة الأزمة في قوى المعارضة، وهي التي كانت تواجه (معظمها) حرب الاعتقالات الشاملة، والتصفيات الجسدية، والملاحقة، وضرب نخاعها، وشبكاتها، ومحاولة تجفيف بحيرة إمدادها.

نامت الأحلام، والمراهنات سنوات، وبدا النظام وكأنه حقق “سيادة ” مطلقة على المعارضة والشعب، وبات كالقدر الرابض على الصدور، والأعناق، والهواء.. فهاج وماج في كل الاتجاهات، وتراجعت المعارضة حتى الرمق الأخير، الذي بالكاد يسمع أحد أنّاتها، وأنفاسها.. سوى بعض الأصوات الخارجية، المدعومة من النظام العراقي التي لا تغني، ومحاولات “التجمع” أن يبقى حيّاً ولو عبر صحيفته متقطعة الصدور، وبعض بيانات المناسبات..

ورغم أن النظام تجاوز كل الخطوط الحمراء حين دفع بقطعات من الجيش السوري إلى “حفر الباطن” لقتال العراق تحت القيادة الأمريكية، وبصفقة مشبوهة لتفويضه، وإطلاق يده في كل لبنان (1990 ـ 1991)، ثم حضوره “حفل” مؤتمر مدريد، وبدء مفاوضاته العلنية مع قادة الكيان الصهيوني.. فإن المراهنات على انقلاب عسكري اضمحلت، بالنظر إلى سلسلة التجارب السابقة، من جهة، وإدراك واقع الجيش السوري، ومن يتحكّم به، وقوة الأجهزة الأمنية، والمتسلطين فيه، وما أصابه من ضعضعة وتخريب، خاصة في رتبه العليا، والنافذين فيه، من جهة أخرى، وكان لمثل تلك النتائج آثارها البعيدة

على واقع، وحضور، ودعوات المعارضة، وعلى موقعها وأثرها بين الشعب، وعلى المستوى الخارجي.

****

عبر هذه المسافات، و”الفرص”، و”المراهنات”.. كان السؤال الكبير يطرح نفسه بقوة التحديات على الجميع: كيفيات، وزمن التغيير؟؟..

والحق أن جلّ البعثيين الذين تصدّوا للنظام منذ انقلابه، والذين قادوا العمل التنظيمي في القطر السوري.. لم يدخلوا “معمعان” المراهنة على انقلاب عسكري.. لأنهم كانوا أكثر معرفة بالذي جرى في الجيش من إبعاد وتصفيات، وتقريب، وقمع، وموضعات، من جهة، ولأن مراهنتهم انصبّت بالأساس على بناء “حزب ثوري” عبر نقد التجربة، والاستفادة من الدروس والمعطيات التي أبرزها الحكم، وإنجاز تحول باتجاه النظرية الثورية، وإسقاط مقولة الحزب الواحد القائد، بإقرار التعددية، والجبهة كطريق استراتيجي، وبالتالي: فالتغيير المنشود يجب أن يكون حصيلة، وليس مقدمة، من جهة أخرى.

لكن، وفي جميع الحالات، فإن السؤال عن أشكال التغيير ظلّ يقتحم عقول الجميع، ويحاصر كافة القوى المعنية به، خاصة وأن الأشكال معروفة، وقد جرّب البعض طريق الانقلاب العسكري، وراهن آخرون على”الكفاح المسلح”، ودخل الإسلاميون “حرباً شاملة” تعتمد على التفجيرات والاغتيالات، وتأليب الشارع، خاصة السني.. ولم يبق سوى العمل (الوئيد) التراكمي.. والذي بدوره لم يكن محط إجماع بين القوى المعنية، بما فيها تلك التي اتفقت على ميثاق ” الجبهة ـ التجمع “.

كان سؤال بعض القوى للبعثيين المعارضين للنظام يتضمن تشكيكاً بمصداقية ما يقال لهم عن توجهات ليست تآمرية، وانقلابية، ويحمل تبعات: إذا كنتم غير قادرين على عمل عسكري، وإذا أكدت جميع المنعطفات عدم حصول تحرّك عسكري ملموس.. فهل نبقى في دوامة المراهنات؟..أم أننا نحتاج إلى تغيير الأسلوب، وخطط العمل، والتكتيك؟؟؟. والذي يفهم منه: نوعاً من التهدئة مع النظام، ونوعاً من المراهنة على ما قد يضطر “للتنازل” عنه في حقلي: النضال الديمقراطي، والاجتماعي المطلبي والمهني، وهذا يفتح بدوره الموقف من طبيعة النظام، وقابلياته للانصياع للضغوط

الداخلية، وإفراز التعددية، أو اضطراره إليها.. وهو ما يتنافى وتقويم عدد من الأطراف المعارضة له، ولأسس استناده، وجوهره الاستبدادي، الفردي، الأقلوي.

وهذا ما كان مدار نقاشات طويلة داخل “التجمع”، وفي أوساط البعثيين، خاصة حول شعار “إسقاط النظام”، وفهم كل جهة له، ومداليله، ومستحقاته.

وإذا كان الاتفاق عاماً على صوابية الإسقاط، بمعنى: التغيير الجذري للأوضاع القائمة، وإقامة النظام الوطني ـ الديمقراطي البديل، كاستجابة للحصائل التحليلية، والمنحى التاريخي.. فإن حيثياته على الأرض كانت مدار اجتهادات، وتناوبات في الرؤى، والمواقف، ودرجة الاستعداد لمواجهات حازمة، وقدرة التنظيمات على تلقي وهضم الضربات المنظمة التي يواصلها النظام.

وعلى سبيل المثال، فالبعثيون، بكافة تموقعاتهم، خاصة (بعثيو 23 شباط الذين واجهوا النظام منذ الأيام الأولى، وبوتيرة اختلطت فيها جميع العوامل الذاتية والموضوعية) ليس لديهم أية هوامش للمناورة مع النظام، ولا يأملون بمجيء يوم يُسمح لهم فيه العمل بشبه علنية. فالصراع على الإرث، والاسم، والشرعية.. مفروض، ويعتمل في رؤوس البعض كحقيقة أبدية، وكمهة أساس، وبالتالي، فوتيرة المواجهة، والتعرّض للضربات المتلاحقة، والتمسّك بشعار الإسقاط، وكأنه على جدول أعمال الراهن، والشكّ القاطع باستحالة إقدام نظام استبدادي، أقلوي، أمني على منح أية هوامش ديمقراطية، أو السماح بحد ما من التراكم المطلبي والديمقراطي.. يعني: “عبثية” فكرة التراكم، أو الهدنة، وملحقاتها في عمل المعارضة.

بينما كانت بعض الأطراف تميل إلى هذه الخيارات، وربما تأمل بحدوث نوع من التغيير الذي يستجيب للتطورات والأحداث الدولية: إسقاط شاوشيسكو بتلك الصورة الدرامية وإجراء مقارنة (تشبيهية) ـ السقوط المريع للاتحاد السوفياتي، وما أعقبه من انهيارات، و”انتفاضات برتقالية”، وعديدة الألوان في أوربا الشرقية، ونمو الحراك الديمقراطي على الصعيد العالمي.. إلا عندنا، وكأن ما يجري لا علاقة لأنظمة الاستبداد به. على العكس من ذلك، وكنوع من التحسّب، والخوف من انتقال العدوى راحت تشدد من وتيرة القمع المعمم، والتحكم برقاب العباد والدولة، ومحاولة “تصدير الأزمة” إلى خارج الحدود، خاصة وأن الشهية مفتوحة لهضم كل التجاوزات في عباءة الوطنية، والقومية، والقضية الفلسطينية، وحبكة المؤامرة الخارجية، والتحدّيات الخطيرة التي تواجه الوطن.. و”الممانعة”، و”التوازن الاستراتيجي”.. وكثير من شعارات الامتصاص، ومطارق الضرب على كل محاولة لإحداث ثقب في مملكة الرعب، وجدران الاستبداد.

مات الأسد (الأب)، واتجهت الأنظار إلى (الخليفة).. وكان قليل يجزم بأن الوراثة هي التصميم للاستمرارية (بملفاتها وخصوصياتها، وأبعادها).. وهي السؤال والجواب. الوضوح والوجوب.

ابتلع العديد تلك المسرحية (الحالة النادرة) في تعديل الدستور وتفصيله على مقاس الوريث الشاب. وتركّز الانتباه على “خطاب القسم” وما جاء فيه من وعود، و”تغيير مبشّر”.. فاندلقت المعارضة وهي تدخل “مرحلة التعاطي الإيجابي” مع المستجدات، وترسم أخيّلة، وتضع تصورات عن الممكن، والمصالحة، وعن فتح الصفحة الجديدة.. انتظاراً لـ”ربيع قادم”.

سقط شعار الإسقاط بفعل التآكل الخجول، أو المنسي، وانتصبت شعارات أخرى ملفوفة بالتفاؤل عن العهد الجديد، والتطورات الدولية. واختلطت الأمنيات بالمقولات الخائفة على وطن يُستهدف، أو قد يُستهدف، دونما قدرة على رسم الحدود بينه وبين النظام، وموقع ومسؤولية النظام في ذلك، وإعلان العزم على الوقوف في خندق الوطن، والنظام “إذا ما تعرّض البلد للخطر”.. وأطلّ ما يقال ويحكى عن “ربيع دمشق” القصير.. المحترق بسعار ذات النظام وأدواته، وأساليبه.. واحترقت الأمنيات بـ”المؤتمر القطري” وضجيج التغيير وتعديل الدستور أو إبطال قوانين الطوارئ، والأحكام

العرفية، و”الانقلاب “على الذات، فتورّمت الذات، وفرّخت مشابهات المعهود.. و”دق البعض حزنهم بجرن” الوقائع.. وما من خيار، “العين بصيرة، واليد قصيرة”..

سيقول الواقعي جداً: ما باليد من حيلة، و”أن ليس بالإمكان أحسن مما كان”، وأن أوضاع المعارضة تفرض عليها التعاطي مع البصيص علّ وعسى أن يكون ضوءاً، وأن السياسة ليست ثابتة، وعليها التعامل مع المتغيرات.. و”المتغيرات” الداخلية، والمحيطية، والدولية كثيرة، وكلها باتجاه الانفتاح، والمراهنة على مرحلة جديدة. وأن المعارضة حاولت، وقدّمت ما عليها، وبرهنت أنها ليست السبب في الانسداد الحاصل، وإنما النظام الذي يعيد إنتاج نفسه، وإن ببعض التكتيكات التي تقتضيها الضرورات.. وأن “الهجوم” على النظام لدفعه إلى بعض الانفراجات مخرج شبه وحيد ضمن ممكن المعارضة. بينما كانت أطراف في المعارضة قد “نفضت اليد” نهائياً من أية مراهنة على النظام، وأنه لا سبيل في التعاطي معه سوى المجابهة على طريق التغيير الشامل، وهو التغيير الذي يستحيل أن يكون طرفاً فيه، وهو ما بدا أنه يمثل خطين داخل المعارضة..

عند غزو العراق، وسقوط النظام العراقي بتلك الطريقة، وقد عجزت كل الوسائل الأخرى في إسقاطه، رغم توفر عوامل وأجواء يستحيل أن تتوفر للمعارضة السورية.. احتدمت الآمال، واختلطت الأحلام بين إمكانية فعل مشابه لإدارة أمريكية متصهينة بدت شديدة الاندفاع، والانتفاخ، والسرعة في إقامة إمبراطوريتها.. وبين الخوف المشروع على وطن يعجز الاستبداد عن حمايته.. ثم تراخت الحسابات بفعل المغطس الأمريكي، وقوة المقاومة التي واجهت الاحتلال.. وبفعل إشكالية لم تُحسم تماماً حول موقف تلك الإدارة من النظام، والتغيير. وبالتالي: حدود الخلاف، وشروط الاتفاق.. مع كل الوقائع التي تقال عن رفض الصهيونية لأي تغيير قد يحمل مجاهيلاً، والإصرار على وجود النظام بهذه الكيفية، مع ترويضه أكثر، باتجاه”تعديل سلوكه”..

ومن جديد، انبثق أمل بالتغيير عبر الساحة اللبنانية، خاصة بعد اغتيال الحريري، وملابساته، والخروج المهين للقوات السورية، وبعد سلسلة الاغتيالات، والأحداث التي يشهدها لبنان، والتي يتهم النظام بأنه المسؤول عنها.

الذي لا شكّ فيه.. أن مقتل الحريري حمل معه إمكانية زعزعة النظام، خاصة بعد “ثورة الأرز” واندفاعتها، وشعاراتها، وبعد”تقرير ميليس” الأول والثاني الذي أشار بوضوح إلى مسؤولية النظام، والذي ترافق مع نوع من حصار عربي، دولي للنظام، بدا فيه الموقف الفرنسي، عبر الرئيس شيراك، حاسماً، ومبادراً، ورافضاً لأية مقايضات. الأمر الذي ترك تداعياته داخل المؤسسة الحاكمة، فانتشرت الروايات، وكثرت السيناريوهات.. وكان عديدها يعبّر عن وجوب البحث عن مخرج للمأزق الذي وضُعت به البلاد (على يد كمشة أفراد من العائلة)، فكانت “حالة غازي كنعان”.. التي يبدو أنها بيعت للنظام من قبل أوساط خارجية (تُتهم الولايات المتحدة) محاولة جدّية لوضع حد (للعائلة الحاكمة)، وإعلان البراءة من اغتيال الحريري. وربما فتح صفحة جديدة في سورية، والمنطقة.

واعتباراً من تلك الحادثة، بل بالوقوف عندها، وما رافقها من تطورات، فإن المتتبع للشأن السوري يدرك أن متغيرات واضحة دخلت على الخط.. أدّت إلى مناقلة في المواقع، وإلى انتقال النظام من مرحلة الدفاع المأزوم، إلى محاولة المبادرة وتصدير الأزمات للغير (والساحة اللبنانية جاهزة، وقابلياتها كبيرة).. بما يقذف بمسألة التغيير في مجهول يصعب استشفاف آفاقه.

وإذا كان المجال لا يسمح للتعمّق في التحليل السياسي، وتناول حقيقة المشروع الأمريكي، وضغوطه إزاء النظام، ومدى تأزم هذا المشروع في العراق. وحقيقة الضغوط الصهيونية لمنع العمل على إسقاط النظام، وحقيقة المشروع الشرق أوسطي الجديد، وعمليات التقسيم والضرب والطرح في الخرائط التي تعدّ للوطن العربي، وموقع الصراعات المذهبية، والإثنية في التحضير لها، وفي مستقبل صيروراتها، وحقيقة الخلاف بين الإدارة الأمريكية وإيران، وحقيقة لعبة شدّ الحبل وحدودها، واحتمالات التفاوض وأثمانها، وطبيعة التحالف السوري ـ الإيراني وأغراضه، ومدياته. وحقيقة أخطاء “قوى الرابع عشر من آذار” في الحسابات، والاصطفاف، وفي غياب المبادرة.. ومجمل تطورات الوضع العربي، خاصة في الساحة الفلسطينية، والعراقية..

فمن الواضح على سطح الأحداث، والتوقعات.. أن النظام يبدو وكأنه خرج من عنق الزجاجة.. وبالتالي: فعملية التغيير تحتاج إلى إعادة نظر، وإلى تطوير على ضوء هذه المتغيّرات. دون إغفال آثارها على قوى المعارضة: مجتمعة، ومنفردة، وإمكانية فكفكة تحالفها، وهو والذي جرى التعبير عنه في إعلان دمشق وما تلا من تطورات.

إن بيت القصيد الذي انطلقنا منه: عملية وشكل التغيير.. يعيدنا إلى طرح تساؤلات جوهرية، أهمها:

1 ـ هل فهمت المعارضة جيداً طبيعة وبنية وخصائص النظام كي تضع خططها، وتكتيكاتها المشتركة، فلا تقع في شراك المراهنات “الدونكيشوتية”، أو ترهن مواقفها لصالح آمال خلبية، ذاتوية؟؟..

وعلى سبيل الذكر: هل درست ومحّصت جيداً خلفيات، ومرامي التوريث كي لا تمنّي الأنفس بـ”عهد جديد”، وكي تقف على أرضية الحقائق، وتنطلق منها في رسم برامجها ومهامها المرحلية وغيرها، وتحالفاتها، بما في ذلك: المدى، والتكتيك، وتناغم الأدوار وتكاملها، حتى وإن كانت مفعمة باجتهادات مختلفة؟؟

2 ـ هل يؤمن البعض بأن الإدارة الأمريكية الحالية، أو من سيأتي بعدها، تضع بين أولوياتها، أو أوراقها وحساباتها إسقاط النظام (بكيفية ما، البعض يتوهّم أن أمريكا تملك عصا سحرية، فمجرد كبسة على زر التغيير يحدث)، فنتفق، أو نختلف على هذا التقدير، وتبعاته في التعاطي مع الإدارة الأمريكية؟؟.. ويجري التفريق الواضح بين أهمية، وواجب الضغوط الخارجية، وبين موقعها في جدول التغيير المطروع، والذي يجب أن يعتمد على قوى الذات، وعلى فهم طبيعة التغيير في هكذا نظام.

3 ـ هل ظنّت المعارضة، في أحسن الأحوال، وهي على أوضاعها، أنها طرف في التغيير؟ أو في معادلة التغيير حتى تفتح النار داخلها وتتمحور بين مؤيد ومعارض؟؟.. بين متهم، ومتهم..؟..

4 ـ وأخيراً هل يظنن أحد من المعارضة أن التغيير سيسقط من السماء في نظام نعرف بنيته، وقوى استناده، ومفاتيحه؟.. أم أن أي تغيير ممكن، ومحتمل لن يكون إلا عبره، ومن داخل القوى النافذة فيه؟.. ووفقاً لمسار “المحكمة الدولية” وما سيرد فيها (إذا لم تكن موضوعاً لصفقة أيضاً)، وما ستحدثه من ضغط داخل مفاصل النظام، يمكن أن يدخل على خطه قوى عربية، وإقليمية، ودولية.

وأعتقد أن زمن المفاجآت لبيانات رقم واحد قد ولّى، وأن على المعارضة أن تحزم أمرها بوعي المتغيّرات، فلا تنفّس الإحباط فيها، أو في هذا الطرف أو ذاك.. وأن تحدد مواقفها وتكتيكاتها في جميع الاحتمالات، ووفقاً لتطورات، ومضامين عملها، المستفيد من كل المنافذ الداخلية، والخارجية، وبالترافق مع مهمات عملية باتجاه إنهاض الكتلة الشعبية، وعلى ما يمكن إحداثه من ثقوب في جدار الاستبداد.. تصل حدّ الفجوات التي تسمح بفرض الحريات الديمقراطية، وبالتعددية..

إن إعداد المعارضة للتعامل مع المتغيّرات عملية مستديمة، تكشف قدراتها، ومستوى نضجها، وقابلياتها على التجدد، والتكتيك الذي لا يخلّ بوحدة عملها، ولا يسمح للنظام بالنفاذ إليها، أو خنقها.

وبقدر ما هو التغيير قضية وطنية، وقومية ملحة لوضع سورية على السكّة الصحيحة.. بقدر ما يجب على المعارضة تفهّم اجتهادات أطرافها الموصلة للهدف: طال الزمن أم قصر.

__________

كاتب وباحث سوري – الجزائر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى