صفحات سورية

سوريا تعيش مرحلة البحث عن الذات

null
روبن رايت

تتحدث المؤلفة في هذه الحلقة من الكتاب عن مدينة دمشق، العاصمة السورية العريقة، ومكانتها في التاريخ العربي بماضيه وحاضره، وتشير إلى أهمية سوريا في استقرار منطقة الشرق الأوسط، وهي تورد مقولة تدلل على هذه الأهمية بأن كل الطرق تؤدي إلى دمشق، بمعنى أن أي حل للنزاعات المحتدمة في المنطقة لا يمكن أن يتم من دون تعاون سوريا.
وتستعرض مؤلفة الكتاب كذلك تاريخ سوريا ونشوئها كدولة حديثة، وترصد العلاقة الحميمة التي تربطها بإيران الطرف المحوري الآخر في المنطقة. وتؤكد على مطلب التغيير لدى شعوب المنطقة وما طرأ عليه من تحول، فبعد أن كان يعني الخلاص من قبضة الاحتلال والاستعمار وتلبية مطلب الاستقلال الوطني بات الآن يعني منح المزيد من الحريات وإتاحة المجال أمام المشاركة الديمقراطية. تنطلق المؤلفة بعد ذلك للبحث في موضوع شائك هو علاقة الدين بالسياسة، وهي تقصد هنا الدين الإسلامي، ومدى انسجامه مع الديمقراطية. وترى أن الحل لإشكالية الدين والديمقراطية، وفق تصورها، يكمن في السير بنهج الإصلاح الديني الذي سار عليه الغرب، ولكنها تقر بأن الإصلاح المنشود يجب أن يستند إلى القرآن والسنة.
عندما زارت مؤلفة الكتاب دمشق حرصت على أن تسجل لقارئها بديهية لا يكاد يعرفها القارئ الغربي وهي: أن دمشق أقدم عاصمة في التاريخ. وتعلق على هذا الموضوع فتقول: بين مجموع الأقطار العربية، ما زالت دمشق أكثر المدن العربية ثراء بالعراقة التاريخية ولا يكاد يطاولها في ذلك سوى مدينة القدس، دونك سوق الحميدية في العاصمة السورية حيث المسالك العريقة الضيقة تفوح منها روائح التوابل، وزوايا الحرفيين المهرة ومحلات «اصنع عطرك بنفسك» وبعضها يرجع تاريخه إلى عصور الرومان.
وفي غمار هذا الجو تتردد في خاطر الزائر أسماء وألقاب وتتزاحم في الذاكرة أحداث وأحقاب على غرار القديس بولس، فتوحات المسلمين، أول عاصمة لدولة الأمويين المسلمة، ومن قبل ذلك أسماء داوود والإسكندر الأكبر والصليبيين القادمين من أوروبا وتيمور لنك المكتسح مثل إعصار من أواسط آسيا، ثم الأتراك العثمانيين، كل هؤلاء ـ تضيف المؤلفة ـ توافدوا وتوالوا على مدينة دمشق، منهم من نجح ومنهم من حاول السيطرة على المدينة، ولكنهم جميعا أضافوا طبقات من بعد طبقات إلى سجل تاريخها الطويل.
عند هذه النقطة بالذات تحيل روبن رايت إلى كتاب «أبرياء خارج الحدود» للكاتب الساخر الأميركي «مارك توين» وفيه يقول: لم يسجل تاريخ العالم أي حادثة إلا وكانت دمشق هي من تلقاها وأدرك مغزاها، إلى حد أن ظلت دمشق شاهدة على ما تبقى من هياكل الإمبراطوريات التي توالت عبر تاريخ البشر.
في السياق نفسه تعرض المؤلفة للعوامل السياسية والاستراتيجية التي تشكل في مجموعها حزمة العناصر التي تضفي الأهمية على سوريا في الزمن الراهن، ما بين السلام بين العرب وإسرائيل إلى استقرار الأحوال في العراق إلى مستقبل لبنان وأمن المنطقة ككل إلى الأحلام بالوحدة العربية، بل إلى الحرب التي يجري شنّها حاليا على الإرهاب، كلها طرق ومسالك متنوعة، ولكن هناك من لا يزال يقول إن كل الطرق تؤدي إلى دمشق وفي ذلك تنويه بقدرتها على أداء دور محوري في المنطقة.
بعدها أيضا يتطرق الكتاب إلى استعراض بالغ التكثيف لتاريخ تطور ونشوء الدولة الحديثة في سوريا وهي مسيرة شهدت في النصف الأول من القرن العشرين تبدل الأحوال وتغير مقاليد الأمور من أيدي الأتراك العثمانيين وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى إلى أيدي الانتداب الفرنسي على مدى عقدي العشرينات والثلاثينات إلى مرحلة الاستقلال عند منتصف الأربعينات حيث ظل هذا البلد «الليفانتي» كما تصفه المؤلفة بمعنى المتوسطي النزعة والمشارب عرضة باستمرار لانقلابات في نظم الحكم ما بين الاستقلال عام 1946 وعام 1970 الذي شهد وصول (الرئيس السابق) حافظ الأسد إلى السلطة.
على الصفحة السابقة نفسها تضيف المؤلفة قائلة: إن هنري كيسنجر ـ وزير خارجية أميركا الأسبق ـ وصف يوما الرئيس حافظ الأسد بأنه أكثر زعماء العالم العربي دهاء. ثم تدلي روبن رايت بشهادتها الشخصية ومن واقع تجربتها الصحافية السابقة فتقول أيضا: كنت في معية وزراء الخارجية (الأميركيين) الآخرين وكان عليهم أن ينتظروا ساعات لمجرد أن يجتمعوا إلى حافظ الأسد في منتجعه الرئاسي المحاط بسياج الأمن في الجبال التي تشرف على مدينة دمشق.
ثم تطلق المؤلفة على الحالة السائدة حاليا في سوريا الوصف التالي: إنها حالة التفتيش في جوانب الروح أو في ثنايا النفس وقد نترجم نحن هذه الأوصاف إلى عبارة تقول: إنها حالة أقرب إلى البحث عن الذات وبمعنى أن سوريا ـ بكل دورها الإقليمي المهم ليست بعيدة عن المشاكل التي تعانيها سائر الكيانات السياسية في المنطقة، وهي المشاكل التي يعرض لها كتابنا (ص 261) على أنها مزيج من عوامل سلبية شتى: تزايد السكان، الأزمات الاقتصادية، مطالب الأجيال الجديدة، الضغوط الدولية، والدعوة من جانب فئات شتى ـ فئة المثقفين بالذات إلى مزيد من الانفتاح في مجال الإعلام والمعلومات.
ولا يفوت المؤلفة أن ترصد آليات العلاقة الحميمة التي ما برحت تجمع بين سوريا وطرف إقليمي آخر في الشرق الأوسط، له بدوره أهمية وتأثير عميق على أحوال المنطقة ـ هذا الطرف اسمه إيران. وتدرك المؤلفة بيقين أن الوضع الراهن في إيران هو ثمرة لثورة دوّت أحداثها في أرجاء المنطقة وانتقلت أصداؤها إلى عالم الثمانينات من القرن الماضي، لكنها تحاول أن تطبق ما درسته في مضمار العلوم السياسية من تاريخ الثورات الكبرى التي شهدت صراعات ونزاعات داخلية ـ ولكن الأمور غالبا ما تنجلي عن حدوث تغيير، بل وتغيير جذري في نهاية المطاف، يستوي في ذلك، على نحو ما تعرض روبن رايت الثورة الفرنسية الكبرى (1789) أو الثورة البلشفية في روسيا (1917).
غير أن شعار التغيير أصبح هو نفسه عرضة للتبدّل أو فلنقل للتغيير بصورة موضوعية. والمعنى أنه فيما كان التغيير في العقود الأولى من القرن العشرين ـ وبالنسبة للشرق الأوسط بالذات ـ معناه إزالة كابوس السيطرة الإمبريالية والحكم الاستعماري الأجنبي عن كاهل شعوب المنطقة، سواء كان هذا المتحكم الأجنبي تركياً أو كان بريطانياً أو فرنسياً أو إيطالياً (في ليبيا بالذات) ومن ثم فقد كان إنجاز التغيير معناه طرد المستعمر الأجنبي وإعلان الاستقلال وإقامة حكم وطني من أبناء البلاد أنفسهم.
لكن تطورات الأمور منذ ستينات القرن الماضي، من ثورة في دنيا الإعلام والاتصال والحواسيب وانكماش المسافات الفاصلة بين الشعوب والثقافات ـ كل هذا أضفى على «التغيير» معاني غير مسبوقة أصبح في مقدمتها الدعوة إلى المشاركة الديمقراطية ورفض الحكم الشمولي والأخذ بشفافية المعرفة وسلاسة تدفق المعلومات.
وكان أن تزامنت هذه الظواهر والمعاني والدعوات مع قيام الثورة في طهران، فضلا عن فسح المجال لحوارات شملت المنطقة بأسرها ـ ولعلها لا تزال ـ حول علاقة المسجد والدولة كما تقول المؤلفة (ص 265) أو بمعنى آخر حول دور الدين في إدارة نظام الحكم منذ أواخر القرن الماضي ومطالع القرن الحادي والعشرين.
ولكي تكتب الصفحات الخاصة بإيران كان لا بد للمؤلفة أن تزور طهران وأن تجتمع من جديد إلى عدد من المشاركين في ذلك الحوار المائج بالحيوية حول دور الدين في حياة البشر في القرن الجديد والعلاقة بين الدين والديمقراطية.
وبمناسبة الديمقراطية ينقل الكتاب عن واحد من هؤلاء المفكرين المشاركين في هذا الخطاب الفكري العقائدي المهم، واسمه عبد الكريم سوروش، وهو من مواليد عام 1945 ومن مريدي الإمام الخميني، الأب الروحي للثورة الإيرانية، تفاصيل عديدة توردها المؤلفة حول هذه اللقاءات التي تمت في طهران.
لكن قد يهمنا في السياق الحالي ذلك المنعطف من حوارها مع المفكر الإيراني سوروش حين تقول مؤلفة الكتاب: بدأ سوروش الحوار قائلا إن الإسلام والديمقراطية ليسا متوافقين فحسب، بل إنهما مترابطان أشد الارتباط (ص 267)، وفي أول مقابلة معه قال: لكي تكون متدينا ـ عليك أيضا أن تكون ديمقراطيا ـ وأي مجتمع مثالي من حيث الدين، لا بد وأن تسوسه حكومة ديمقراطية.
وكان بديهيا أن تتطلع محدثته القادمة من أميركا إلى مزيد من التفسير، لحظتها خلع المفكر الإيراني نظارته العتيقة وبدأ في تنظيفها بمنديل كدأبه عندما يطرح نقطة مهمة في مثل هذا الحوار، ثم أردف يقول: يا سيدتي: إن أراد المرء أن يكون مؤمنا فلا بد أن يكون حرا، والمؤمن الحق لا بد أن يأتي إيمانه عن قناعة وإرادة حرة حيث لا إكراه في الدين وحيث لا سبيل إلى أن تصل عقيدة الإيمان إلى المؤمن الحق لا بالفرض ولا بالوراثة ولا بمجرد أن تكون جزءا من الثقافة المحلية، إن الإيمان عن ضغط أو قسر أو إرغام ليس بالإيمان الحق. والمعنى كما فهمته المؤلفة (ص 268) هو أن الحرية تسبق الإيمان بالدين، وتلك فكرة ثورية في العالم الإسلامي.
من هنا يأتي تعليقها على هذا الحوار حين تقول: هكذا فإن المفكر عبد الكريم سوروش (وأنداده) عملوا على بناء الجسر الثقافي ـ الفكري الذي يتيح للأفراد أن يكونوا مسلمين بحق وأن يكونوا ديمقراطيين بحق أيضا. على مهاد مثل هذه الجسور الفكرية، يرى كتابنا إمكانية مواصلة التغيير وئيدا وأصيلا ولكن جذريا في منطقة الشرق الأوسط. في هذا المضمار يعقد كتابنا مقارنة مع نموذج التغيير الذي شهده الغرب الأوروبي وأفضى به ـ
كما تتصور ـ للخروج من ظلام العصور الوسطى إلى شروق العصر الحديث يقول الكتاب (ص 269): جاء عصر الإصلاح الديني (مارتن لوثر وأتباعه) في إطار المسيحية إيذانا بدور فعال يؤديه الفرد العادي وإلى تحولات الديمقراطية، بيد أن هذه العملية استغرق تفعيلها نحو 4 قرون من عمر الزمن، بل ما زالت بعيدة عن الاكتمال حتى في أعرق الديمقراطيات في عالم اليوم.
من هناـ يضيف تحليل الكتاب ـ فمنطقة الشرق الأوسط يواجهها هذا التحدي الاستثنائي الذي يتمثل في دعوة وعملية الإصلاح في عالم الإسلام مع العمل في الوقت نفسه على مراجعة وتصحيح النظم السياسية القائمة. وهي دعوة تجد من يؤيدها ومن يعارضها في عالمنا الإسلامي اليوم.
في هذا السياق بالذات تشير المؤلفة إلى «الاجتهاد»، اللفظ والمعنى، بوصفه أسلوبا فكريا وتحليليا يستند في الأصل ـ كما تضيف روبن رايت ـ إلى القرآن والسنة من أجل تفسير ومعالجة مشاكل عالم متغير، ومن ثم فالاجتهاد يظل في القرن الحادي والعشرين هو مفتاح الصيغة الإسلامية من «الإصلاح الديني» (الذي شهده الغرب من 4 قرون) بقدر ما يعتبر مفتاح التغيير السياسي المنشود في منطقة الشرق الأوسط.
مع نهاية الفصل الثامن، لا يفوت مؤلفة الكتاب أن تقف مليا عند علاقات التوتر الحالية بين طهران وواشنطن، وهي تصف هذه العلاقات بأنها «حرب باردة» جديدة وتعرب عن خشيتها (ص 339) من استمرار هذا التوتر وتعميقه إلى حيث تتحول الحرب الباردة إلى مواجهة ملتهبة السخونة. المؤلفة في سطور
* مؤلفة الكتاب روبن رايت كاتبة صحافية واصلت تغطية الأحداث في كبريات الصحف الأميركية والبريطانية عبر سنوات جيل كامل.
* شملت تغطياتها الصحافية أكثر من 140 بلدا في الشرق الأوسط وأوروبا وأفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.
* نالت العديد من الجوائز الأدبية وفي مقدمتها ميدالية الأمم المتحدة الذهبية كأحسن مراسل صحافي.
* عملت كزميل باحث في جامعات يال وديوك وستانفورد بالولايات المتحدة.
* أصدرت عدة كتب مهمة تعكس في مجموعها اهتمامها بمنطقة الشرق الأوسط ومن أهم هذه الكتب: الغضب المقدس (عن التشدد الإسلامي) وآخر الثورات الكبرى (عن إيران).
– تشارك في العديد من البرامج التلفزيونية كمعلقة على الأحداث في كبرى القنوات الإخبارية.
الصفحات: 464 (كبير)
الكتاب: مستقبل الشرق الأوسط
عرض ومناقشة : محمد الخولي
الناشر: دار بنغوين ـ نيويورك ـ 2008
المصدر: البيان الاماراتية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى