الثالوث المُدمِّر الصهيونية والأصولية وأنظمة الاستبداد تحالف غير مُعلَن
وهيب أيوب
أثناء الحرب العالمية الأولى وبعيد انتهائها، سعت دول الانتداب على المنطقة العربية، فرنسا وبريطانيا لإنشاء دويلات طائفية، بعد أن قطع بلفور عام 1917 وعداً لليهود بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين. وقد سعت بالفعل فرنسا لتقسيم سوريا لأربع دويلات طائفية، أفشلها السوريون فيما بعد.
الحركة الصهيونية كانت تدرك منذ البداية أن دولتهم المنشودة ستبقى مُهدّدة ما لم يتم تجزئة المنطقة من حولها لدويلات طائفية صغيرة يسهل السيطرة عليها، بل ربما مد يد العون لبعضها ضد البعض الآخر لتكون بمثابة حزام أمني يحمي وجودها. وبهذا، تكون إسرائيل الدولة الجديدة الناشئة في المنطقة الأقوى والأكثر تحضّراً وديموقراطية من محيطها العربي، وتكون بالتالي وبحسب وعود زعماء الحركة الصهيونية السد المنيع والحائط الواقي لأوروبا والغرب من بربرية الشرق. بعد أن أكل الطُعم وشرب المقلب قائد الثورة العربية الكبرى الشريف حسين من خلال مراسلاته مع مكماهون، وباتت تقسيمات سايكس بيكو للمنطقة العربية أمراً واقعاً، وقد حافظ زعماء الدول العربية الجديدة الناشئة على توصيات المُستعمرين بترسيخ التقسيم وتعزيزه.
واستمرّت وصاية الانتداب على معظم تلك الدول حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث بدأت مرحلة الاستقلال الشكلي لكلٍ منها، ثم تأسيس جامعة الدول العربية في 22 آذار 1945 باقتراح بريطاني ليرسّخ التقسيم من جديد ميثاقياً وبإقرارٍ من أصحاب الشأن.
وهذا ما يوضح حتى اليوم دور الجامعة العربية السلبي، بل والتآمري في معظم الأحيان على الشعوب العربية كافة في مُجمل قضاياهم وحقوقهم، من خلال تحالف زعماء أنظمة استبدادية، جمهورية أو ملكية لا فرق، كلّها وراثية- فاسدة وقاهرة لشعوبها، يدعم بقاءهم واستمرارهم ميثاق وأنظمة الجامعة العربية نفسها. وأصلاً هذا الهدف من وجودها وتأسيسها بأيدٍ بريطانية ودعمٍ من وكلائها في المنطقة الذين يتبدّلون أحياناً أو يرثهم آخرون أحياناً أُخرى، لكنهم على العهد باقون.
وكان من أولى نتائج تلك الأنظمة، هزيمة جيوشهم عام 1948 أمام فرق العصابات الصهيونية على حد ما كانوا يصفونهم.
بعد أن قامت إسرائيل بترسيخ أقدامها على الأرض الفلسطينية بهذه السهولة، انفتحت شهية زعمائها على ابتلاع وضم مزيداً من الأرض العربية. وقامت عام الـ 67 بشن حرب خاطفة كانت أسهل وأيسر من سابقتها، احتلت خلالها أجزاءً من ثلاث دول عربية، واحدة قومية ناصرية والأخرى قومية بعثية والثالثة مَلَكية ضعيفة. بهذا أضافت إسرائيل إلى دولتها غزّة وسيناء والضفة الغربية وهضبة الجولان الحصينة المنيعة التي كان يُطلق على تحصيناتها “خط ماجينو” فسقطت خلال ساعات.
ثم دأبت إسرائيل بعيد الحرب مباشرة إلى محاولة إخراج ملفات الدويلات الطائفية والعمل عليها، فكان مُخططها الأول إنشاء الدولة المارونية والدولة الدرزية، وكان من بين الذين عملوا على إفشالها أحد الزعماء السياسيين من مجدل شمس “الجولان” كمال كنج أبو صالح ومحام لبناني هو كمال أبو لطيف بالتنسيق مع الزعيم كمال جنبلاط وشوكت شقير والرئيس جمال عبد الناصر. إضافة لدويلات طائفية وعرقية أُخرى كانت تنوي أميركا دعم إقامتها.
في حميم الحرب الباردة المُشتعلة بين القطبين الأميريكي والسوفييتي منذ بداية الخمسينات، واجتياح الفكر الشيوعي واليساري معظم حركات دول العالم الثالث الساعية للتحرّر، حاولت أميركا مواجهة هذا المد العارم بحركات إسلامية مضادة، والتي ساهمت بعض الدول العربية في تغذيته بالمال والرجال، فأنتجوا دولة الطالبان في أفغانستان الذين أبهروا العالم في تسامحهم! فأبوا إلاّ أن يقصفوا تماثيل بوذا الكافر بالصواريخ ويدمّروها!!!
ثم خرّجوا لنا بعد ذلك الحركات الأصولية التكفيرية المتطرّفة في طول العالم العربي وعرضه من أقصى المشرق حتى أقصى المغرب، وحصدوا منها وما زالوا شرّ ما زرعت أيديهم.
إلى أن باتوا اليوم يندبون حظّهم ويلطمون خدودهم إلى ما آلت إليه الأمور هم وحليفتهم أميركا. لقد صنعوا “فرانكشتين” جديداً فانقلب عليهم كما انقلب الأول.
وساهمت إسرائيل أسوة بغيرها بدعم بل وإنشاء حركات إسلامية في المنطقة لمواجهة نفس الفرقاء من جهة وتدعيم مبررات وجودها الأخلاقي كدولة يهودية من خلال إيجاد دويلات طائفية مماثلة لها من جهة أُخرى.
حتى تركيا العلمانية دخلت اللعبة من أوسع أبوابها، فقامت مع بداية الخمسينيات بالعمل على تخريج جيشاً بعشرات الألوف من المشايخ والأئمة ودعمتهم ببناء المساجد لينهوا المصلّين عن الشيوعية واليسارية وأخطارهما، فكانت النتيجة حزب إسلامي اليوم في السلطة التركية…مبروك.
وعلى الرغم من وجود صراع أو تناقض ظاهري في المشهد العام، بين الصهيونية والأصولية وأنظمة الاستبداد، إلا أنه يبقى مرحلياً فقط.
فكلما نشأت دولة دينية طائفية في المنطقة، زاد هذا بالتأكيد من قوة إسرائيل ومبرر وجودها كدولة عبرية خاصة بالشعب اليهودي. وكلما ترسّخ نظام استبدادي ديكتاتوري في المنطقة العربية وخاصة المحيطين بإسرائيل أكثر، كلما كان المبرر الأخلاقي لوجود إسرائيل كدولة ديمقراطية عصرية وحيدة في المنطقة أكثر وأكثر.
والعكس بالعكس، فإن أي نشوء لدولة ديمقراطية علمانية في المنطقة سينقص من عمر الدولة العبرية كدولة يهودية ربما عشر سنوات، وكل إمارة طائفية تقوم ستزيد في عمرها خمسين سنة أُخرى.
الإسرائيليون اليهود يردّدون: لماذا مسموح أن يكون هناك دول دينية إسلامية، من إيران وغيرها، وممنوع ذلك على اليهود؟
المحاججة الدينية لدى اليهود تبقى أقوى، فإن قال المسلمون إن فلسطين أراضٍ إسلامية أوقفها لنا سيدنا عمر بن الخطّاب في القرن السابع الميلادي، ولهذا نريد تحريرها لأنها مُحرّمة على غير المسلمين. رد عليهم نظراؤهم اليهود: إنها الأرض التي وعد بها الله أبانا إبراهيم، وهو أسبق من محمد وعُمر بمئات السنين، وهي من النيل إلى الفرات وليست فلسطين فحسب. وإذا اتّهم المسلمون اليهود بالعنصرية آخذين عليهم ادعاءهم أنهم شعب الله المختار؟! رد اليهود على المسلمين: ألستم القائلين، أنكم خير أُمة أُخرجت للناس؟! وهكذا….
الأنظمة العربة الاستبدادية جعلت من إسرائيل الشمّاعة المُثلى لتعليق فشلها ومشاكلها الداخلية وهزائمها عليها بغية استمرارها في الحكم والسلطة من خلال قوانين الطوارئ والأحكام العرفية والمحاكم الأمنية الخاصة، وبهذا تقدّم لإسرائيل خدمة جليلة لا يضاهيها حتى المعونات الأميركية والدعم الغربي لها.
إن أكثر الذين رفعوا شعاراتٍ مُغالية في القومية والوحدة العربية هم الذين كانوا أكثر خيانة وتدميراً لها، وهم كانوا الأكثر ابتعاداً عنها وعن تحقيقها، وكانوا دائماً يعملون – بحسب ما تم كشف مثالبهم في كتاب جورج طرابيشي “الدولة القطرية والنظرية القومية” – كانوا يعملون بعكس ما يقولون تماماً.
لقد أدّى تدخّل النظام السوري في لبنان إلى جعل معظم اللبنانيين يكفرون بكل شيء اسمه قومية عربية لمائة سنة قادمة، وجعل النظام العراقي الكويتيين ودول الخليج يرفضون ويشمئزون من مجرد ذكر الوحدة العربية لمائة مثلها.
خُلاصة:
إن وجود واستمرار نُظم القمع والاستبداد في المنطقة، خاصة وأنها لا تمتلك الشرعية من شعوبها، سيؤدي حتماً إلى المزيد من الحركات الدينية الإسلامية الطائفية المتطرفة، مما يثير حفيظة ورعب الأقليات والطوائف والمذاهب الأخرى التي قد تضطّر للتحصّن بدويلات خاصة بها تكون محمية من الغرب وربما إسرائيل. إضافة لمسيحي الشرق بكافة طوائفهم الذين هم بتناقص دائم جرّاء هجرتهم وفرارهم من أوطانهم خوفاً على وجودهم ومستقبلهم.
والصهيونية، بعد أن توقّف وفشل مشروعها التوسّعي جغرافياً، بات ما طرحه شيمعون بيرس في كتابه “الشرق الأوسط الجديد” تجديداً للفكر الصهيوني الذي يهدف للتمدّد بوسائل أُخرى.
وعليه، فإن كل ما يحصل سيكون في خدمة هذا التجديد الصهيوني مهما علت أصوات المُستنكرين الغوغاء من الأصوليين والاستبداديين ومن لفّ لفّهم، الرافضين لما خلصنا إليه من تحليل.
وأما السؤال الأخير والأهم، فهو من يتصدّى لهذا الثالوث المُدمِّر وكيف؟؟
وهيب أيوب
الجولان المحتل – مجدل شمس 15\ 8\ 2008
waheeb_ayoub@hotmail.com
خاص – صفحات سورية –