أميركا وإيران في ما يشبه مطاردات الصور المتحركة
هوشنك أوسي
لم يكن متوَّقعاً من اجتماع جنيف الذي ضمَّ كبير المفاوضين الإيرانيين سعيد جليلي، والمنسِّق الأعلى للسياسة الأوروبيَّة خافيير سولانا، أن يأتي بجديد، رغم إشادة الطرفين به!. وما كان لافتاً في ذلك الاجتماع، هو حضور الشخص الثالث في الخارجيَّة الأميركيَّة ويليم بيرنز، الذي يُعتبر الأذن اليمنى والعين اليسرى لرايس، وليس “قريباً من أذنها” وحسب!، إلى جانب ممثلي الدول الدائمي العضويَّة في مجلس الأمن الدولي، بالإضافة إلى ممثل ألمانيا. وبالرغم من أن بيرنز، اكتفى بأن يكون حضوره صامتاً، ولم ينبس ببنت شفه فيه، إلا أن تصريح الناطق باسم الخارجيَّة الأميركيَّة شون ماكروماك، عقب الاجتماع، بدد صمت بيرنز، إذ وضع إيران قيادةً وشعباً، بين خياري “التعاون أو المواجهة”.
وأعطيت إيران مهلة جديدة للرَّد على سلَّة الحوافز المقدَّمة لها، مقابل أن تتخلَّى عن طموحها ومسعاها النووي، مدَّتها أسبوعان آخران. ثمَّ يبدو أنها مددت مرَّة أخرى. لكن، إيران قد حسمت أمرها، واتخذت قرارها منذ مجيء محمود أحمدي نجاد لسدَّة رئاسة الدولة الخمينيَّة، بأن تكون دولة نوويَّة، ولن تتراجع عن هذا القرار “المقدِّس”، حتَّى لو خربت الدنيا!. على الطرف الآخر، أميركا، ومن ورائها إسرائيل، أيضاً اتخذتا قرارهما بمنع وصول إيران للنووي، ولن تتراجعا عن قرارهما، حتَّى لو خربت الدنيا أيضاً!.
معلومٌ للقاصي والداني، بأنه رغم قطع العلاقات الدبلوماسيَّة بين “بلاد العم سام” والدولة الفارسيَّة، على خلفيَّة الثورة الخمينيَّة، نهاية 1979، إلا أنَّ البلدين اللذين يبدوان لنا، أنهما يقفان على طرفي نقيض، منذ سنة 1980 ولغاية اللحظة، قد جرت بينهما اتصالات مباشرة وغير مباشرة عدَّة، ابتداءً من “إيران غيت”، على عهد إدارة ريغان، ومروراً بالحرب على أفغانستان والقاعدة وطالبان، بعد أحداث 11 سبتمبر، وما قدَّمته إيران من خدمات وتعاون استخباري للأميركيين، وصولاً لبداية التدخُّل الأميركي في العراق، وخلع النظام العراقي السابق، ووضع حلفاء إيران مكان ذلك النظام، ولعبة “شدّ الحبل” التي زاولتها طهران وواشنطن في ترتيب الأوضاع في عراق ما بعد حكم حزب البعث، على مستوى سفارتيهما في بغداد. كل هذه الاتصالات، التي كشف النقاب عنها، وبدت للعلن، في سياق التواصل بين الخصمين، أو “العدوين اللدودين”، يحيلنا للقول: إن ما خفي من تلك الاتصالات، قد يكون أعظم!.
إيران، ذهبت لاجتماع جنيف، وستذهب إلى الاجتماعات القادمة الأخرى، ذات الصلة، في مسعى كسب أكبر قدر ممكن من الوقت، وإلهاء أميركا وأوروبا، بأن إيران “راغبة” في طيّ ملَّفها النووي، سلميَّاً وبالتفاوض، والإيحاء بأن المسألة متعلِّقة فقط بحجم التعويض السياسي والاقتصادي الذي ستقبضه إيران من المجتمع الدولي، لقاء تخلِّيها عن مشروعها النووي، من جهة، ومن جهة أخرى، لكسر العزلة الدوليَّة التي يشتدُّ طوقها، رويداً، حول عنق النظام الإيراني!. أمَّاً أميركا، فذهبت لهذا الاجتماع، لتوحي للإيرانيين بأنها ليست عدوَّة إيران الخمينيَّة، بل عدوَّة إيران الخمينيَّة _ النوويَّة، وألاَّ خصومة أيديولوجيَّة بين أميركا ونظام إيران، بقدر ما هو رفض قاطع لامتلاك هذه الأيديولوجيا “الدينيَّة _ الطائفيَّة _ العرقيَّة” للذراع والدرع النووية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، كي تقول أميركا للعالم، ولمن يربطه مع إيران مصالح سياسيَّة واقتصاديَّة، ممن يعادون أي معالجة عسكريَّة للملفِّ النووي الإيراني، بخاصَّة روسيا والصين وألمانيا، إن واشنطن، قد استنفدت كل الخيارات الدبلوماسيَّة في التعاطي مع فرسان الخميني!. وبذا، تحرج أميركا شركاء إيران، وتحمِّلهم مسؤوليَّة التعنُّت الإيراني، وما قد يترتَّب على هذا التعنُّت من حسم وحزم صارم، قد يصدر من أميركا حيال الطموحات النوويَّة الإيرانيَّة.
لقد نجحت إسرائيل، ومن خلفها أميركا، في وأد الطموح النووي العراقي في مطلع الثمانينات، ووأد الطموح النووي الليبي، عبر تفكيك برنامجه النووي، ونجحت فيما يقال عن وأد “الطموح النووي السوري” قبل أشهر، عبر الهجوم الجوي الإسرائيلي على موقع، قرب مدينة دير الزور السوري، قيل إنه كان نووياً!. فلن تسمح أبداً بأن تقطف إيران ثمرة جهدها النووي في تخصيب اليورانيوم!. فالزيارات المتكررة بين المسؤولين الأمنيين والعسكريين والسياسيين، بين كل من واشنطن وتل أبيب، لا يُفهم منها أننا على مقربة طيٍّ سلميٍّ للملفِّ النووي الإيراني. ويبدو أن حضور بيرنز لاجتماع جنيف، وما قيل مؤخَّراً عن إمكانيَّة فتح مكتب لرعاية المصالح الأميركيَّة في طهران، قد أثار الطمأنينة لدى حكَّام إيران، وأعطى مؤشِّراً على نجاح سياساتهم، كما صرَّح عضو مجلس الشورى الإيراني، علاءالدين بروجردي: “أن نجاح سياسة بلاده في الشرق الأوسط، وتحديداً في لبنان، هو الذي دفع بالأميركيين إلى المشاركة في محادثات جنيف”. وسبق لمرشد الثورة الإيرانيَّة علي خامنئي، ولساسةٍ إيرانيين آخرين أن أشاروا إلى ضرورة ليّ وكسر ذراع “الشيطان الأكبر” في الشرق الأوسط، وخاصَّة في لبنان. وأقُّل ما يقال في هكذا تصريحات بأنها تكشف الغطاء عن حزب الله اللبناني، وتشير، وبعظْمة لسان الإيرانيين، إلى أنه خندق إيراني متقدِّم، خلافاً لزعم قادة هذا الحزب حول استقلاليَّته عن الأجندة الخمينيَّة في الشرق الأوسط!. والحقُّ، إن السياسة الخمينيَّة قد خطت خطوات استراتيجيَّة في لبنان، أبرزها، وأخطرها تأثيراً على مشروع الدولة اللبنانيَّة القادرة الحرَّة المستقلَّة، بأنها ألغت المعارضة في اللعبة السياسيَّة اللبنانيَّة. فما يجري حاليَّاً في لبنان، هو “ديمقراطيَّة” بدون معارضة!. ولم يعد ينطبق وصف الموالاة على فريق 14 آذار، والمعارضة على فريق 8 آذار، لأن الكل صار يؤلِّفُ سلطة أو “سَلَطَة” وطنيَّة واحدة!. هذه الـ”سَلَطَة” هي أقرب إلى النكهة الإيرانيَّة منها إلى النكهة اللبنانيَّة!. فحتَّى، من ليس له حضور في التركيبة البرلمانيَّة اللبنانيَّة حاليَّاً، أتى به حزب الله، ليوزِّع عليهم مغانم حربه الإيرانيَّة على “الشيطان الأكبر” في لبنان، (علي قانصو وطلال أرسلان نموذجاً)، على اعتبار أنهم حلفاؤه في تلك الحرب، وشركاؤه في الغنائم!.
علاقة أميركا بإيران الخمينيَّة، تشبه لعبة القطّ والفأر. فبعد أن فشلت أميركا في تغيير نظام الحكم في طهران، بعد حرب عراقيَّة _ إيرانيَّة، دامت ثماني سنوات، كانت فيها أميركا، الداعم الأبرز لصدام حسين وقتئذ، والساكت الأكبر على جرائمه وفظائعه. بعد ذلك الفشل، يبدو أنها تتَّجه لإنجاز تلك المهمَّة بنفسها. لكنها ليس مهمَّة سهلة، كما كانت مع النظام العراقي السابق. وبوش، وكلا المرشَّحين للرئاسة الأميركيَّة، أوباما وماكين، يعلمان حقَّ اليقين أن أحمدي نجاد، ليس صدام حسين، من حيث القوَّة العسكريَّة والاقتصاديَّة والشعبويَّة والتعبويَّة… الخ. لكنهما، يعلمان أيضاً أن حجم المكاسب التي ستصبُّ في طاحونة أميركا من زوال أو تقويض النظام الخميني في أيران، ربما تتجاوز المكاسب التي حققتها واشنطن جراء انهيار الهرم الأحمر في العالم، وفي قمَّته السوفيت.
غالبُ الظنِّ أن جورج دبليو بوش لن يتركها هكذا، دون أن يشعلها حرباً أخرى، وسيسلِّم مفاتيح المكتب البيضاوي لخلفه القادم، وفي ذمَّة أميركا، تبعات حربين، على أفغانستان والعراق، وحرب ثالثة، ستكون على إيران. فلعبة القطِّ والفأر بين أميركا وإيران، والتي كانت أفغانستان والعراق ولبنان وفلسطين مسارح لها، قد تجاوزت حدَّ المزاح والمداعبة، ودخلت مرحلة “أكون أو لا أكون”. فأينما وجد القطِّ الأميركي الفرصة مواتية، سينقضُّ على عنق الفأر الإيراني. وأينما سنحت الفرصة للفأر الإيراني، سينقضُّ على عنق القطِّ الأميركي، دونما رحمة. ولعبة الزمن، هي لصالح الفأر الإيراني، الذي قد يحوِّله من فأرٍ إلى ضبع مدجَّج بالنووي والنفط والاستراتيجية الخمينيَّة المذهبيَّة. والزمن ليس في صالح القطّ الأميركي طبعاً، إذ سيقلِّم أنيابه وأظافره، لصالح إيران. حينئذ، سيقف التاريخ مليَّاً، وسيتحدث غزيراً عن حكاية الفأر الذي هزم قطَّاً شرساً. في حين أن هذا القطّ، كان قد هزمَ دبَّاً أحمر فيما مضى!. وهذا ما لا تتمنَّاه أميركا، ولا تحاول مجرَّد التفكير به، وستعمل المستحيل في سبيل عدم تحققه.
المستقبل