الاتحاد من أجل المتوسّط”… كفى نفاقاً
سمير العيطة*
عدا التموضع على الصور التذكاريّة، والظهور على منصّة الشرف خلال العرض العسكري للعيد الوطني – الذي يسجّل بالمناسبة ذكرى ثورة شعبيّة – ما الذي سيتحدّث عنه قادة الدول الذين سيجتمعون في 13 تموز/ يوليو بدعوة من الرئيس ساركوزي لإطلاق “الاتحاد من أجل المتوسّط”؟
الاتحاد الأوروبّي يخرج من “صفعة تاريخيّة” مع سقوط مشروع الدستور الأوروبّي “المبسّط” بعد رفض البلد – الوحيد الذي أجرى استفتاءً- تصديقه. هذه الصفعة كانت أساساً للسيّد ساركوزي المبادر لهذه الصيغة المبسّطة، والرفض كان للأسباب نفسها التي أدّت إلى سقوط المشروع الأوّل سابقاً بعدّة استفتاءات: غياب أوروبا الاجتماعيّة. وتركيا، همزة الوصل بين أوروبا والبلاد العربيّة، ما زالت شديدة التحفّظ على هذا المشروع الجديد الذي يهدف أساساً لإبعادها عن طموحها الأوروبي. كما رفضت دول الجزيرة العربية تمويل المشاريع المحتملة، كما طلبته فرنسا وأوروبا، علماً بأنّها، على عكس الدول الأوروبية غير المتوسطية، لم تدعَ أساساً إليه. ولا شيء للجلوس والحديث فيه مع الإسرائيليين، في غياب أيّ مخرجٍ قريب المدى لمعاناة الفلسطينيين، وعدم نضج المباحثات السورية- الإسرائيليّة، وإهمال السيّد ساركوزي للمبادرة العربية.
يلمّح أصحاب الفكرة الأساسيون [1] أنّ المشروع سيأتي ليس بالأموال والاستثمارات، بل إلى “إرساءٍ قويّ لبلدان الجنوب” للسفينة الأوروبيّة. والتساؤل هو أنّه في حال صعوبة تقارب الطروحات السياسيّة، خصوصاً مع تماثل أوروبا مع مشروع الهيمنة الأمريكيّة على المتوسّط والشرق الأوسط برمّته، ما الفائدة من هذا الإرساء؟
الجنوب” للسفينة الأوروبيّة. والتساؤل هو أنّه في حال صعوبة تقارب الطروحات السياسيّة، خصوصاً مع تماثل أوروبا مع مشروع الهيمنة الأمريكيّة على المتوسّط والشرق الأوسط برمّته، ما الفائدة من هذا الإرساء؟
فعلى مستوى الاقتصاد الكلّي، ذهبت هباءً أحلام أبناء الجنوب بعد مدريد وبرشلونة بأنّ الشراكة الأوروبية ستفضي إلى “مشروع مارشال” ينتهي بنهوض الاقتصادات ومستوى المعيشة. وعلى مستوى الدولة، لم تأتِ المساعدات الأوروبيّة إلاّ لتغذيّة مكاتب دراستها لتدعم “الإصلاحات الهيكليّة” لـ”توافق واشنطن” لإضعاف الدولة ودورها في إدارة الاقتصاد وفي إعادة التوزيع الاجتماعي، مع هيمنة دوغماتية “تحرير الأسواق” والتخلّي عن المكتسبات الاجتماعيّة أصلاً الضئيلة. لم يبقَ إذاً هناك إلاّ السلطات التي لا تترك حيّزاً للتداول والمرتبطة بالاحتكارات الريعيّة. علماً أنّ هذا النموذج هو نفسه التي ترفضه الشعوب الأوروبيّة، والتي يعمل أشخاصٌ كالسيّدين برلسكوني وساركوزي على تشييده على الضفّة الشمالية. هشاشةٌ اجتماعيّة في الجنوب تقابلها هشاشة تمتدّ أيضاً في الشمال.
وليعرف القادة قبل اجتماعهم أنّ الوضع في الجنوب قد ساء كثيراً بعض عقدٍ من الإرساء الأوروبّي الأوّل. فدول الجنوب المتوسّطي [2] تحوي 200 مليون نسمة تعيش اليوم آثار قفزة النموّ السكّاني في عقود الستينات والسبعينات من القرن الماضي. إذ يأتي إلى أسواق العمل فيها 1،8 مليون شخص سنويّاً
1،8 مليون شخص سنويّاً، جزئيّاً لزيادة نسبة مشاركة النساء والأطفال للضرورات المعيشيّة، مع هجرة الأرياف وتقلّص التشغيل في القطّاع الزراعي بعد إضعاف سياسات الأمن الغذائي. ويتقلَص التشغيل أيضاً في القطّاع الصناعي وفي الوظائف الحكوميّة، وبالكاد يتأمّن “عمل” لثلثي القادمين الجدد. علماً أنّ نصف “فرص العمل” هذه هي في القطّاع غير النظامي [3]، دون عقود أجر ودون أيّ حماية اجتماعيّة. وعلماً أن ضغوط البطالة و”الإصلاح الهيكلي” والسياسات النقديّة قد أدّت إلى انخفاض الأجور الفعليّة في القطّاع النظامي وإلى اعتماد إصلاحات في قوانين العمل تجعله حتّى أكثر هشاشةً من قبل، وإلى كبح أو إلغاء فاعليّة أيّ وسيلة قانونيّة للمطالبة الاجتماعيّة.
وبما أنّ الهجرة هي الموضوع الذي يهمّ الأوروبيين، ليعرفوا أيضاً أنّ الثلث الباقي من القادمين الجدد مدعوٌّ إلى الهجرة، كسبيلٍ لتأمين معيشته [4] خاصّةً الآن من المغرب ومصر وسورية والأردن؛ وأنّ الهجرة الجديدة تخصّ أكثر المتعلّمين مما يفقد البلاد قدراتها على التنمية (وهذا بالذات ما يريده السيّد ساركوزي مع سياساته للهجرة “الانتقائيّة”). وليعرفوا أنّ من هاجر منهم إلى أوروبا (الهجرة الأولى منذ استقلال الدول المعنيّة، دون احتساب من توالدوا هناك) لا يشكّلون إلاّ نصف المهاجرين أي بأقصى التقديرات 6 مليون نسمة؛ في حين استقبلت هذه البلدان أكثر من ذلك، 7 إلى 10 مليون نسمة، من اللاجئين الفلسطينيين والسودانيين والصوماليين والأريتريين (في مصر خاصّةً)، ثمّ حديثاً العراقيين (سوريا والأردن خاصّةً). أتوا جميعهم خلال فترات ضيّقة وضمن أجواء كارثيّة في بلادهم، لا تدريجيّاً وبطلبٍ اقتصاديّ كما في أوروبا. هذا دون الهجرات الداخليّة التي أحدثتها الاضطرابات (أكثر من مليون قروي طردوا من منازلهم خلال الحرب الأهليّة في الجزائر)، ودون هجرة العمّال الأسيويين التي أصبحت ملحوظة إلى بلدانٍ كالأردن (يعمل أغلبهم في المناطق الاقتصادية الخاصّة المشتركة مع إسرائيل) ولبنان. ويجب كذلك أن يعرفوا أنّ موضوع الهجرة أكثر حساسيّةً لنا منهم، إذ أنّ تحويلات المهاجرين تصل إلى حوالي 50 مليار دولار سنويّاً (تتضمّن التحويلات الرسميّة وغير الرسميّة، أي حوالي 12 % من الناتج المحلّي الإجمالي للبلدان المعنيّة، نصفها فقط يأتي من أوروبا)؛ وهي أكبر بكثير من كلّ المساعدات الأوروبية وليست مشروطة لا سياسيّاً ولا بسياسات تحرّرٍ تجاريّ وتخلّي اجتماعي خرقاء. هذه التحويلات هي التي تسمح لهذه البلاد بتحمّل أعبائها الاجتماعيّة وخاصّة استقبال “الإخوة” المهجّرين.
فهل من يذكّر بهذا الواقع ويقول للسيّد ساركوزي أنّ سفينة الجنوب تحمل همّها وتتحمّل عنصريّتكم وتخبّطكم. جيران الجنوب ليسوا القادة والمفوّضيّة الأوروبيّة، بل شعوب أوروبا التي بدأت تلمس بعض ما تعيشه شعوب الجنوب.
هوامش :
[1] ولدت الفكرة أساساً من قبل السيّد جان- لوي غيغو، زوج وزيرة العدل الاشتراكية السابقة، وكذلك بيار باكوش، الأستاذ في جامعة باريس، قبل أن يتبنّاها السيّد ساركوزي عرضاً خلال حملته الانتخابية. راجع: http://www.cafe-geo.net/article.php…
[2] المقصود فيما يلي هو ثماني دول هي المغرب والجزائر وتونس ومصر وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين دون ليبيا وموريتانيا المرشحتين أيضاً لغياب المعطيات. كلّ المعطيات هنا من دراسة حول الشراكة الأوروبية والعمل في المتوسّط، ساهم فيها عرب وأوروبيون، ضمن مشروع للنقابات الإسبانيّة وللمنتدى النقابي الأورومتوسطي ستنشر بلغات أربع في الخريف المقبل.
[3] تتراوح نسبة العمل غير النظامي من التشغيل الكلّي في البلدان المعنيّة بين 42 % في سوريا و55 % في مصر.
[4] تشير الإحصاءات الرسميّة إلى معدّل هجرة إلى الخارج، يصل على الأقلّ إلى 300 ألف شخص سنوياً، أي 17% من الداخلين الجدد إلى سوق العمل.
– اقتصادي، رئيس تحرير النشرة العربية من لوموند ديبلوماتيك ورئيس مجلس إدارة موقع مفهوم http://www.mafhoum.com
افتتاحية لوموند ديبلوماتيك – النشرة العربية