مؤتمر الأحزاب العربية
ميشيل كيلو
بعد مؤتمر المحامين العرب، انعقد في دمشق بين 4-6 من شهر آذار الجاري مؤتمر للأحزاب العربية، الهدف منه التضامن مع سوريا ولبنان، أو بالأصح مع السياسة التي ينتهجها النظام السوري القائم في سوريا ولبنان، مع أن أحدا من اللبنانيين لم يطلب من ممثلي هذه الأحزاب التضامن معه، إلا إذا كان المؤتمر قد تضامن مع ممثلي الأحزاب اللبنانية، التي حضرته، في هذه الحالة، يكون من المبالغة، بطبيعة الحال، التحدث عن تضامن مع لبنان.
ليس التضامن مع نظم وحركات عربية بالأمر الجديد، فقد عرفه تاريخنا الحديث، وشكل جزءا من هزائمه المتلاحقة، خاصة عندما اخذ أشكالا مؤسسية اعتبرت التضامن مسألة روتينية أو تقنية يمكن القيام بها، بغض النظر عن صحة السياسة التي يتم التضامن معها. ولعلنا لم ننس بعد كيف كانت جبهات الدعم والمساندة والصمود تلتقي في عواصم عربية معينة للتضامن مع سياسات لا تأثير لها عليها، ولا تقر في بعض الأحيان جوانب منها، الأمر الذي جعل من هذه اللقاءات مناسبات لاجتماعات شخصية يتخللها السمر وتناول الطعام والقيام ببعض الجولات والزيارات السياحية أو السياسية، لا فرق، فكان الواحد من المؤتمرين يلتقي أناسا لا يستطيع لقاءهم بإمكاناته الذاتية، وخاصة منها المادية، ويزور فنادق لا تحتمل موازنته العيش فيها، ويستمع إلى كلام مألوف، لا جديد فيه، يصعب أن يزعجه الاستماع إليه، لأنه جملة رطانات دارجة يعتاش عليها العقل السياسي العربي القائم، وخاصة “التقدمي” منه، فضلا عن السياسات العربية السائرة، فكانت المؤتمرات توهم حضورها بانتمائهم إلى مجموعة سياسية عربية هائلة الحجم ضخمة الموارد، لها وجود ونفوذ رسمي وشعبي واسعين في مختلف أقطار العروبة، هي سنده ودعمه وعمقه وحليفه، علما أن الجميع كانوا يعرفون أن هذا الشعور كاذب، وأنهم ينتمون إلى تشكيلات وخطوط سياسية تغترب أكثر فأكثر عن الواقع، تنعزل يوميا عن الشعب ويتخطاها التطور، وتتحول إما إلى هياكل فارغة كتنظيمات أو إلى قوالب كلامية جامدة كخطاب، من أجل هذا الشعور الجميل، والكاذب، بالقوة والحضور، ومن أجل الاستماع إلى كلمات المؤتمرين وهي تقال على لسان غيرهم، فتبدو لهم صحيحة وحقيقية. كان العرب يكثرون من حضور المؤتمرات المختلفة، التي كثيرا ما كانوا يلتقون فيها بالأشخاص أنفسهم، ويسمعون فيها كلمات معينة، قد تتغير حسب المناسبات، لكنها تبقى خاوية من دون مضمون فاعل أو مؤثر.
كان هذا يحدث في إطار مختلف كثيرا عن الإطار الذي انعقد اخيراً فيه مؤتمرا المحامين والأحزاب في دمشق. في الماضي، الذي أصفه، كانت الحقبة فترة صعود وصمود، قبل أن تتحول اليوم إلى حقبة تدهور وانحطاط. فكان التضامن يوهم صاحبه بأنه حقا جزء من معركة حقيقية، صاعدة أو صامدة. أما اليوم، فلم يعد للتضامن معنى، ما دام المرء يتضامن مع نظم لا تشبهه، كما أخبرنا قسم من الذين حضروا مؤتمري دمشق الأخيرين من المحامين والحزبيين. وعلى سبيل المثال، فقد تضامنت الأحزاب العربية مع نظام سوريا، الذي كان سيمنعها وسيعتبرها غير شرعية وسيلاحق المنتسبين إليها وسيسجنهم، لو كانت تنشط في بلده، لأنه، مع عدم وجود قانون أحزاب، كان سيعتبرها غير قانونية وسرية، وتاليا إما متآمرة ضده أو راغبة في “إيهان عزيمة الأمة أو عاملة من أجل التفرقة الطائفية أو”… إلى آخر ما يروجه من تهم ضد المواطنين السوريين، الذين ينتسبون إلى أحزاب أو يحاولون تأسيسها. إلى هذا، ليس في هذه الأحزاب من لا يطالب بالديمقراطية ويرى فيها بديلا عن الوضع العربي القائم، ومع ذلك، فقد جاءت تتضامن مع نظام لديه أقل قدر من الديمقراطية والحرية في الوطن العربي، فكيف استطاعت أن تسمح لنفسها بتهافت كهذا، وهل يقوي تضامنها مع النظام سوريا أم يضعفها، علما أنها تربط جميعها صمود البلدان العربية، ومنها سوريا، ضد مخططات الخارج بما يتوفر لشعبها من حريات ولنظمها من انفتاح وديمقراطية، وأنها تقر بانعدام هذين في ظل نظام دمشق؟.
للخروج من هذه المتاهة المحيرة، هناك تفسير منطقي وحيد قد يفيدنا هو أن هذه الأحزاب صارت، كالنظام الذي تتضامن معه، جزءا من الماضي، وأنها فقدت مثله حس الواقع، وأخذت تعيش حياتين متناقضتين : واحدة كلامية وأخرى عملية، مع أنهما كلتاهما خابيتان لا تأثير لهما ولا نفع منهما. هذا التفسير يوضح لماذا هرول المحامون العرب للتضامن مع نظام خذلهم في مسألة الحريات والسجناء، مع أنهم أعلنوا تضامنهم معه باسم الحرية، وأن تأتي أحزاب عربية كان سيتم إعدام المنتسبين إليها من الإسلاميين لو كانوا سوريين، لتتضامن مع نظام تدينه لأنه غير ديمقراطي، وعاجز عن الوقوف في وجه ما يتعرض له وطنه من تحديات خارجية. ليس مستغربا، في ظل هذا التهافت وبسببه،أن تقول الأحزاب شيئا وتتبنى شيئا آخر، وأن تتنكر لمواقفها المعلنة، ويكون لقاؤها هنا أو هناك علامة إضافية من علامات الانهيار العربي.
لا شك في حاجة العرب إلى تضامن فعال، يومي ومتوافق عليه ونزيه، يشارك فيه الشعب بالدرجة الأولى، يشبه ذلك التضامن الذي عرفته حقبة الخمسينيات، عندما كان المواطن العربي يتحرك من الخليج إلى المحيط لنصرة قضاياه، فتتبعه القوى والأحزاب السياسية. أما أن يقتصر التضامن على أشخاص معزولين في بلدانهم، انتموا ذات يوم إلى حركات وأحزاب تلفظ أنفاسها الأخيرة تحت وطأة الاستبداد، بينما شعبها بعيد عنها، لأنها تخلت عنه، فهذا لا يصنع تضامنا ولا يخيف الأعداء والخصوم، بل يجعلهم أشد جرأة ووقاحة على العرب، لأنه يؤكد لهم أن الأمة في أسوا حال، وأنه ليس لديها ما ترد به الأذى عن نفسها غير مهرجانات الكلام، التي يحضرها عجزة لا قيمة لهم، أفلسوا كالنظم التي يتضامنون معها.
يحتاج العرب إلى أفكار وممارسات وقوى جديدة يواجهون بها زمنا مختلفا، وخطيرا، فإن اقتصر التضامن على الكلام والطعام، كان فيه خراب الأمة وهلاكها، رغم الخطب الرنانة والتعبيرات الطنانة