ميشيل كيلو

هل تستطيع السلطة العربية التي تقهر الشعب ان تدافع عنه؟


            ميشيل كيلو

ليس هناك من مبرر يسوغ قيام الحكومات العربية برفض الديمقراطية كبديل تاريخي للأوضاع القائمة غير موقف لا عقلاني يضع مصالح النظم فوق مصالح دولها ومجتمعاتها، أو يعتبرها نقيضا لها، يجعل لتلبية مصالح الحكام معني نفي مصالح الدولة والمجتمع في بلدانهم، وبالعكس.

هل بلغت أوضاعنا درجة من السوء تجعل من المحال تحقيق مصالح الحكام في إطار مصالح الدول والمجتمعات العليا، وتحتم أن يقلع هؤلاء، بالتالي، عن الاستجابة لما يفترض أنه مهمتهم الرئيسية: خدمة أوطانهم، وأن يحصروا همهم في خدمة أنفسهم، بعد وضع مصالحهم في سياق يبعدهم عن مجتمعاتهم، يملي عليهم مواقف تتخذها في العادة زمر وفئات فقدت الرغبة في التعبير عن شعوبها، وتحولت إلي عصابات تفتقر إلي الشرعية، بما فيها ذلك النمط الذي يحدده خطابها، ويتغني بقيم أزالتها ممارسات النظم نفسها من واقع بلدانها وحياة مواطنيها، بسبب التعارض بينها وبين سياساتها العملية؟

 

هذا الوضع، الذي بدأ بإسقاط الدولة والمجتمع، كان لا بد أن يقوض، بعد تراكم معين، مواقع السلطات الحاكمة ذاتها، التي عملت من أجل سقوطهما لاعتقادها أنه كفيل بتقويتها وتأبيد حكمها، لكنها تكتشف في أيامنا أنه ألقي بها إلي فراغ استراتيجي وأفقدها الأرضية الضرورية لوجودها واستمرارها، وجعلها عاجزة بالذات عن إقامة أوضاع عادية في بلدانها تمكنها من الدفاع عنها أو حتي عن نفسها. اكتشفت السلطات هذا متأخرة: حين لاح خطر نجاح الخارج في استغلال السانحة وأخذت امريكا تتحدث عن تغيير النظم الإقليمية، وظهر جليا أنه ليس هناك من جيوش أو أحزاب تستطيع حماية نظمها، وأن الجهة الوحيدة القادرة علي ذلك هي مجتمعاتها، التي اكتشفت أيضا كم أضعفتها وأفقرتها في الحقبة السابقة، فخافت منها ورفضت الاحتماء بها، لما يعنيه ذلك من تخل عن نهجها السائد وانقلاب في وظائفها وأولوياتها، وفضلت التمسك ببديلين لطالما جربتهما، يقوم أولهما علي احتواء أزمتها بالتفاهم مع الخارج، بالتكيف مع سياساته ومصالحه، ويقوم ثانيهما علي تعبئة تأييد داخلي انتقائي عبر تهييج يستثير عواطف وطنية المظهر تحول الخطر المحدق بالسلطة إلي خطر علي الوطن، وتجعل من مصالحها الأنانية والضيقة مصالح عليا للدولة والمجتمع. في الحالة الأولي: أرادت السلطات لتكيفها مع الخارج أن يكون بديلا للديمقراطية، وكذلك الأمر في الحالة الثانية كذلك، رغم أن البديل الأول يبقي الجماهير خارج اللعبة، والثاني يدخل قسما منها إليها، بشروط تعزز قدرة السلطة علي الوصول إلي البديل الأول، من حيث تقنع الخارج بأنها سلطة قادرة علي تعبئة الشارع، الذي لا ينشد الديمقراطية وإنما يتحرك لدعمها هي، وقادرة أيضا علي إخماده، بمجرد وقوع تسوية مع امريكا تجعل الهدوء واستمرار الأمر السياسي القائم مطلوبا، ولو في صيغ معدلة.

نجحت السلطات، إلي هذه اللحظة، في تجاوز المأزق الديمقراطي، مع أنه مأزق وجودي بالنسبة إلي الدولة والمجتمع العربيين، لعب دورا خطيرا في ابتعاد الرسمية العربية عن شعوبها وفي اغترابها عن حاجاتها ومطالبها، بل وفي تقويض أسس وجودها، التي اهتزت كثيرا بعد أن تبين مدي تصميمها علي مقاومة الخيار الديمقراطي، الذي كانت تعلن موافقتها عليه وإن أرجأت تحقيقه إلي ظروف ملائمة، وعلي بلوغ تسوية علي حساب بلدانها مع خارج لطالما حرضت الجماهير ضده ووصفته بالعدو، لكنها في ساعة الحساب وافقت علي ربط مصيرها به، مع الاستمرار، علي المقلب الآخر، في التلاعب بشعبها وقمعه، مع ما يعنيه هذا النهج من تعاظم في المشكلات، التي قد تدفعه إلي التمرد، ما دام للضغط حدود إن تعداها أفضي إلي ضرب الهدوء الذي يريد استتبابه.

تنأي السلطات العربية عن الإفادة من الفرص التي تتيحها الديمقراطية لها، بما في ذلك فرص المصالحة الداخلية والقيام ببداية جديدة، وتنأي عن شعوبها، التي تري في الديمقراطية شيئا يتخطي السياسة وملابساتها يتصل به وجود دولها وأوطانها، خاصة بعد تجربة العراق، التي بينت كم يمكن للخيار الديمقراطي أن يكون خيار إنقاذ الدولة والبلد، وكيف أدي التلاعب به وتجاهله إلي تدمير كل شيء، وخاصة السلطة الحاكمة. هل هناك من حاجة إلي تأكيد حقيقة خطيرة ذات وجهين، هي أن الاستعصاء الديمقراطي يجعل اختراق المجتمعات العربية سهلا من جهة، ويحول ابتزاز النظم وإسقاطها إلي مسألة وقت، بالنظر إلي أن مجتمعاتها: عنصر قوتها الأخير المتبقي، لا تقف إلي جانبها، وأنها ستسعي إلي التخلص منها بأي شكل، إن واصلت سياساتها الراهنة، التي لا تترك لها من بديل غير الاستعانة حتي بالأجنبي، للخلاص من حكام ليس لهم من مهمة غير القضاء عليها ورفض رغباتها وسجنها داخل وضع في استمراره هلاكها، كما تقول تجربة العراق المأساوية؟

ماذا يعني قيام النظم بمقاومة الديمقراطية؟ ثمة هنا أمران يستحقان الذكر هما:

ـ إن مقاومتها تعني ثقتها بأن شعوبها ومجتمعاتها لن تؤيدها أو تقف إلي جانبها، إذا ما نالت حريتها. تقول السلطات العربية بلغة صريحة إنها تتنكر لحق شعوبها في الديمقراطية والحرية، لأن شعوبها لن تستخدمهما لصالح أوطانها؟ بكلام آخر: إن الشعب سيخون وطنه، متي صار حرا، فمن الضروري، إذن، الدفاع عن الوطن بحجب الحرية عن المجتمع والمواطن وبمنعهما من بلوغها أو من إقامة نظام ديمقراطي! هذا هو منطق السلطة العربية وذاك هو مضمون خطابها! ليس لدينا أي تعليق نضيفه هنا غير إدانة هذا المنطق المقلوب، الذي يحول سلطة تتاجر بالوطن وتستهتر بمصالحه وتتحين الفرص للتفاهم مع الأجنبي عليه إلي مدافع عنه، وتجعل الشعب، الذي لطالما ضحي في سبيله وكافح من أجله خائنا يجب ضبطه … بالقمع!

ـ إن مقاومتها تعني إدراكها أن امريكا لا تريد الديمقراطية، بسبب مخاطرها الهائلة علي خططها ومصالحها وخطط ومصالح إسرائيل، وأن امريكا وإسرائيل تفضلان أي أمر قائم عليها، خاصة ان كان قادرا علي ممارسة استبداد وظيفي وفعال، وأنها تعتبره في نهاية المطاف وفي المسكوت عنه حليفا لها، وأن ما بين السلطات وواشنطن سحابة صيف ستنقشع، خاصة وأن القوي الديمقراطية معادية في معظمها لواشنطن وسياساتها.

إلي أن تحل عقد الوضع العربي الراهن في مستوياته الرسمية والشعبية الداخلية، وأصعدته الإقليمية والدولية الخارجية، سيزداد وضع العرب ضعفا علي ضعف وعجزا علي عجز. ولن يكون هناك من مخرج في ظل سلطة لديها قوة تكفي لقهر وكبح شعوبها، وشعوب لديها يأس يكفي لدفعها إلي وضع يدها في يد الشيطان ذاته، إذا ما استمرت سياسات حكامها الراهنة، وخارج لديه تصميم يكفي لجعله قادرا علي جني ثمار الانهيار العربي المفزع والشامل، الجاري علي قدم وساق.

ثمة مرحلة من حياة العرب شارفت علي الانتهاء، لكن ثمن موتها سيكون مرتفعا إلي درجة يصعب تخيلها، مع أنه ثمن واجب الدفع علي أية حال، ما دام وجود العرب يتطلب دفعه، بجميع الأشكال الممكنة والمطلوبة، وإلا أفضت نقطة الضعف الشامل، التي تمسك بنا جميعا، حكاما ومحكومين، إلي هلاكنا الأكيد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى