ميشيل كيلو

لماذا لا تطالب اسرائيل العرب بالإصلاح؟


            ميشيل كيلو

تتعالي في سياق التهويش، الذي تمارسه النظم العربية ضد الإصلاح والإصلاحيين، أصوات تزعم أن الأمر العربي القائم ليس بحاجة إلي تغيير، وأنه يتعرض لمؤامرة خارجية ليس مطلب الإصلاح غير واحد من أسلحتها المؤثرة والفاعلة. ذات يوم، ضمت جلسة حوار إصلاحيين سوريين ـ جميعهم تقريبا ذوو نزعة يسارية معادية لأمريكا وإسرائيل ـ إلي حزبيين، فقال أحد هؤلاء إن الصهيونية وأمريكا تقفان وراء الإصلاح وتدعمان تغيير الواقع العربي القائم، وأنهما تريان في دعاة الإصلاح قوة يمكن أن تقوض صمود العرب وتؤجل انهيار الإمبريالية والصهيونية الوشيك!

 

كما شهدت الأعوام الأخيرة حملة دعائية مركزة زعم إعلام النظم خلالها أن الإصلاحية العربية حركة مفتعلة تنشط بتكليف أمريكي/ إسرائيلي أو بالنيابة عن أمريكا وإسرائيل، وأنها تفتعل مشكلة لا مسوغ لها هي حاجة العرب إلي تغيير أوضاعهم ونظمهم، التي ربما كانت تحتاج حقا إلي تحديث هنا وتطوير هناك، لكنها ليست بحاجة قطعا إلي إصلاح له معني التغيير، وإلا نجح العدو الأمريكي/ الإسرائيلي في تحقيق هدفه الرئيسي، الذي عجز عن تحقيقه خلال ضربة حزيران والمرحلة التالية لها: ألا وهو التخلص من هذه النظم. الإصلاح، في هذا المنطق، هو البديل الداخلي للغزو الخارجي، وليس دعاته من الوطنيين الذين يريدون إنقاذ بلدانهم، بل هم مخربون وعملاء تجب مقاومتهم والتخلص منه.

لو تأملنا تاريخ العرب الحديث، لوجدنا أن هذا المنطق يخلو من كلمة صحيحة واحدة، فإسرائيل لم تطالب يوما أي بلد عربي بالإصلاح والديمقراطية، بل ركزت أنظارها علي قضية مركزية واحدة هي ضرورة قيام نظم تحول دون تعبئة واستخدام قدرات العرب الموضوعية، المتفوقة تفوقا ساحقا علي ما لديها من إمكانات، وتتكفل بتدمير قدراتهم الذاتية، عن طريق إضعاف وتقويض مجتمعاتهم، ذات القدرات المتفوقة بدورها علي ما لدي الصهاينة من طاقات. لا أمل لإسرائيل في كسر تفوق العرب الموضوعي دون سياسات تحيد وتشل المواطن العربي، وتضع نفسها في حالة تناقض وعداء مع داخلها، الذي ما أن تري فيه مصدر الخطر الأساسي عليها وعدوها الرئيسي، حتي تستنزف طاقاته وتدمر قدراته، وتضع نفسها ـ بوعي أو بغير وعي ـ في تكامل موضوعي مع الصهيونية، عدوه الآخر، الذي تقتضي مصلحته تأييد سحقه وإفقاره وقمعه، ومساعدة أية جهة أو سلطة تعمل علي إخراجه من الشأن العام، ما دام هذا يعني خروجه من المعركة ضدها. في هذا المنطلق الصهيوني العملي والاستراتيجي، لإسرائيل مصلحة وجودية في فعل كل ما هو ضروري لتوطيد الاستبداد العربي، ما دام يمحق المواطن والإنسان ويخرجهما من الوجود، وما دام رسوخه يصون وجودها ويضمن تفوقها. لإسرائيل مصلحة حياتية، أيضا، في ضرب أي نزوع إصلاحي أو ديمقراطي عربي يعيد، أو يمكن أن يعيد، السياسة إلي مجتمعات العرب وهذه إلي السياسة، بما أن الديمقراطية تعني، في جملة ما تعنيه، مواجهتها بطاقات لا قبل لها بمواجهتها، وبمجتمعات يستحيل عليها إنزال الهزيمة بها، يرتقي التغيير الديمقراطي بها إلي حال من الحرية والقوة تخلصها من الضعف والعجز، الذي تسبب به، خلال العصر الحديث، استبداد جامح انتشر كالوباء في أقطار الوطن العربي المختلفة، ونقل معارك العرب إلي داخل مجتمعاتهم ودولهم، وحولها إلي معارك بينهم، بينما منح إسرائيل الوقت الضروري لتعميق هوة التقدم العسكري والاقتصادي التي تفصلها عن بلدان فاقم الاستبداد تأخرها، وجعل من ضعفها قوة للعدو، في حين تلازم انفلات همجيتها ضد فلسطين مع انفلات همجية المستبدين ضد شعوبهم، وصار جليا أن تخلص العرب من عدوهم الخارجي شرطه تخلصهم من استبداد يشكل درعا واقية له، اعترف عديد من رؤساء وزاراته ـ بن غوريون ومناحيم بيغن علي سبيل المثال ـ أنه مصلحة استراتيجية عليا لهم، وأن إسرائيل لن تسمح بقيام أنظمة ديمقراطية في جوارها، وستحمي حكم المستبدين بأي ثمن وتحت جميع الظروف.

لم تكن إسرائيل، ولن تكون يوما، من دعاة الديمقراطية في الوطن العربي، لأن هذه تعني بداية تاريخ عربي مختلف فيه نهايتها. ولم تكن، ولن تكون يوما، من دعاة الإصلاح، لأن الإصلاح سيقضي علي وضع عربي تدين بوجودها وقوتها له أيضا ، خدمها أكثر من قواها الذاتية، وسيقيم وضعا جديدا يعيد طرح قضايا ومسائل العرب والعصر الخطيرة، التي طواها زمن الاستبداد القائم، وتتعلق جميعها بها أو هي علي علاقة معها، كقضية تصحيح وتطبيع وقومنة العلاقات العربية/ العربية، وتصحيح علاقات العرب مع العالم، وقضية الثروات العربية التي يجب أن يرجع عائدها إلي العرب، وقضية التنمية البشرية والإنسانية العربية، والقضايا المهمة المرتبطة بموقع العرب من العالم ودورهم فيه اقتصاديا واجتماعيا، وقضية التقدم المجتمعي والعلمي، وتحرير فلسطين بعد إقامة واقع عربي يستطيع حشر الصهاينة في وضع استراتيجي ضعيف… الخ. وكانت إسرائيل قد بذلت جهودا هائلة وشنت حروبا متلاحقة لطي صفحة هذه القضايا أو وضعها علي السكة الخاطئة التي هي عليها اليوم، فليس من المعقول أو المنطقي أن تسمح بقيام أوضاع إصلاح وديمقراطية تعيد تأسيسها كقضايا راهنة ترتبط بها وتنبع منها سياسات وخطط تجدد فاعلية أمتنا المعادية لها. وليس من المعقول أن تقبل إصلاحا يقلب توازنات قوي المنطقة لغير صالحها، وأن تقف مكتوفة الأيدي، بينما يتشكل واقع عربي في قيامه نهايتها!

تعرف إسرائيل مصلحتها الاستراتيجية، لذلك تدعم نظم الاستبداد العربي القائمة، بما فيها تلك التي لا تتوقف عن تهديدها بالويل والثبور وعظائم الأمور. وهي تعرف حسابات الخطأ والصواب، لذلك لم تطالب يوما بالديمقراطية والإصلاح في الوطن العربي. وهي ممتنة دون أي شك لنظم الاستبداد، التي:

1 ـ جرت بلدانها إلي هزائم متعاقبة ومشينة خلال نصف القرن الماضي، بعد أن سلمتها نظم 1948 المتخلفة فلسطين، وأضعفت نظم الاستبداد العرب بنيويا وجعلتهم يقبلون سلاما معها جوهره القبول بضياع فلسطين وبتحولها إلي وطن صهيوني. بسبب إنجازات الاستبداد هذه، من البديهي أن تكون إسرائيل حريصة علي استمراره، وأن تراقب بارتياب وخوف أي ضعف يصيبه وأن تقاتل ضد أي مشروع يستهدف استبداله بنظام ديمقراطي أو إصلاحي بديل.

2 ـ قامت برعاية أمريكا، ولي أمر إسرائيل، التي حمتها وعززت طابعها الاستبدادي، فليس من مصلحة الصهاينة استبدالها بنظم إصلاحية أو ديمقراطية تستطيع إخراج الأمة العربية من مأزقها الراهن، الذي أوصلتها إليه وحشرتها فيه دول عاجزة، نجحت في دفع كتلها الكبري إلي تأخر ضارب وخطير، حال بينها وبين مواجهة الصهاينة، فوجد هؤلاء أنفسهم في مواجهة زمر قليلة تتحكم بأوطانها، توفر عليها المواجهة مع شعوب حرة وقادرة علي المقاومة والقتال.

لا تريد إسرائيل إصلاح وضع عربي يضمن وجودها وتفوقها. ولا تريد ديمقراطية تضع أقدار العرب في أيديهم، وتمكنهم من استخدام مواردهم البشرية والطبيعية المتفوقة، في استخدامها نهايتها مهما دعمتها أمريكا وأيدتها.

هذه هي استراتيجية إسرائيل الحقيقية تجاه المنطقة العربية، أما الخزعبلات الإعلامية والكلامية التي تنخرط فيها من حين لآخر ضد هذا النظام العربي أو ذاك، فليست غير عدة الشغل ومادة تضليل وضلال يتم بها اصطياد المغفلين والسذج.

إلي أن يصلح العرب أحوالهم ويقيموا نظما ديمقراطية، ستبقي إسرائيل المستفيد الرئيسي من الاستبداد العربي، الذي اخرج مجتمعاتنا من السياسة عامة ومن المعركة ضدها خاصة، وكتم أنفاسها وأنكر حتي حق مواطنيها في الحياة ودمر دولها. أليس من واجبنا إقامة صلة رحم بين هذا الاستبداد وإسرائيل، وفهم السبب الذي جعلها لا تطالب يوما بإصلاح الشأن العربي أو بالديمقراطية عند العرب؟

حكاية برسم العرب: التقي هنري كيسنجر وزير خارجية أمريكا السابق يوم 14 أيار (مايو) عام 1971 مع 27 رئيس تحرير صحيفة أمريكية أتوا يطالبونه بتزويد إسرائيل بالأسلحة التي تمكنها من قهر العرب، فقال لهم: إن السلاح لا يكفي لضمان وجود إسرائيل، لأن العرب واحدة من الأمم القليلة المنجبة للحضارة، ولأن لديهم خبرة تاريخية هائلة في الصراع ضد الغزاة والمحتلين. لذلك لن نكتفي بتقوية إسرائيل عسكريا بل يجب أن نضعف في الوقت نفسه العرب ونزيدهم تمزقا وتفتتا، وننهك مواطنيهم ونفقرهم بواسطة نظم استبدادية تتكفل بتحييدهم وشلهم وإخراجهم من المعركة ضد إسرائيل، ووضعهم بعضهم في مواجهة بعض. أليس هذا ما فعله الاستبداد، الذي لا يتوقف عن اضطهادنا ونهبنا باسم المعركة ضد الصهيونية والإمبريالية، بينما تشده إليهما خطوط سرية وعلنية يتوقف عليها بقاؤه؟

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى