تقرير ميليس
ميشيل كيلو
لم يتضمن تقرير ميليس، رئيس لجنة التفتيش الدولية المستقلة في مقتل رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، تحولا نوعيا في هوية التحقيق أو في أشخاصه. ولم ينتظر أحد تحولا كهذا، كما لم ينتظر أحد أن تترتب على التقرير قرارات دولية خطيرة تصدر عن مجلس الأمن الدولي.
لكن التقرير لم يخل، رغم ذلك، من جوانب مهمة وجديدة، ولم يفشل في تحقيق تقدم جدي في هذه النقطة أو تلك، وأكد مرة أخرى مهنية العاملين فيه واهتمامهم بالوصول إلى الحقيقة، رغم ما يلاقونه من صعوبات
أما جديد التقرير، فهو يبدو في نقاط عديدة، أولها تحويل الشهود السوريين الخمسة إلى مشتبه بهم، ووجود أنباء تشير إلى رغبة اللجنة في الطلب إلى القضاء السوري إلقاء القبض عليهم. وثانيها تحديد صلاحيات اللجنة القضائية السورية، التي قال التقرير إن مرجعها هو اللجنة الدولية، وأنها لا تعتبر لجنة مستقلة، بل هي تنجز بالتعاون مع لجنة ميليس عملا ضروريا ومكملا لعملها، تقوم به لمصلحتها في المجال السوري الداخلي. وثالثها أنه فصل التحقيق إلى مسارين: لبناني تم إنجاز القسم الأكبر من العمل فيه، وسوري سيكون محل اهتمام مكثف في الفترة القادمة، مع أن في المسارين تشابكات ومسائل لا بد من متابعتها واستكمالها، وقضايا يجب دراستها والتدقيق فيها، وآفاقاً لا مفر من ريادتها، حددها التقرير بدقة وتفصيل، وقال إن على رئاسة اللجنة الجديدة متابعتها. ورابعها نفي رئيس اللجنة شائعة راجت مؤخرا تقول إنه قام بعقد اتفاق مع إحدى الجهات حول صلاحيات وعمل اللجنة، وقبل أن يستبعد من التحقيق مسؤولين سوريين بعينهم. وقد أكد رئيس اللجنة في مؤتمر صحافي انه سيستدعي كل من يتطلب التحقيق استدعاءه، وسيحقق في الفترة القادمة مع وزير خارجية سوريا فاروق الشرع بتهمة تضليل اللجنة وتقديم معلومات كاذبة إليها. وخامسها أن شهادة هسام طاهر هسام على التلفاز السوري، المناقضة لشهادته في بيروت، ستعتبر باطلة ولن يعتد بها، إلا إذا كررها أمام اللجنة الدولية. لكن الشاهد سيعتبر في هذه الحالة شخصا ضلل التحقيق تحت ضغط الجهات الأمنية السورية، وسيسجن لفترة طويلة، كما قال القاضي اللبناني الياس عيد في تعقيب على تضارب سلوك هسام وأقواله. وسادسها أن تقرير اللجنة أبرز تصميمها على مواصلة التحقيق، وطالب بتمديد عملها لستة أشهر أخرى تنتهي في الخامس عشر من يونيو/ حزيران عام ،2006 في حين انتقد رئيسها ما سماه “تعاون سوريا البطيء”، وقال في لفتة تتسم بالتذمر إن التحقيق قد يستمر سنة أو سنتين، في حال تواصلت المماطلة السورية.
قبل تقديم التقرير، راجت أنباء عن تصميم رئيس اللجنة على ترك عمله في رئاسة اللجنة، وقيل إن هذا هزيمة شخصية له، سببتها نقاط ضعف شابت تقريره، وكذلك أسلوبه في العمل، الذي اظهر ثغرات كثيرة. غير أن المعلومات أكدت أنه لم يكن مرتاحا لتدخلات في مجرى التحقيق قامت بها جهات معينة في الأمم المتحدة، وخاصة كوفي أنان، أمين عام المنظمة الدولية، الذي قيل إنه هو الذي وافق على التحقيق مع السوريين الخمسة في فيينا، في حين أصر المحقق على ضرورة قدومهم إلى لبنان، تطبيقا لقرار مجلس الأمن، الذي يعطيه حق تقرير مكان التحقيق ويطلب إلى سوريا قبول قراراته دون شروط. كما شاع أيضا أن الرجل، الذي تعرض لنقد شخصي بلغ حد السباب خصه به الإعلام الرسمي السوري، يشعر بالإحباط والهزيمة، لذلك آثر الابتعاد عن مهمته الصعبة، خاصة أن هناك صفقة تلوح في الأفق بين أمريكا وسوريا، ستنعكس على عمله وستقيده باعتبارات وحسابات سيكون من المحال إجراء تحقيق مهني ونزيه في ظلها. وفي حين نفى ميليس الخبر الأول، عندما قدم تقريره إلى أنان، نفت أمريكا الثاني على لسان أكثر من مسؤول فيها، وألحت على بقاء الرجل في منصبه، مع أنها أشارت إلى تخويف سوري ربما كان قد تعرض له، وألحت على صعوبة الظروف التي يعمل فيها.
باختصار: لم يتبدل شيء في عمل اللجنة لأن إطار عملها العام بقي دون تبديل، سواء فيما يتعلق بالقرارات الدولية، أو فيما يخص مواقف القوى الكبرى في مجلس الأمن من مهمته، التي لم تصل بعد إلى استنتاجات نهائية حول الجهة التي قتلت الحريري، فكان من المنطقي والطبيعي أن يكون تقريرها روتينياً يتضمن كشف حساب مرحلياً حول خطى جزئية، لكنها جد مهمة، وتنضوي في اتجاه يفضي إلى نتائج التحقيق النهائية، دون أن يتضمن مفاجآت كبيرة تتطلب قرارات دولية حازمة ضد أية جهة، وخاصة ضد سوريا.
هل دخلت مهمة اللجنة الدولية في سبات شتوي يصحبه ركود سيصيب عملها تقتضيه حتمية جمع وغربلة معلومات تفصيلية ومتشعبة كثيرة، من الضروري أن تأخذ مواضعها الصحيحة في قصة الجريمة الكبرى، لتكون أدلة كافية ومقنعة يمكن تقديمها إلى محكمة دولية أو لبنانية، عند نهاية التحقيق؟
ثمة تقديرات وآراء متباينة حول هذه النقطة، تختلف باختلاف أصحابها. لكن من المؤكد أن اللجنة لم تحجم عن تقديم تقريرها النهائي لأنها لم تجد دورا للنظام السوري في قتل الحريري، وأن الدول الكبرى في مجلس الأمن لم تمتنع عن أخذ قرارات جديدة ضد دمشق لاقتناعها ببراءتها من دم الحريري، كما تقول دعاية نظام دمشق. أما مواقف مجلس الأمن، فقد أملتها رغبته في عدم استباق نتائج التحقيق، دون أن يعني تعامله الراهن مع الجريمة أنه لن يكون له سلوك آخر، إذا ما انتهى التحقيق إلى نتائج نهائية تسمي الفاعلين وتتهم جهات بعينها بقتل الحريري، وتطالب بإنزال العقاب بهم.