ما يحدث في لبنان

الحاجة إلى تجاوز العصبويتين اللبنانية والسورية

خالد غزال
تشهد العلاقات السورية اللبنانية بعد توقيع اتفاق الدوحة وانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل ما يسمى بحكومة الاتحاد الوطني، مرحلة جديدة من تطبيع العلاقات المتأزمة اصلا منذ ثلاث سنوات في اعقاب اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري وما تلاه من انسحاب للقوات السورية من لبنان بعد وجود دام ثلاثين عاما. يشكل هذا «التطيع» عنصرا ضروريا لاستقامة العلاقات بين البلدين، الا انه يجب الحذر من الشكليات التي يحلو للبنانيين التعلق بها وتركيب الاوهام عليها، من مثل اقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين، او البحث في الاتفاقات السابقة وغيرها مما ورد في البيان المشترك الذي اعقب زيارة رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال سليمان الى دمشق في الاسبوع اللماضي من شهر أغسطس (آب) الجاري. فاستقامة العلاقات بين البلدين يتطلب اكثر مما هو مطروح في الخطابين السوري واللبناني واللذين يقومان على وظيفة تبريد شكلي للعلاقة. يقوم التوتر بين البلدين، نظاما وشعبا، على موروثات تاريخية تشكلت بموجبها مفاهيم عصبوية حفرت ولا تزال عميقا في شحن الخلافات بين البلدين. فما هي هذه «المنظومة الفكرية» التي تؤسس لاستمرار الخلافات وكيف تتجلى سورياً ولبنانيا.
لقد اتسم الوجود السوري في لبنان بسياسة غلّبت المصالح السورية المباشرة على المصالح اللبنانية. كانت سوريا صاحبة خطة أصلية تجاه لبنان ترى فيه موقعاً توظفه في معركتها الإقليمية وتقوية دورها. اعتمدت هذه الخطة إدارة حرب أهلية ساخنة وباردة، استناداً إلى عوامل لبنانية جاهزة وعاملة على استمرار هذه الحرب. وتحولت سورية إلى عامل داخلي رئيسي فاخترقت البنية اللبنانية وصادرت الحياة السياسية. لعبت على الانقسامات الطائفية الموجودة أصلاً، فهمشت قياداتها وقمعتها نفياً أو اغتيالاً، وغلّبت طوائف على أخرى، ومارست سياسة غير سليمة تجاه اللبنانيين أشعرت الكثيرين منهم بالقهر.
ولما أعاد التدويل عام 1989 تسليم المقاليد اللبنانية لسورية بعد اتفاق الطائف، تميزت السياسة السورية بهيمنة شبه كاملة على مجمل الحياة السياسية اللبنانية. فبات في يد أجهزتها تعيين رئيس الجمهورية والحكومة وتشكيل الحكومات، إضافة إلى التدخل في الشؤون الإدارية والمالية للبلد. وقد أمعنت في سياسة أخلّت بالتوازن والوفاق الوطني. وتدخلت في الانتخابات التشريعية من خلال فرض قوانين انتخابية غير عادلة أو عبر تشكيل اللوائح وفق سياستها. وهي لم توفر في ممارستها الحياة الاقتصادية، ففرضت الخوات على المؤسسات وعلى المشاريع اللبنانية الإعمارية.
في المقابل، يستحيل إعفاء اللبنانيين من مسؤوليتهم عن هذا الاستفحال السلبي في السياسة السورية تجاه بلدهم، إذ شكل الانقسام الأهلي اللبناني العامل الأهم الذي مكّن السياسة السورية من الهيمنة. وقد استنصر جميع فرقاء الحرب الأهلية بسورية، واستعانوا بها في صراعاتهم الطوائفية لتحقيق الغلبة وتعديل موازين القوى الداخلية.
وإذا كانت العصبوية اللبنانية تبدو اليوم نتاجاً مباشراً لتراكم سلبيات الممارسة السورية، إلا أن هذه العصبوية تقوم أيضاً على تراث أيديولوجي عقائدي-خرافي يقول بالتفوق اللبناني وتميزه الفكري والعلمي وتطوره الحضاري الذي لم تصل إليه الشعوب العربية، حتى أن هذا التراث يجد تعبيره في نظرة تكاد تحتقر الآخر العربي. كما تتغذى هذه النظرة الخرافية من رؤية سياسية بائسة ترى أن اللبنانيين متفقون وموحدون وطنياً، لا ينقصهم سوى خروج الغريب من أرضهم حتى يتلاقوا ويضعوا خلافاتهم جانباً وتعود اللحمة الوطنية إلى صفوفهم.

تشكل هذه البراءة تجاه الذات، وتحميل الغريب مسؤولية النزاع الداخلي- الأهلي عنصراً مساعداً في تأجيج هذه العصبوية اللبنانية.
في الجانب الاخر، تندلع عصبوية سورية لا تقل حدة عن مثيلتها اللبنانية. فقد شكل الخروج السوري من لبنان، وبالطريقة التي جرى فيها العامل «المفجّر» لهذه العصبوية بالتأكيد. لكنها تستند إلى عوامل تاريخية ونظرية تركبت عليها جملة مصالح سورية داخلية. أول هذه العوامل يتصل بالتشكيك العميق بكينونة لبنان القائمة بذاتها، وهو تشكيك ظل يؤشر إلى الحدود الجغرافية للبنان والأقضية الأربعة وانسلاخ لبنان عن سورية بموجب اتفاقات سايكس-بيكو. عزز هذا الشك فكر قومي يرفض في جوهره مسألة القطرية العربية ويشدد على أولوية الوحدة. لذلك اتسم الخطاب السوري دائماً بالتشديد على وحدة الشعبين والعلاقات التاريخية الخاصة بين البلدين، على رغم أنها كانت علاقة بعيدة عن منطق الأخوة والشراكة.
ثاني هذه العوامل يتصل بالنظرة السورية إلى لبنان منذ مطلع السبعينيات. فقد اعتمدت السياسة السورية وجهة تقول بأن قوة سورية وحماية موقعها ترتبطان بحجم الأوراق الإقليمية التي تمتلكها. غادرت آنذاك الطموحات القومية الموروثة عن المشروع الناصري في التحرر القومي والتوحيد العربي نحو سياسة يقوم محورها على موقع خاص لسورية في فلسطين والعراق والأردن ولبنان. استعصت الساحات الثلاث الأولى على الاختراق السوري، فيما مكّنت الانقسامات الأهلية اللبنانية وطبيعة البنية الموجودة الخطة السورية من النفاذ إلى الوضع اللبناني. وهو ما مكنها من إدارة سياسة تتفق ومصالحها التي كان من بينها إدارة حربها الإقليمية مع إسرائيل عبر الأراضي اللبنانية وبواسطة القوى اللبنانية أيضاً.
كانت السياسة السورية ترى في لبنان موقعاً اقتصادياً تحتاج إليه من جوانب متعددة. لقد شكل لبنان «المدى الحيوي» لسورية. وهي شاركت في الصفقات المالية والاقتصادية وفرضت الخوات، ودخلت أجهزتها في نهب موارد الدولة بالمشاركة مع قوى الحرب الأهلية اللبنانية، وفتحت الأرض اللبنانية لليد العاملة السورية بما شكل منافسة للعمالة اللبنانية.
ثالث هذه العوامل، يقوم على قدرة الحكم السوري على إقناع شعب سورية بالأهمية الخاصة لوجوده في لبنان، بما يعني أن الخروج منه خسارة تصيب الكيان السوري شعباً ودولة. وليس مستغرباً أن يتمكن الحكم في سورية من تجييش مئات الآلاف من المواطنين السوريين في تظاهرات صاخبة، ترفع شعارات لا تقل «عنصرية» عن شعارات 14 آذار اللبنانية. في هذا المجال، لا يغيب عن البال أن سورية لم تشهد معارضة داخلية لوجودها في لبنان على امتداد ثلاثين عاماً. وقد اتسمت خطابات المعارضة السورية على الدوام بنقد للنظام والحكم القائمين، مع تجنب الإشارات النقدية التي سياستهما في لبنان. لم تقترن معارضة النظام في الداخل ضد قهره الشعب السوري بخطاب مقابل يرفض القهر للشعب اللبناني. ولا يعني ذلك التقليل من أهمية أصوات شجاعة أعلنت معارضتها لسياسة النظام في لبنان وسورية، ودفعت ثمن ذلك اضطهاداً مضاعفاً.
آخر هذه العوامل يرتبط بطبيعة الحكم في سورية الرافض إجراء إصلاحات سياسية داخلية، والمتمسك بسياسة تتسلح بفكر «قومجي» بائد لا يتورع عن اتهام معارضيه بالعمالة لإسرائيل وخيانة العروبة…
يبدو سؤال إمكان تجاوز هذه العصبوية المتبادلة مشروعاً. ويرتبط هذا الإمكان بتحقيق بعض الشروط: لبنانياً، تبدو معرفة حقيقة اغتيال الحريري شرطاً أساسياً تتأسس عليه علاقة مستقبلية صحيحة. أما سورياً، يشكل الإقرار النهائي باستقلال لبنان وتجاوز الوهم القائم بالعودة إليه واستخدامه ساحة متجددة، مدخلاً أساسياً لشفاء سورية من «عقدة لبنان». كما يشكل الانفتاح السوري على علاقات ديمقراطية داخلية عنصراً مساعداً في إقامة علاقات مميزة يحتاجها البلدان وتفرضها مصالحهما السياسية والاقتصادية المشتركة. قد تبدو الظروف اليوم افضل من السنوات السابقة لفتح نقاش جدي يقوم به اللبنانيون والسوريون بشكل مشترك لتحديد عوامل النزاع المتواصل من اجل الوصول الى حد ادنى من التوافق الذي يسمح حقا بعلاقة سليمة بين البلدين، وبما يسمح بتجاوز العصبويتين السائدتين حتى الان.

كاتب من لبنان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى