سوريا “تقبل” استقلال لبنان وتتمسّك بالوحدة معه!
“لن تتحقق المصالحة التاريخية بين لبنان وسوريا ما لم يتم اتخاذ ثلاثة قرارات كبرى تبدل مسار العلاقات جوهريا بين البلدين: الاول يقضي بان يتخلى نظام الرئيس بشار الاسد عن النظرة السورية العقائدية الوحدوية الفوقية الى لبنان، ويوقف كل مساعيه لفرض هيمنتها مجددا على هذا البلد. وهذا يتطلب تغييراً جذريا في سياسات سوريا حيال لبنان لم يحدث حتى الآن، ويتطلب كذلك انهاء وحدة الامر الواقع التي اقامها والده الراحل حافظ الاسد مع هذا البلد من خلال “معاهدة الاخوة والتعاون والتنسيق، الموقعة بين البلدين في ايار 1991 والمستمرة الى اليوم. القرار الثاني يقضي بان يثبت نظام الاسد بالافعال والاعمال، انه يمتلك الرغبة والتصميم على تقبل لبنان المستقل السيد والتعايش سلمياً معه والمساهمة في تعزيز أمنه واستقراره استنادا الى مبادىء حسن الجوار ومقتضياته وهذا يتطلب اقامة علاقات طبيعية وصحية وسليمة بين البلدين على اساس الندية والمساواة والالتزام المتبادل لاستقلال كل منهما وعلى اساس امتناع كل منهما عن التدخل سلبا في شؤون الآخر. اما القرار الثالث فيقضي بان يترك نظام الاسد اللبنانيين يختارون بأنفسهم وعبر الانتخابات الحرة الديموقراطية ممثليهم وحكامهم، وان يتوقف بالتالي عن محاولات فرض حلفائه عليهم بوسائل الضغط المختلفة، وان يضع حداً لعمليات تحريض فريق لبناني ضد آخر”.
هذا ما اكدته لنا مصادر ديبلوماسية اوروبية وعربية في باريس معنية مباشرة بتطورات الاوضاع في لبنان، واوضحت ان التفاهمات التي تم التوصل اليها خلال قمة الرئيسين بشار الاسد وميشال سليمان في دمشق يومي 13 و14 آب الجاري شكلت خطوة اولى مهمة في اتجاه تغيير مسار العلاقات بين البلدين، اذ انها حسمت قضية الاعتراف السوري الرسمي بالكيان اللبناني من خلال اعلان قرار تبادل التمثيل الديبلوماسي معه للمرة الاولى منذ الاستقلال. لكن هذه التفاهمات لم تحسم في المقابل ايا من القضايا الجوهرية الرئيسية الاخرى العالقة بين لبنان وسوريا وابرزها ما يتعلق بترسيم الحدود وضبطها وتكريس لبنانية منطقة مزارع شبعا وحل مشكلة المفقودين. لذلك لم يحدث حتى الآن التحول الجذري المطلوب لبنانيا وعربيا ودوليا في مسار العلاقات اللبنانية – السورية.
وفي هذا المجال اكد مسؤول عربي بارز معني مباشرة بالملف اللبناني – السوري: “ان الوقت حان لأن يدرك نظام الاسد ان مصلحته الحقيقية تقضي باقامة علاقات طبيعية جيدة وسليمة مع لبنان بدلا من العلاقات القائمة منذ سنوات والتي يسودها الجفاء والتوتر والعداء الصامت او العلني. وقد دفع النظام السوري ولا يزال ثمن هذا التوتر والجفاء في العلاقات مع لبنان، كما ان اللبنانيين دفعوا ويدفعون الثمن من جانبهم. والواضح لجميع المعنيين بالامر ان النظام السوري هو المسؤول الاول عن تدهور هذه العلاقات نتيجة سياساته والكثير من قراراته الخاطئة”.
الظلم والتدخل والعنف
وتوقف هذا المسؤول العربي البارز عند مجموعة امور ومسائل محددة تكشف اسباب التوتر والجفاء بل العداء بين لبنان وسوريا فقال: “ليس من الطبيعي ان يستغل النظام السوري التفويض العربي والدولي الذي حصل عليه لتسوية المشكلة اللبنانية بعد سنوات الحرب من اجل ان يفرض هيمنته على هذا البلد ويتصرف به كما يريد وعلى مدى سنوات طويلة. وليس من الطبيعي ان يفرض النظام السوري على اللبنانيين مفهومه هو للعلاقة مع بلدهم المستند الى عقيدة وحدوية والى حسابات خاصة امنية واستراتيجية وسياسية واقتصادية ومالية، وان يتجاهل كليا حق لبنان المشروع في الاستقلال والسيادة وارادة اللبنانيين الحرة في ادارة شؤونهم بانفسهم وفي اعطاء الاولوية لتأمين مصالحهم الحيوية. وليس من الطبيعي ان يتم اغتيال زعيم سياسي كبير كالرئيس رفيق الحريري مع مجموعة من رفاقه في ظل الحكم الامني – السياسي السوري للبنان وان يمتنع نظام الاسد عن اجراء اي تحقيق في هذه الجريمة الارهابية الكبرى وينتج من ذلك تشكيل لجنة تحقيق دولية ركزت وتركز كل جهودها على الدور السوري في عملية الاغتيال هذه وفي عمليات اغتيال سياسية اخرى تمهيداً لمحاسبة المتورطين في هذه الجرائم ومعاقبتهم امام محكمة دولية. وهذا ما لم يواجهه اي نظام عربي آخر. وليس من الطبيعي ان يحل النظام السوري محل الشعب اللبناني وان يقرر هو ان الغالبية النيابية والشعبية هي غالبية “وهمية” لانها استقلالية التوجهات وترفض الهيمنة السورية، ويقرر ايضا ان حلفاء دمشق هم الاقوى وهم الذين يمثلون فعلا اللبنانيين ويعكسون آمالهم وتطلعاتهم. وليس من الطبيعي ان يبدي النظام السوري انزعاجا حقيقيا من اقامة “علاقات ندية ومتساوية” مع لبنان ويدخل في عملية تفاوض ومساومة مع اللبنانيين وجهات اخرى في ما يتعلق بتنفيذ تبادل التمثيل الديبلوماسي وترسيم الحدود وضبطها وازالة اسباب التوتر والجفاء بين البلدين. وليس من الطبيعي ان يرسل النظام السوري او ينقل كميات هائلة من الاسلحة، بما فيها آلاف الصواريخ والقذائف، الى “حزب الله” وتنظيمات فلسطينية مرتبطة به، ضد ارادة السلطة الشرعية والغالبية العظمى من اللبنانيين، وان يرافق ذلك تشجيع “حزب الله” على الاحتفاظ بسلاحه والتمسك بقرار الحرب مما يجعل لبنان ساحة مواجهة مفتوحة امام كل الاحتمالات الخطرة الداخلية والخارجية. ولو ان دولة اخرى فعلت الامر ذاته مع سوريا لكان النظام في دمشق اعلن الحرب عليها. وليس من الطبيعي ان يظلم النظام السوري لبنان بعرقلته عملية استعادة منطقة شبعا المحتلة بالوسائل السلمية والديبلوماسية من خلال رفضه او مماطلته طويلا في ترسيم الحدود مع لبنان وتكريس لبنانية شبعا خطيا ورسميا مما يسهل اجراءات تحريرها سليما. واشتراط سوريا انسحاب اسرائيل من شبعا لترسيم الحدود مع لبنان في هذه المنطقة وتقليله اهمية وضع هذه المنطقة مؤقتا تحت سلطة الامم المتحدة، وجدول هذه العملية هذا كله يهدف الى تأمين ذرائع للحزب ليحتفظ بسلاحه وبقرار الحرب فيظل لبنان ساحة يستخدمها السوريون، وكذلك الايرانيون، للتفجير او للتهدئة في مساوماتهم ومفاوضاتهم مع الدول الكبرى واسرائيل. ويذهب النظام السوري في موقفه المتشدد هذا الى حد رفض تكريس لبنانية شبعا رسميا، لانها ارض سورية وفقا للامم المتحدة، الى ان تتم استعادة الجولان، وكأن المطلوب ان يدفع اللبنانيون ايضا ثمن الاحتلال الاسرائيلي للارض السورية وليس من الطبيعي ان يشجع النظام السوري “حزب الله” وحلفاءه على ابقاء لبنان في حال مواجهة وحرب في الوقت الذي يتمسك هو بخيار التفاوض السلمي مع اسرائيل من اجل استعادة الجولان، بل انه يمتنع عن الرد على اعتداءات اسرائيلية صارخة على اراضيه وسيادته حرصا منه على عدم الدخول في مواجهة مسلحة مع الدولة العبرية. وليس من الطبيعي ان يشجع النظام السوري حلفاءه على استخدام العنف والقوة المسلحة لانهاء حكم الغالبية الاستقلالية وهو ما حدث اكثر من مرة منذ خريف 2006. والمحاولة المسلحة الاخيرة لانهاء حكم الاستقلاليين جرت في ايار الماضي حين اقتحم مسلحو “حزب الله” وبعض حلفائه بيروت الغربية ومناطق جبلية وسعى السوريون الى تأمين تغطية لهم بتأكيدهم ان ما يجري شأن لبناني داخلي، وبرفضهم اي تدخل عربي لوقف هذه الهجمة المسلحة. لكن مصر والسعودية ودولا عربية اخرى احبطت هذه العملية الانقلابية المسلحة ونجحت في تأمين عقد مؤتمـــر طارىء لوزراء الخارجية العرب في القاهرة نتـــج عن تشكيل لجــنة وزارية عربية برئاسة قطر والامين العام للجامعة، وهوما ادى الى انجاز اتفاق الدوحة وما فتح الباب امام انتخاب الرئيس التوافقي ميشال سليمان وتشكيــل حكومة الوحدة الوطنــية”.
وشدد هذا المسؤول العربي على ان “هذه الوقائع والحقائق تظهر مدى الحاجة الى قيام سوريا بخطوات ملموسة وجدية لاحداث انقلاب حقيقي ايجابي في علاقاتها مع لبنان بحيث تصبح هذه العلاقات طبيعية فعلا وسليمة وصحية وهوما يؤمن حينذاك مصالح البلدين وليس مصلحة بلد على حساب بلد آخر”.
العلاقة الوحدوية
ويتفق ديبلوماسيون اوروبيون وعرب معنيون بالامر على القول ان التحول الجذري والايجابي في العلاقات بين لبنان وسوريا يتطلب من الرئيس بشار الاسد ان يتخلى رسميا ونهائيا عن صيغة العلاقة الوحدوية التي اقامها والده الراحل حافظ الاسد مع لبنان وكرسها توقيع “معاهدة الاخوة والتعاون والتنسيق” بين البلدين في ايار 1991، فقد ادت هذه المعاهدة الى تشكيل سلطة عليا فوق سلطة الحكم اللبناني هي المجلس الأعلى السوري – اللبناني الذي يضم رئيس البلدين ورئيس الحكومتين ومجلس النواب ونائبي رئيسي الحكومتين. ووفقا لما نصت عليه المعاهدة فان المجلس الاعلى “يضع السياسة العامة للتنسيق والتعاون بين الدولتين في المجالات السياسية والاقتصادية والامنية والعسكرية وغيرها ويشرف على تنفيذها”. وتؤكد المعاهدة امراً اساسياً هو ان “قرارات المجلس الاعلى الزامية ونافذة المفعول في اطار النظم الدستورية في كل من البلدين”. والمهمة الاساسية للمجلس الاعلى “تحقيق اعلى درجات التعاون والتنسيق بين البلدين في جميع المجالات”.
ومثل هذا المجلس وبهذه الاهداف يتشكل بين دولتين تربطهما علاقات وصلات وحدوية، وهو ما اراده السوريون لدى توقيع المعاهدة. وما يزيد في تعميق هذه العلاقة الوحدوية ان “معاهدة الاخوة” ليست محددة بفترة زمنية معينة مما يعني انها لا تزال سارية المفعول على رغم الانسحاب السوري من لبنان. وقد حرص السوريون فور توقيع هذه المعاهدة على وضع هذه العلاقة الوحدوية موضع التطبيق من خلال توقيع مجموعة كبيرة من الاتفاقات اوجدت تكاملا حقيقيا بين لبنان وسوريا وعززت الروابط الوحدوية، اذ ان هذه الاتفاقات شملت مختلف المجالات الدفاعية والامنية والاقتصادية والصناعية والزراعية والتجارية اضافة الى مجالات النقل والمواصلات والجمارك والمشاريع المشتركة وغيرها.وفي ظل هذه العلاقة الوحدوية لم يكن يتم فعلا اتخاذ اي قرار لبناني سوى بعد التنسيق والتفاهم التام مع القيادة السورية، ولم يعد ثمة قرار لبناني مستقل عن القرار السوري ولا مصالح لبنانية مستقلة عن المصالح السورية”. وفي ظل هذه العلاقة الوحدوية كانت القرارات المتخذة في لبنان تؤمن خصوصا مصالح النظام السوري الحاكم الفعلي لهذا البلد. وكان المسؤولون اللبنانيون يظهرون كل الحرص على الدفاع عن مصالح سوريا ومواقفها وسياساتها على اساس انها تتلاءم مع المصالح الحيوية اللبنانية، خلافا للواقع في معظم الاحيان.
وهذا يعني، وفقا لديبلوماسيين اوروبيين وعرب معنيين بهذا الملف، ان الاعتراف السوري الرسمي بلبنان من خلال اقامة العلاقات الديبلوماسية معه ليس كافيا اطلاق لتأكيد حدوث تحول كبير وجذري في موقف النظام السوري من هذا البلد. ومثل هذا التحول يتحقق بعد ترسيم الحدود وضبطها وخصوصا بعد الغاء العلاقة الوحدوية التي اقامتها المعاهدة. لكن الرئيس بشار الاسد ليس مستعداً لالغاء المعاهدة او التخلي عن هذا الانجاز الوحدوي مما يطرح الكثير من التساؤلات حول مستقبل العلاقات بين لبنان وسوريا ويثير الكثير من الشكوك. “