غربـة المثقـف النقـدي
سمير الزين
مفهوم المثقف النقدي كما نستخدمه هنا، هو مثقف الشأن العام، ورغم الكلام الكثير عن موت هذا المثقف، ورغم المصاعب والتعقيدات التي تواجه علاقة المثقف بالشأن العام، ورغم كل النصائح التي تدعوه للتحول إلى محض مختص عليه التعامل مع القطاعات البحثية الضيقة والاختصاصية، بمعنى دعوته إلى الاستقالة من الشأن العام، والتحول إلى باحث أو خبير، وأن يقبع خلف جدران الجامعة أو مراكز الأبحاث. فمثقف الشأن العام لم يمت كما يدعو الكثيرون. فما زال هناك ضرورة للتدخل في الشأن العام بقوة، وقول الحقيقة حتى لو كانت غير شعبية، وأن يقول ما يفكر فيه بالضبط، وأن يكف عن قول ما يريد الآخرون منه أن يقوله. فعلى المثقف النقدي أن يقول ما يراه صحيحاً حتى لو أثار قوله الامتعاض، فالقضية أصلاً أن على المثقف أن يشع الحرج، الاعتراض، حتى الامتعاض. كما يقول إدوارد سعيد، على خلاف الاعتقاد السائد بموت مثقف الشأن العام، وأعتقد أن هذه المهمة ما زالت ضرورية في مجتمعات ما زالت يعاني فائضاً من المشكلات والبنى والقضايا التي تحتاج إلى نقد. وهذا لا يعني أن المثقف النقدي يمارس دوره بانسجام وتماسك مطلقين، ورغم أهمية دوره، إلا أن هذا الدور يضطرب في الكثير من الحالات.
من حيث المبدأ، ينتمي المثقف النقدي إلى إطار رافض جزئياً أو كلياً لمجموع البنى الثقافية الموروثة التي تتشكل منها هوية المجتمع الذي ينتمي إليه، والذي يجد نفسه منشقاً عنه ومتصادماً معه. وهو لا يصطدم مع هوية مجتمعه بوصفها معطى خارجياً، بل يصطدم معها بوصفها هويته الأصلية والداخلية. وبين الانتماءات المتباينة والمتصادمة للمثقف، تتصدع الهوية وتصاب بشروخ، نتاج تعارضات وتناقضات الهوية الأصلية مع الهوية المكتسبة التي تشكل منطلقه في نقد المجتمع الذي ينتمي اليه.
تتشكل هوية المثقف الأصلية في إطار الثقافة التي ينمو داخلها، والتي تتكون من منظومة ثقافية إداركية وتقويمية للذات الفردية والجماعية في علاقتها بالآخر، وتنعكس هذه المنظومة في السلوكيات الفردية بتعاطيها مع القضايا المطروحة على الذات الفردية والجماعية. والثقافة تحمل صياغاتها المختلفة عبر مجموعة من الرموز الثقافية التي تشكل قواعد إدراك الفرد والجماعة للعالم الخارجي، ولأن الثقافة هي مجموع التحصيل المرجعي للعقائد والمعايير والقيم التي تصوغها التصورات الجمعية، وتشكل الرموز المرجعية التي تطبع سلوك الذات، ويقع المثقف النقدي في تكوينه الأصلي أسير المعايير والقيم التي تمليها عليه الثقافة السائدة من تصورات معيارية تطرح نفسها كبديهيات تقاوم أي نقد أو تغيير.
ولأن النظام الثقافي مجموعة من الأفكار المشتركة بين أفراد المجتمع، فهو يقوم عبر صور المخيال الاجتماعي التي كوّنتها الجماعة الثقافية عن نفسها، بحيث تتحول إلى ذهنية يشترك فيها أعضاء الجماعة وتتحول إلى مرجعية مستمرة ولاشعورية، وذلك من أجل إدراك الأشياء وتوجيه السلوك. فالذهنية تنطوي في ذاتها على رؤية خاصــة للعالم، وعلى طريقة للتعامل مع الأشــياء تحكم علاقــة الإنســان بمحيطه.
هذه الذهنية التي يرثها المثقف النقدي من محيطه الطبيعي، تهتز مع تجربة التعرف على مشكلات مجتمعه وعيوبه، والتعرف على ثقافات أخرى، حيث تبدأ الشكوك حول النظام الثقافي الذي ينتمي إليه المثقف النقدي الذي ورثه عن إطاره المجتمعي. عندها يشعر بالاغتراب الذهني بحكم الثقافة الجديدة التي حصّلها، ويدهش من سلوك المجتمع وردات فعله تجاه القضايا المطروحة عليه، ويستغرب لماذا لا ينسجم هذا السلوك مع المعايير الأفضل للنظام الثقافي الأفضل. ويصبح مغترباً في إطاره الاجتماعي، في الوقت الذي ينتمي فيه إلى حقل النظام الثقافي ذاته، ولكنه بانتمائه للإطار الرافض، فهو يضع النظام الثقافي والمعايير والقيم التي تحيط به موضع المساءلة والشك والرفض.
ولأن هناك تداخلاً عميقاً ومركباً بين النظام الثقافي والذهنية والنظام المعرفي الفردي، فإن المثقف النقدي يقع أسير الاختلاطات التي تفرزها الذهنية الجديدة والانتماء إلى النظام الثقافي، ففي الوقت الذي يتخذ المثقف المسافة النقدية من قضايا مجتمعه، ينشرخ الانتماء بين السلبي والإيجابي، بحيث تعاني الهوية تناقضات الانتماء، مولدةً شروخاً عميقة باتجاهات متعارضة.
وإذا كان يمكن للفرد أن يخرج عن إطار التوحد مع نظامه الثقافي، بتبني معايير جماعة أخرى غير جماعته وقيمها، بوصفها نموذجاً مرجعياً له صفة ذهنية، ويمكن بالتالي أن يسعى إلى تحقيق التكامل مع هذا النظام الثقافي المرغوب، إلا أن النظام الثقافي القارّ في اللاشعور الفردي للمثقف النقدي وفي الممارسة الاجتماعية، يعيده مرة أخرى إلى المواقع التي يعمل على نقدها ونقضها، ومن هنا الظاهرة الطبيعية المتناقضة بين أفكار المثقف النقدي التي يدافع عنها، وبين سلوكه العملي الذي يجد نفسه أسير البنية الثقافية المتمرد عليها.
يمكن للمثقف النقدي تعريف هويته وفقاً لرغبته الذاتية، أي وفقاً للصورة التي يملكها عن نفسه، وبالتالي تحدد هذه الهوية الدور الذي يعتقد المثقف النقدي أنه منوط به، على قاعدة الوعي بهذه الإمكانات النقدية وقدرتها على تغيير المجتمع، وتحويل الانتماءات الثقافية التي يعتقد المثقف أنها سلبية، معتقداً أن هذه المساهمة النقدية تقوم على إعادة تحديد الهوية بصورة أكثر فعالية في حال اختراقه النظام الثقافي والذهنية التي تعبر عنه، وبذلك يسعى لتكوين هوية يعتقد أنها مثالية، وبما أن الآخرين ينظرون إلى هوية المثقف النقدي بوصفها هوية اختراقية مدسوسة من الخارج، فإن رفضها بالحفاظ على النظام الثقافي والتمسك به بشكل أكبر في مواجهة الغزو الجديد، يجعل مهمة المثقف النقدي مهمة تكاد تكون مستحيلة إلى حد كبير، وفي الوقت الذي يعتقد المثقف النقدي أن هويته الجديدة التي ينتمي إليها قادرة على القيام بالاختراق، وأن انتماءه إلى الهوية الأصلية يدفعه إلى القيام بهذه المهمة، تنشأ أزمة الهوية عند المثقف النقدي، ففي الوقت الذي يعتقد أنه ينتمي إلى هويتين يجب أن تصلح أحدهما الأخرى، يجد نفسه لامنتمياً في إطار ضغط البنى الثقافة الداخلية، والاستلاب الذي يعانيه جراء الهوية الخارجية الملتبسة.
كاتب فلسطيني
السفير