سورية: نعم.. إنها لحظة حرجة
ميشيل كيلو
نحن وبلادنا في لحظة حرجة جدا، لأسباب كثيرة أبرزها الثلاثة التالية
أن النظام، وقد فشل في إصلاح أي شيء، وخاصة أحواله، أخذ يبذل في الآونة الأخيرة جهدا مركزا يستهدف تغيير مكونات المجال السياسي في الخارج والداخل
من جهة عبر علاقته مع إيران، التي انتقلت من علاقة ذات اتجاهين كان لسورية دور تقريري فيها، إلي علاقة تحالف ليست سورية فيها غير ورقة ضغط إيرانية علي الغرب عامة وأمريكا خاصة، وقد تصير، إن استمرت حالة الضعف الراهنة، مثل ورقة حزب الله، مع أن طابع العلاقة الجديد لن يكون مقبولا من بقية العرب، وخاصة منهم مصر والسعودية، وقد يحول سورية إلي حلقة ضعيفة في المجابهة الدولية مع إيران، ربما أغري ضعفها بضربها قبل غيرها من أوراق إيران.
ومن جهة أخري عبر الإفادة من تيارات إسلامية الهوي، ربما كانت منظمة لكنها ليست مسيسة، لذلك يمكن التلاعب بها واستعمالها من حين لآخر في الداخل، حيث بوسعها تقديم دعم جدي للنظام، الذي يدافع عن نفسه كمن ظهره إلي الحائط، ويمكن أن يلجأ إلي أية قوي أو تدابير تساعده علي البقاء، أو يستطيع التلويح بورقتها في الداخل والخارج، لتخويف مواطنيه أولا وأعدائه ثانيا، باعتبار أنها البديل الأكثر سوءا بكثير منه بالنسبة إلي الجميع، هنا وهناك. إلي هذا، تتخلق عبر العلاقة الجديدة مع إيران سياسة خارجية سورية مختلفة عن تلك التي عرفناها خلال العقود الأربعة الماضية، ويبدأ بالتكون حقل داخلي جديد، بعلاقات جديدة ومكونات إضافية وجديدة بدورها، يمكن أن تخرج المعارضة من السياسة مجددا وأن تفقدها جزءا كبيرا من فاعليتها، خاصة إن هي تعاملت مع هذين المستجدين، الخارجي والداخلي، بالعقلية التي طورتها خلال صراعها ضد نظام لديه ارتباطات خارجية وأسس داخلية مغايرة. إذا حدث هذا، وعجزت المعارضة عن مجاراة ما يحدث في النظر والعمل، سينجز النظام انتقاله إلي مكان جديد بينما ستحارب هي ضد نظام آخر، ليس للغة التي استخدمت ضده، لنقده وكشفه، المفعول عينه ـ إن كان لها أي مفعول ـ في مواجهة الوضع الجديد، وهذا في اعتقادي أعظم خطر يهدد المعارضة، بينما يتمثل الخطر الذي يهدد سورية النظام في تقلبات سياساته وخياراته، وتجاهله أن نظاما بني كي يكون غربيا وحديثا، لا يستطيع الانقلاب علي نفسه فجأة والتحول إلي نظام يقوم علي نقيضهما: الهوية والخصوصية، دون أن يغرق نفسه وبلاده في مشكلات جديدة وخطيرة.
ـ أن النظام يحكم قبضته أكثر فأكثر علي الحياة العامة والأنشطة السياسية والمدنية، التي تشكلت في بلادنا خلال السنوات الست الماضية. وهو عازم علي كتم أنفاس الجميع من الآن فصاعدا، كي يبقي بمفرده في الساحة ويثبت لمن يحتاج إلي إثبات أنه لا بديل في الداخل له، مهما كانت طائشة الخطوات الضرورية لذلك، مثل اختطاف وإخفاء علي العبد الله وولده، وحملات الاعتقال التي تتسع من يوم لآخر، وتطال أعدادا متعاظمة من المواطنين السوريين، وتحول السياسة إلي مجرد غطاء للأمن، بعد أن ظهر لبرهة وكأن السياسة بدأت تحرر نفسها منه، ومثل الإمعان في تضييق الخناق علي المواطنين، معيشيا وسياسيا وحياتيا، بما يذكر بأجواء الثمانينيات، عندما سادت في صفوفه روح حماه ، وتصرف كمن لا يري سياسة غير العنف والقمع، ولا يفكر بعلاقات مع المجتمع تقوم علي غيرهما. هذا التطور، إذا ما استمر وتفاقم، يهدد بتهميش المعارضة والحراك الديمقراطي علي الإجمال، فهو، بتضافره مع التبدل في بنية العلاقات الخارجية والداخلية للنظام، يشكل تهديدا خطيرا للمعارضة ولسورية من الضروري إيجاد ردود ملائمة عليه، وإلا كنا كالنعامة التي تدفن رأسها في رمال كلمات جميلة عن الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية والمجتمع المدني والمصالحة الوطنية… الخ، بينما هي تغرق في هذه الرمال بسبب غفلتها.
ـ أن المعارضة لم تنجح بعد في بلورة صيغ للعمل والتعاون ضاربة وحديثة وقادرة علي تجاوز المآزق والتحديات، التي يطرحها عليها عمل سياسي مفتوح وعلني ليس لديها فيه غير خبرة قليلة وتجارب محدودة، يجبرها الظرف القائم علي إنجازه مجتمعة، في حين يفكر كل فريق منها، رغم إعلان دمشق وما تحقق بواسطته من جمع للجهود وتوحيد للبرامج والأهداف، انطلاقا من مصالحه وخصوصياته، حتي انه ليصعب القول إننا صرنا نري أنفسنا وأحزابنا انطلاقا من الإعلان وبدلالته، وأقلعنا تماما عن رؤيته بدلالة تنظيماتنا وأشخاصنا وانطلاقا منها، وأننا دخلنا حقا الزمن التالي لقيامه، ولم نغادر بعد زمن التجمع الوطني الديمقراطي والأحزاب الكردية الكثيرة والمتفرقة. ومع أن وقت جمع الخبرات، وتوحيد السياسات والتكتيكات والمواقف، والالتزام بالقرارات، والانفتاح علي الآخر في المجتمع والدولة والسلطة لم يفت بعد، فإن واقع الحال يذكرنا بضرورة إعطاء هذه المسائل اهتماما أقصي، بسبب ما شرع يظهر من تباين في بعض مواقف وخيارات قوي معارضة، لدورها ورأيها قدر عظيم من الفاعلية في شتي المجالات والأصعدة. لا أريد أن يفهم من هذا الكلام أن المعارضة منقسمة علي نفسها، أو أن علاقات أطرافها ليست جيدة، وأنها لا تحقق أي تقدم. إنه يعني باختصار شديد أن ما هو قائم من علاقات وتعاون لا يكفي، إن هو بقي علي حاله الراهنة، للتصدي للمستجدات التي ذكرتها في النقطتين السابقتين، وأنه بحاجة إلي تطوير، علي صعيد كل فريق والمعارضة مجتمعة، وإلا فإن ما قد نطوره من ردود علي تحديات الداخل والخارج لن يكون في مستوي التحدي، وقد نجد أنفسنا أسري جمود سيدفعنا إلي تبني مواقف غير فاعلة وغير مؤثرة وغير نوعية في ظرف يتحرك كل من فيه، خاصة علي جبهة النظام وأجهزته، بينما تسبب بعض أنشطتنا الإرباك والبلبلة في صفوفنا!.
هل تستطيع سورية، حكما ومعارضة مواجهة هذه اللحظة الحرجة، كل في مجاله وبطريقته ومن أجل أهدافه؟ وهل لدي المعارضة القدرة حقا علي بلورة ديناميكية عملية تبقي لها المبادرة، التي ما أن أمسكت بطرف منها حتي وجدت نفسها في موقع مهم من العمل العام في الداخل، وقد عاد عليها نضالها من أجل إدخال نظام العصر الحديث إلي البلاد بسمعة خارجية كبيرة، يمكن الإفادة منها، لخدمة الوطن والبديل الديمقراطي المنشود، الذي لن يتحقق من تلقاء نفسه أو لأنه صحيح وعادل، ولن يتحول إلي حقائق علي الأرض بغير عمل صادق ودؤوب يجعله ممكنا؟
إن التقدم الذي حققته المعارضة خلال السنوات القليلة الماضية مشجع جدا، لكنه سيبقي مهددا بعجزها عن حسن قراءة ما يستجد خارج صفوفها، والاستسلام لما قد يوجد من ثغرات ونقاط ضعف داخلها. أخيرا، بماذا يتقدم البشر، إذا كانوا لا يتقدمون بقوة عقولهم الصاحية وعزائمهم الصادقة، وتواضع، وقولهم الحق، ليس فقط في وجه سلطان جائر، بل كذلك في وجه ذواتهم!.
!