تساؤلات حول العلاقة بين الأنظمة العربية والحركات الاسلامية
ميشيل كيلو
الي ما قبل اعوام قليلة، احتفت النظم العربية كثيرا بمتانة اوضاعها وقدرتها علي احتواء حركات
الاحتجاج والمعارضة الداخلية، وتباهت بنجاحها في كسر واحتواء موجة المقاومة والممانعة الاسلامية الاولي، التي ظهرت في أواخر السبعينيات، وتم تدميرها خلال مواجهات عنيفة ومفتوحة مع اجهزة أمن وجيوش بعض الدول، بعد ان بدأ وكان ضياع تضحيات حرب تشرين، والفشل في بلوغ سلام مشرف مع العدو الاسرائيلي، والنجاح في اقامة نظم تكره المشاركة وترفض الحرية والديمقراطية، تنجب قدرا غير مسبوق من التفاوت الاجتماعي والسياسي وتفتقر الي الرغبة الصادقة في التصدي للمشكلات التي نشأت علي يديها ونتيجة لخياراتها ومصالحها، قد اعد الاجواء الملائمة لانقضاض الحركات الاسلامية علي النظم القائمة، التي خال بعض قادة هذه الحركات انه لم يعد لديها ما تدافع به عن سلطتها ووجودها.
في تلك الحقبة، برزت داخل الحركات الاسلامية التاريخية، وعلي رأسها جماعة الاخوان المسلمين، تيارات دعت الي العنف باعتباره الاداة الملائمة للعصر الاستبدادي المهيمن، الذي اخضع كل شيء لسيطرته ورقابته، بما في ذلك المساجد والمؤسسة الدينية والمؤمنون انفسهم، وحال بين السياسة الاسلامية وبين الرأي العام، بان منعها ولاحقها، بينما تلاشي الرأي العام اكثر فاكثر، بسبب ما تعرض له من تفتيت واعادة تركيب، وما عاشه الشعب عموما، وخاصة فئاته المهتمة بالشأن العام، من سحق طحنتها طحنا.
لم تجد قيادات الاسلام التاريخي ما تفعله في مواجهة هذا التيار، الذي يريد تغيير الاوضاع بالحديد والنار، فانساقت معه او سايرته او ايدته او تحمست له او وجدت نفسها مجبرة علي التنحي والوقوف جانبا… الخ، وذهب الاسلام السياسي الي حقبة جهادية، غذتها ادبيات بررت وفلسفت ما سيقع من افعال علي يد الاسلام الجديد، بدا وكأن الواقع القائم يسوغها بصورة تامة، وانه هو الذي استدعاها وتطلبها، حتي خال من كان يراقب تلك الفترة ان الاسلام طوي صفحة الدعوة السلمية والقول الحواري، وانه سيرث الارض ومن عليها بسلاحه، رغم انه لم يكن موحدا، سواء في قراءته للواقع ام لنوع الردود المطلوبة عليه، ولم يقطع تماما بان حملة السلاح هم الكلمة الاخيرة، التي ستدفع الي هوامش الوجود العام بمن لا يتبعهم او ينخرط في صفوفهم، وبان العصر الذي انجب من سبقهم من الجماعات الاسلامية قد مضي وولي، وخاصة منها تلك التي عرفتها حقبة اواخر الثلاثينيات، وبقيت متمسكة بالدعوة بالكلمة والموعظة الحسنة.
بانهيار الجماعات المسلحة، وخاصة في مصر وسورية والجزائر، رغم ما بينها من فروق واختلافات وخلافات، خالت النظم العربية عموما انها طوت صفحة التحدي الاسلامي، واجتازت امتحان وجودها بجدارة، وانه يستبعد كثيرا ان تخوض مواجهة جديدة معه، خاصة وان كسر الحركات الجهادية واجتثاثها كان يعني عمليا كسر واجتثاث جسم المعارضة الرئيسي، لذلك مالت النظم الي اعتبار انتصارها نهائيا ليس فقط علي فئة او تيار، بل علي كل ما هو غير رسمي وغير سلطوي، وقال بعض قادتها بصراحة انه لن تقوم بعد ذاك قائمة لاية معارضة من اي نوع كان. بعد الانتصار، ركزت النظم جهدها علي اختراق المجتمع: الطريقة الوحيدة التي تمنع بواسطتها اعادة بناء قوي وفصائل معارضة، وخاصة الاسلامية منها. بدل المصالحة مع المجتمع، التي كانت ستتم في شروط مثالية بالنسبة الي النظم، استنتج الحكام العكس وقالوا بضرورة تشديد قبضتهم علي المواطنين ومنعهم من القيام بأي حراك عام.
أدي انكسار التيار المسلح الي بروز بديلين داخل الصف الاسلامي: واحد قال باستعادة خطه التقليدي في العمل السلمي والشرعي والعلني، وآخر دفع بالتشدد الي درجة قصوي من التطرف، لا تترك مجالا لأي حوار او لقاء مع العالم القائم، وليس فقط مع النظم الحاكمة، فالدار دار حرب وجهاد، والمسلمون في الجاهلية، والحكم لله وحده، ولا قعود عن الجهاد الا اذا اراد المسلم ان يكون خارجا علي الله ورسوله.
رد التيار الاول علي الفشل بتطوير رؤيته، التي مالت اكثر فأكثر الي المطالبة بالديمقراطية كخيار تاريخي يرجح نجاحه تهافت النظام العربي، بعد انهيار النظام الدولي الثنائي القطبية، وتبلور بدايات جديدة لحراك مجتمعي ما انفك يتعاظم ويتعمق في كل مكان وبلد، وتعرض النظم القائمة لمشكلات يومية وشاملة في الداخل والخارج، بينما تقادمت سياساتها، ودب الفساد في ابنيتها، وفقدت في الواقع، كما في نظر المواطن، القدرة علي بلورة خيارات يمكن ان تضفي عليها شرعية تستعيض بها عن شرعيتها المتآكلة.
ورد التيار الثاني بحمل السلاح وبدء المعركة في كل مكان من العالم، وبتبني نظرية في السياسة تنبع من حرب حضارات ابدية، لا مجال فيها لتسوية، او لهدنة، او لاستراحة، هي حرب وجود وليست معركة سياسية، كل من لا ينخرط فيها علي الجانب الصديق عدو يستحق القتل، كائنا من كان.
يتصارع هذان التياران اليوم. وقد انفتح اولهما علي الصف السياسي غير الاسلامي، واقترب احيانا منه وتوصل معه الي فهم مشترك لبديل ديمقراطي ما. بينما يقوض الثاني جهوده وينافسه علي الحاضر والمستقبل ويسفه سياساته ومطالبه ويعدها خروجا علي السياسات الاسلامية ـ خطاب الظواهري ضد حماس ـ بالمقابل، تفيد النظم من هذا التناقض، الذي يمنحها القدرة علي التلاعب بالاسلام السياسي عموما، بغض النظر عن تياراته وخياراته، ويمكنها من مواصلة نهج يقوم علي ملاحقة الجميع، سواء بعصا العنف ام بجزرة السياسة. بالنتيجة، تتضاءل فرص المصالحة بين عديد من النظم وبين من يمدون ايديهم اليها بالمصالحة والحوار من الاسلاميين، وتتلاعب الحكومات بانقسامات الصف الاسلامي، رغم ان تيار التشدد لن يتيح لها، متي اشتد ساعده، هوامش حركة او مناورة حقيقية، وسيشكل تحديا جديا بالنسبة اليها، خاصة بعد ان نجح في تنظيم مواجهة عنيفة وفاعلة الي ابعد حد للاحتلال الامريكي ـ البريطاني في العراق وافغانستان، وافلح في التغلغل الي معظم ساحات المواجهة: بما في ذلك ساحات العالم الاسلامي والعربي الداخلية، فلا مبالغة في القول، ان السياسات، التي تضغط علي الاسلام الحواري وتضيق الخناق عليه تخدم، بوعي ام بلا وعي، تيارات التشدد الجهادي، التي سيكون حسابها معها عسيرا، بسبب ما توغل فيه من عنف، وتعلنه من حرب ضد كل من لا يقاسمها آراؤها ويشاركها حمل السلاح وتكفير العالم.
مع المقاومة في العراق، وانتصارات الاسلام السياسي والمجاهد في مصر وفلسطين، واحتجاز الحراك الديمقراطي، العلماني والمدني، وتخبط النظم، تبدو موجة الاسلام الثانية وكأنها ستكتسح كل شيء، في المدي المنظور، ويبدو التيار الجهادي وكأنه قدر لا راد له، الا اذا تفاهمت جميع القوي: من الاسلام السلمي والديمقراطي الي اقصي اليسار مرورا بمن بقي في رؤوسهم عقل من جماعات السلطة، وقررت اغلاق الدرب امام التيار الجهادي، الذي يغلق بدوره جميع المنافذ امام الآخر والمختلف، ولا يترك لأحد خيارا غير الاستسلام او القتل.
ماذا يختار العرب والمسلمون، قبل ان تحرقهم نار ليست من الاسلام في شيء، مع انها تنتشر في كل مكان من دنياه؟