ثورة مصر

من قلب “مصر” الجديدة أحدّثكم

كيف تحوّل الافتراضيون إلى “ورد جناينك” يا مصر
هاني درويش
المراهق الصغير التقط الرسالة فأعاد إرسالها. أمام المقصف قال لرجل أمن المدرسة الذي يحمل لاسلكياً “على فكرة أنا حعمل مظاهرة”، فرد عليه رجل الأمن: “طب حتطلعوها منين؟ من ليسيه ابتدائي ولا إعدادي”. الحديث الساخر هذا تم في ساحة مدرسة لغات بعد ساعات قليلة من ضرب واعتقال عشرات المتظاهرين فجر الأربعاء الماضي في ميدان التحرير. إنها روائح يوم الغضب المصري وقد نضجت في تفاصيل اليوم العادي خارج حياتها الواقعية، في المزحة الهازئة من سلطة رجل أمن مدني. وقد فهم الطفل أن هذا هو القلق الذي يحرك خيال رجال الأمن في مصر.
الخيال تحديداً هو ما بات مشرعاً على آفاق لا نهائية منذ ساعات الصباح الأولى ليوم 25 يناير/ كانون الثاني، فخروج مئات الآلاف لم يكن يخطر إلا في أذهان من اعتبرناهم مغفلين، عشرات من الناشطين الذين هم على هامش واقعنا الافتراضي، سخرت منهم بتعليق كتبته في لحظة تعالٍ قبل ساعات. تهكمت على “الغواية الشارعية”، ولنا في 6 أبريل 2006 أسوة حسنة. فما أعتبر يومها ارتداء للأسود أو تعليقاً لأعلام مصر في يوم أجازة رسمية، بات انتصاراً. اليوم أيضاً كان يوم إجازة، الشوارع كانت خالية إلا من عساكر الأمن، إلا أن المفاجأة جاءت من الشوارع الخلفية، من الأحياء الكبرى في العاصمة، من المطرية وشبرا وإمبابة والمعادي وعابدين، جنباً إلى جنب مع وسط العاصمة.
الأمر بسيط لكنه ملغز في فاعليته. ماذا لو خرج عشرة ناشطين من شارع جانبي يهتفون “خبز، عدالة، حرية”، ألن ينضم إليهم على الأقل المئات؟، ثم من شارع إلى آخر وحيث لا يجرؤ الأمن عملياً على اقتحام مناطق كهذه مجهولة ومهجورة وتالفة إلا بجلب آلاف القوات والاستعداد للخسائر الكبيرة، غالباً ما كان ذلك هو العامل الحاسم، لا ضبط الشرطة لنفسها كما يروج النظام.
الشرطة غالباً توقعت أعداداً صغيرة مركزة في جغرافية محددة، على رصيف دار القضاء أو ميدان التحرير، في ميدان طلعت حرب، لكن أن تتجول هكذا تظاهرات في شوارع خالية من الجمهور فتجتذب فعلياً من خرج خائفاً أو ملتحقاً بالدعوة، من خرج للتلصّص فجذبه الشارع المفتوح، فهو ما لم تتوقعه الشرطة وإن نجحت في استثماره في تجميل صورته، ألا يكفي أنهم أرقوهم في ليلة عيدهم السنوي الاستثنائية؟
من أسوان إلى الإسكندرية، المحلة والسويس والمنصورة والشرقية والعريش وأسيوط وسوهاج، من الفيوم إلى الإسماعيلية إلى بورسعيد، أكبر حركة خروج للشارع في تاريخ مصر السياسي الحديث، بدعوة وجهها “المغفلون” فصدّقوها، لم برفع أحد حجراً ولم يتهجم أحد على شرطي، منذ ليلة 17 و18 يناير/ كانون الثاني عام 1977 لم تتواصل الاتصالات هكذا في غرف عمليات الأجهزة الأمنية.
من الفيس بوك إلى تويتر وعبر خدمة الرسائل النصية فقط تطور اليوم، فقد تقمصت الجزيرة دور الشهيدة اللبنانية، وأطبقت بي بي سي الصمت تماماً حتى الحادية عشرة ليلاً، مستفيدة من خبرتها الوحيدة في 6 أبريل عندما تملص مراسلوها وهي القناة الجديدة في ذاك الوقت- ووصلوا إلى المحلة فعاقبتهم على ما يبدو أجهزة الأمن. أما التلفزيون المصري فظلت برامجه الإخبارية تغطي أحداث لبنان كأنها تجري في وسط العاصمة المصرية.
من فيديو إلى آخر ، ومن صور بالمحمول إلى مواقع إخبارية انطلقت فجأة نما الوعي عند الظهيرة باختلاف تاريخ مصر في ذلك اليوم، عطلت الأجهزة التقنية لوزارة الداخلية خدمة التويتر لساعات، “عصلج” معها الفيس بوك، وخدمة البلاك بيري، وحتى حين أطل حسن نصرالله ومن قبله نجيب ميقاتي كانت الجزيرة وباقي القنوات العربية المتواطئة لا تصدق على ما يبدو ما يحدث في مصر. سيطرت عقليتها الأمنية القائمة على احتساب السخونة بعدد القتلى والمصابين والمعتقلين على الاحتفاء بثورة مصر الهادئة والتاريخية. كنا كالمجانين وتقمصنا لساعات أدوار”المغفلين”، وفي حدود العشرين صديقاً تحولنا إلى وزارة إعلام متنقلة وافتراضية، من صورة إلى فيديو نتشارك ونعمم، فيزداد الضغط على ما يبدو حتى ونحن على مقاعدنا الوثيرة.
الشك التاريخي في “مناضلي الافتراض” تهاوي في لحظات حين أطل من الفيديوات عشرات الآلاف من البشر العاديين، وفي لقطة مؤثرة ظهر أحد قيادات اليسار تائهاً حرفياً في طوفان المظاهرة. كان يحملق غير مصدق نفسه أن يسير هكذا في قلب وسط العاصمة بعد أن سخر طويلاً من الجماهير. لقد أخرسته المفاجئة وحولته إلى لبنة صامتة ومنكسرة فيما يعلو الهتاف من حناجر بكر، صوتها يعلو للمرة الأولى ومزاجها حرّيف في بلورة الشعار الساخر الماكر والمباشر.
في 2006 حرق عمال المحلة صورة الرئيس، هذه المرة في نحو عشر محافظات كان الحرق على يد شباب عاديين، شباب كانوا يحيطون بمن يحمل حجراً ويتهمونه أنه “معهم” إذا ألقى بحجره، وتهاوت سنوات من مخافة الجميع من “الهاجس الديماجوجي”، هكذا بملابسهم الكاجوال، بتسريحة شعورهم الطويلة، بنساء وفتيات محجبات وشيوخ وعمال محلات، كلهم متشابكو الأيدي يفصلون الأمن عن التظاهر.
لقد احتسبها الأمن لوكيشن تصوير واسع، يضعهم أمام أعدائهم في الفراغ للتصوير و”تستيف” ملفات لا يتجاوز عددها العشرة آلاف ناشط، ملفات بليدة ومجمدة في أرفف ضجرة من تفاهة الخصومة، فإذا بالأمر يفوق الحدود المعروفة، الأمان المتعارف عليه، أمان الهروات المرخية إلى الجانب والتي تكفي تلويحة واحدة للارتجاف. هاجم المتظاهرون من هاجمهم متخيلاً أنهم لقمة سائغة. تشعلق الشباب بمدرعة رشاش المياه وحاول أحدهم إسقاط مطلق الرصاص المطاطي من أعلى مدرعة أخرى. كانت الهروات المرتجفة طوال اليوم لا تصدق أن فتى بنظارة طبية وملابس “افندي” يتطاول على مدرّعة بمدججيها من الغربان السوداء.
اليوم، لحظة كتابة هذا المقال، وقبل أن أنزل للشارع، تم اعتقال المئات وسط العاصمة. مظاهرة في العتبة، الصحافيون يحرقون صور مبارك على سلمهم، التظاهرات مشتعلة في السويس خلال جنازة ثلاثة شهداء أمس… اليوم في تمام الساعة السادسة أتوجه للميدان، اليوم… أشر وعمم….أنا في الطريق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى