صفحات سورية

لم يعد لدى الجنرال من يكاتبه

null
أمين قمورية
على نقيض ما كتب غابرييل غارسيا ماركيز في روايته الشهيرة “ليس لدى الكولونيل من يكاتبه” التي يروي فيها معاناة ضابط عجوز مع النسيان والتجاهل بعدما انتهى دوره السياسي وصار خارج اللعبة، فإن الجنرال مشرف انفك عنه الاصدقاء والحلفاء وهو في اوج سلطته “ولم يعد احداً يكاتبه”، فاختار ان يمشي بنفسه الى الوحدة والعزلة بعدما ادرك ان البقاء في الحكم بات مستحيلاً وسط تفاقم الاخطاء والاحقاد التي زرعها لنفسه.
منذ 11 ايلول 2001، صار اسم مشرف رديفاً للحرب على الارهاب، فلا غزو لافغانستان من دون الضوء الاخضر منه، ولا نجاح للحملة العالمية على “القاعدة” من دون مساعدته. وبين ليلة وضحاها تحوّل من كان يتهمه الغرب قبل سنتين بأنه “انقلابي” و”سارق سلطة” و”عدو للديموقراطية”، الى “معبود” الادارة الاميركية و”الصديق الكبير” للغرب. فكوفئ بمليارات الدولارات الاميركية وشحنات المساعدات التي انقذت اقتصاد باكستان المنهار، وجعلت السند والبنجاب وبلوشستان وباشتونستان تنسى قادتها الكبار وتدين بالولاء لجنرال واحد، للمرة الاولى منذ ولادة هذه الدولة عام 1947 كوطن لمسلمي شبه القارة الهندية.
وفي اقل من ثمان، جنرال باكستان الحديد ورجلها الاوحد صار يمشي عارياً في شوارع اسلام اباد بعدما سقطت عنه اوراق التوت. فالديموقراطية التي شاءها على قياسه ارتدت عليه وحملت الى رقبته خنجرين مخضبين بالانتقام لأشد خصمين له: حزب الشعب الذي يتهم مخابرات الرئيس بقتل زعيمته بنازير بوتو، وحزب الرابطة الذي غدر الجنرال بزعيمه نواز شريف. والاسلاميون الذين حملوه على الاكتاف راحوا يعدون له المكامن ومخططات الاغتيال بعد ارتكاباته في المسجد الاحمر والمدارس الدينية وحربه على القبائل في بلوشستان. والجيش الذي قاده سنوات طويلة وكان بطله في مرتفعات كارغيل اثناء الحرب مع الهند عام 1999، تخلى عنه في اللحظة الحاسمة ورفض اوامره بفرض الاحكام العرفية. فبين رئيس ضعيف افلتت الامور من يده والخطر الهندي، اختار الجيش ان يركز على الهند لا على قائده المطوق من كل جانب.
اما واشنطن التي اغرقت مشرف بالوعود وجعلته بصدق انه من اهل البيت الابيض، فاذا بها في اللحظة الحرجة تسحب يدها منه وتلقي عليه مسؤولية اخطائه وتعتبر ان استقالته “شأن داخلي باكستاني”. فمنذ متى تترك واشنطن للباكستانيين حق ادارة شؤونهم بانفهسم ولا سيما ان الحرب انتقلت من افغانستان الى قلب باكستان.
مشرف ارتكب الاخطاء تلو الاخطاء: سخر الديموقراطية لمصالحه الشخصية، اعطى الاولوية للمساعدات الخارجية على الانتاج المحلي، استخف بالقضاء ورجاله وحارب الاسلاميين من دون ان يكسب الى جانبه العلمانيين والمعتدلين. لكن خطأه الاكبر هو انه جعل نفسه اداة طيعة في يد الاميركيين.
ببساطة الباكستانيون ليست لديهم مشكلة مع حكم الجنرالات. فمن اصل 61 سنة هي عمر باكستان تولى العسكر السلطة فيها مدة 34 سنة.
وليست لديهم ايضا مشكلة مع الفقر، فهو أصلاً مـتأصل في البلاد منذ قيامها. ولكن لا يمكن لباكستاني ان يتقبل ان يحصل رئيس دولته على اموال من واشنطن ليقتل باكستانيين في منطقة القبائل ولاهور والمسجد الاحمر!
سياسات واشنطن الباكستانية اغرقت الجنرال في المتاهة. فمن جهة طالبته بمكافحة المتشددين الاسلاميين حيثما فشلت هي. وفي الوقت نفسه فرضت عليه نزع البزة العسكرية والتزام الديموقراطية واجراء الانتخابات التي من شأن حصولها ان تحمل الى قبة البرلمان واحدا من اثنين: الاسلاميين الذين يحظون بالتعاطف الشعبي بسبب القمع الشديد ضدهم او اخصامه المعتدلين الذين سيستغلون اخطاءه الكبيرة في الحكم. وهذا ما حصل فعلا في الانتخابات، اذ اكتسح حزبا بوتو وشريف مقاعد البرلمان وتاليا الحكومة، وتعاظم نفوذ الاسلاميين في الشارع وصارت “طالبان” الباكستانية اشد خطرا من نظيرتها الافغانية. واستدعى هذا التعاظم في قوة الاسلاميين محاولات المخابرات الباكستانية واحتضانها الامر الذي ما زاد في غضب واشنطن والحاحها على القمع.
وعلى الاغلب، فان واشنطن لن تكون اكثر حنكة مع حلفاء مشرف. ولكن هذه المرة السلطة في اسلام اباد لن تكون موحدة لان تحالف حزبي بوتو وشريف هو اشبه بزواج الماء والنار لما بين الاثنين من شر مستبد.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى