عالم يتحضر إلى المزيد من الحروب
سليمان تقي الدين
منذ ستينات القرن الماضي اكتشف الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي أن النموذج الإنساني الذي بناه الاتحاد السوفييتي ليس مختلفاً عن النموذج الغربي. التقط غارودي هذه الملاحظة الرمزية حين قال: إن الصناعة الاشتراكية هي كذلك تلوّث مياه الأنهر. في السباق التكنولوجي بين الشرق والغرب انعدمت الغايات الانسانية. تفوق النموذج الغربي لأنه حافظ على شكل الحرية وأتاح خيارات أوسع من نمط الاقتصاد المخطط والموجه. لكن هناك قضية أخرى شديدة الأهمية جمعت بين النموذجين هي السباق إلى الحرب والخوض في الحرب لأسباب تتعلق بمصالح الدول وأمنها القومي.
كانت حروب التدخل معروفة في الحقبتين الاستعمارية والامبريالية، وكان الاتحاد السوفييتي يدعم حروب التحرير والاستقلال. لكن تدخله في شؤون أوروبا الشرقية في الخمسينات والستينات لقمع خيارات الاستقلال في بولونيا والمجر وتشيكوسلوفاكيا كان علامة واضحة لنزوع امبريالي أيضاً. ثم كانت حرب أفغانستان واحتلالها عام 1978 اعلاناً صارخاً عن نزعة للتوسع والهيمنة تحت ذرائع الأمن القومي. لقد سقطت دفعة واحدة كل المفاهيم المتعلقة بالتضامن بين الشعوب والمساواة بين الأمم وحقها في تقرير مصيرها.
تحررت روسيا اليوم من القيد الايديولوجي نهائياً، وبرزت أكثر في صورة الدولة القومية الساعية إلى الدفاع عن نفوذها ومصالحها في اطار المنظومة السابقة لأوروبا الشرقية.
لم يؤدِ التحول في النظام السياسي الروسي إلى تبديل إيجابي في علاقته بمحيطه. لقد تجدد لديه النزوع إلى السيطرة بأشكال مختلفة. فهو سعى إلى اقامة علاقات تبعية لا سيما مع دولتين مستقلتين لهما تأثير في أمنه القومي هما أوكرانيا وجورجيا. ثم هو رفض الاعتراف بحقوق شعب الشيشان ولا يزال يدير حرب التدمير لهذا الإقليم. وها هو الآن يحتل جزءاً من جورجيا أو الاقليم المتنازع عليه معها (أوسيتيا). ليس هناك من معايير قانونية أو أخلاقية لنمط العلاقات هذه، يظهر جلياً أن الحروب هي حاجات دائمة لبناء توازنات القوة، وأن مصالح الدول المركزية ما زالت تطغى في نظرتها للسياسات الاقليمية.
بعد نهاية الحرب الباردة اعتقدنا للحظة أن العالم سيتجه أكثر إلى تحكيم الأمم المتحدة في العلاقات الدولية والى وقف الحروب واللجوء أكثر إلى القانون الدولي. لقد صارت المبالغة بأن وحدة النظام الاقتصادي العالمي يمكن أن تحد من نزعات السيطرة والعدوان.
ليس هذا الكلام موجهاً إلى سياسة روسيا وحدها طبعاً، وبقطع النظر عن شرعية المصالح التي تدافع عنها في جورجيا. جورجيا أصلاً ذهبت بعيداً في الارتماء في احضان الغرب وقدمت نفسها قاعدة غربية معادية لروسيا رغم عمق الروابط التاريخية معها. لعل ذلك يفسر سبب التشدد الروسي في التعامل معها، المسألة هنا تتعلق بمبدأ عام هو مبدأ الحروب التي شهدناها في العقدين الأخيرين، في أوروبا الشرقية وفي الشرق الاوسط. بل ان سباق التسلح عاد بوتيرة أكبر ونشر الأساطيل وشبكات الصواريخ والدروع الصاروخية. هذا عالم لا ينبئ بسلام أو بنظام دولي مستقر. أوروبا الغربية الآن نازعة إلى تكوين قوة عسكرية قارية مستقلة. إيران تسعى لكي تصبح قوة إقليمية عسكرية يحسب لها حساب. الهند وباكستان دخلتا النادي النووي. الصين عملاق لم يفتح ذراعيه بعد على المدى الدولي لكنه يلعب دوراً مهماً في أمن آسيا والدول المحيطة به خاصة في كوريا وفيتنام وكمبوديا.
حجم الترسانة الهائلة من الأسلحة ومن الأجيال المتطورة المخزنة منها تحتاج إلى سوق تصريف لهذا الإنتاج الأهم في الاقتصاد العالمي. صفقات السلاح التي تم التعاقد عليها في منطقة الشرق الأوسط بلغت عشرات المليارات. حجم الذخائر التي استهلكت في حرب لبنان في يوليو/ تموز 2006 يوازي حجم ذخائر استخدمت في حروب إقليمية سابقة. مستوى التدمير والاستخدام المفرط للقوة يتزايد في جميع النزاعات. حرب الصواريخ بين “إسرائيل” والعرب (حزب الله سوريا) وإيران بلغت مستويات عالية من التقدم. يُحكى عن أن صواريخ “إسرائيل” قادرة على اختراق أعماق التحصينات الإيرانية للمفاعلات النووية. أعطى الروس لسوريا شبكات من المضادات الجوية. يتزايد الصراع حول الدرع الصاروخية الاطلسية التي تزمع الولايات المتحدة نصبها في أوروبا الشرقية في مواجهة روسيا وإيران. يهدد الروس بالتراجع عن كل الاتفاقات الهادفة إلى الحد من التسلح ومن عسكرة الفضاء. نحن في عالم مهدد بحروب أكثر من ذي قبل، فهل من مفرّ؟