ميشيل كيلو نزيل سجن عدرا: المعادلة الصعبة
بالاضافة إلى ملف جريدة الأخبار حول ميشيل كيلو، تعيد صفحات سورية نشر مقالات ميشيل كيلو تضامنا معه في معتقله،
22 شهراً على اعتقال أبو أيهم
محمد علي العبدالله *
إنّه المثقف الملتزم الساعي إلى الديموقراطيّة، والكاتب النقدي، الحريص على خط المصالحة الوطنية والتوافق في بلده، لحماية الأمّة من الكاوبوي الأميركي الذي لا يحمل إلى المنطقة ديموقراطيّة بل خراباً واستعماراً جديداً. تحيّة له ولرفاقه في السجن، من جريدة جوزف سماحة الذي كتب في افتتاحيّة «الأخبار» (٣١ /١١/ ٢٠٠٦): «ميشيل كيلو حراً يعني سوريا أكثر قوة وعافية»
«حطولكم الـ كيلو بالجناح 7» هي العبارة التي خاطبنا بها أحد السجناء العاملين في سجن عدرا، يومها استٌجوبَ ميشيل كيلو أمام قاضي التحقيق الأول في دمشق، وأُصدرت مذكرة توقيف وجاهية بحقه في أيّار (مايو) ٢٠٠٦، وأودع سجن دمشق المركزي (سجن عدرا).
خرجتُ من جناحي إلى الجناح 7 ودفعت للحرس 25 ليرة سورية «ضريبة مغادرة» من جناحي، و25 مماثلة ضريبةً لدخول الجناح 7. (الجناح رقم 7 مخصص لسجناء الجرائم اللأخلاقية وقد قضى فيه كيلو قرابة 15 شهراً).
بحثت عن الأستاذ ميشيل في الجناح 7، توجهت إلى باحات الجناح، بحثت في الباحة الأولى فلم أجده. وفي الثانية، لم أجده أيضاً. عندئذ، توجهت إلى باحة غسيل الملابس، فرأيت شخصاً ضخماً يدير ظهره. كان يرتدي بدلة زيتية اللون، شابكاً يديه خلف ظهره، يتمشى بخطوات بطيئة. اقتربت منه أكثر، ولما صرت خلفه تماماً صرخت بصوت عالٍ وقبل أن أتأكد من هويته: «نوّرت عدرا». التفت إليّ. لم أكن مخطئاً، إنه ميشيل كيلو! مددتُ يدي لأصافحه، فسحبني إليه بقوة، واحتضنني وقبلني ـــــ من دون مبالغة ـــــ أكثر من عشر قبلات….
«هون كنتوا إنتا وأبوك كل هالمدة» (اعتقلنا في سريّة تامة ٥٥ يوماً) ؟ انشغل بالنا عليكم كثير».
ـــــ بعرف…أجبته بسعادة! سمعت أنك كتبت مقالاً عن اختفائنا! شكراً.
ـــــ بس وين كنتوا؟؟ أعاد السؤال.
ـــــ كنا بسجن صيدنايا العسكري، ونقلنا إلى سجن عدرا قبل اعتقالك بيوم، لذا لم يتسنّ لك أن تعرف.
ـــــ أبو حسين كيفه؟؟ (أبو حسين والدي).
ـــــ منيح وبيسلم عليك.
ـــــ طيب روح هلق (هلق بالقاف بلهجة أهل اللاذقية الجميلة)، من شوي واحد حكا معي إجوا الشرطة ضربوه.
كانت تلك وقائع الحوار الأول لكيلو في سجن عدرا. صرفني قلقاً علي، بعدما رتبت موعداً بينه وبين والدي صباح اليوم التالي على شباك الباحة الأخيرة.
لم أكن أعرف أن رياض الترك محامٍ قط. عرفته سجيناً ومعارضاً سياسياً شرساً لا غير. خلال محاكمة ميشيل كيلو. حمل “ابن العم” كما يلقّب، حقيبته، ودخل غرفة قاضي التحقيق الأول. حضر استجواب كيلو ومحمود عيسى. رياض الترك يرافع عن ميشيل كيلو.
فوجئت عندما علمت متأخراً أن “ابن العم” محامٍ، لكن لم أُفاجأ حقيقةً لكونه يترافع عن الأستاذ ميشيل كيلو. خصوصية العلاقة التي تربط كيلو والترك نادرة وفريدة. لدى إطلاق سراح رياض الترك عام 2002، بعدما قضى قرابة عام في زنزانة منفردة في سجن عدرا، فجأةً، فتح رجل أنيق باب الزنزانة عليه وقال: «معي أوامر من سيادة الرئيس أن تكون خارج السجن خلال نصف ساعة».
رد الترك: طيب سأرتب أغراضي.
ــــــ اترك أغراضك، ستأخذها لاحقاً.
ضابط من القصر الجمهوري، أقل الترك بسيارته إلى خارج سجن عدرا. خرج به من طريق عدرا الصحراوي. لوهلة خال أنّ الساعة حانت و«صدق المرسلون»، وأنه ذاهب إلى حتفه. سأله الضابط أين يريد أن ينزل، فأجاب: القصاع.
أنزله الضابط هناك، ذهب “ابن العم” مباشرة إلى منزل ميشيل كيلو. وقرع الجرس ليفتح كيلو الباب، ويجد هذا الزائر غير المتوقّع. وكان قد صودف اجتماع للجان إحياء المجتمع المدني في منزل كيلو فحضره الترك. لا يعرف ابن العم السبب الحقيقي الذي دفعه إلى اختيار منزل كيلو كأول محطة بعد الخروج، لكن كيلو كان الشخص الأول الذي خطر في باله على الأرجح.
في زيارة مشتركة قام بها فريق الدفاع عن المعتقلين إلى سجن عدرا، اجتمعنا معاً للمرة الأولى، 14معتقلاً وتسعة محامين، وجميع ضباط سجن عدرا. كان فريق الدفاع يحمل «مبادرة إنقاذية»، وهو بيان يدين فيه المعتقلون قرار مجلس الأمن رقم 1680 فيُطلق سراحهم فوراً (كدليل على وطنيتنا).
لم يخبرنا فريق الدفاع بالمبادرة بشكل مباشر، بل راح يلقي بعض الكلمات هنا وهناك، على الأرجح أنهم لم يجرؤوا على ذلك، وخصوصاً بعد مقابلة المعتقلين، وملاحظة «السقف العالي» لخطابهم المعارض. يومها، كان الحديث ضد السلطة علناً، أمام ضباط السجن مباشرة، وتحت مراقبة الكاميرات الموجودة في قاعة المحامين.
لم يدهشني هذا الموقف من المعارضين المعتقلين قطّ، فهو موقف متوقع من أشخاص وقفوا في وجه السلطة مع إدراكهم المسبّق لعواقب هذا العمل.. لكن بهرني كلام الأستاذ ميشيل الموجّه إلى أحد المحامين: «روح خبرهم أن يجدوا وسيلة للخروج من المأزق الذي وضعوا أنفسهم فيه باعتقالنا، فيحفظوا ما بقي من ماء وجههم. نحن قاعدين هون وما عنا مشكلة، وأوعى ترجع جايب لي مبادرات. تذكّر دائماً أننا نحن في موقع القوة وهم في موقع الضعف، وكلمة ثانية أنا ما بطلع من هون إلا باعتذار رسمي من السلطات».
إنّها رسالة ميشيل كيلو لا تزال راهنة اليوم بعد ٢٢ شهراً على اعتقاله. إن سلطة تزج نخبتها المثقفة في السجن لا شك في أنّها تواجه مأزقاً ما… الخروج الوحيد منه هو بأن يستعيد هؤلاء حريّة الحركة والكلمة في بلادهم. سوريا من دونهم تشكو من وهن أكيد، بهم ومعهم تستعيد قوّتها، وتضمن استقرارها الداخلي، في مواجهة أعداء الأمّة وفي الدفاع عن قضايا العرب العادلة. هذه هي المعادلة الصعبة!
* كاتب وناشط حقوقي سوري
في مقالة بعنوان «قصة اعتقالي واتهامي» كتبها في السجن، يقول كيلو: «ليس فقط إعلان بيروت ــــ دمشق سبب اعتقالي. هذه قناعتي. وإذا كان هناك مَن يريد الانتقام مني؛ فأتفهم موقفه وإن لم أقبله، مع رجاء أوجّهه إليه هو أن يمتنع عن وضعه تحت حيثية القانون والقضاء، كي لا يقوّض القليل مما بقي لهما من مكانة». وحول وجود معارضين في سوريا لا معارضة، ردّ: «ثمة معارضة في سوريا. وهي أول معارضة عربية رفعت مطلب التغيير الديموقراطي (1974)، وكونت تجمعاً وطنياً ديموقراطياً، وربطت السياسي بالثقافي ورفضت مغادرة بلادها إلى المهاجر، وخاضت معركة ضد نظام كانت تعلم أنه أقوى منها».
أنا المواطن والإنسان الحرّ ميشيل بن حنا كيلو وغالية عوض…
(…) سادتي القضاة، سيدتي قاضية النيابة (…)
لست المدعو ميشيل كيلو، نصير «14 شباط»، (حسب المذكرة الأمنية بحقّه) أنا الإنسان والمواطن الحر ميشيل بن حنا كيلو وغالية عوض الذي ليس نصير أية جماعة في لبنان أو سوريا، وليس نصير أي حزب قائد أو منقاد وأية ثورة، سواء أكلت وطنها أم أكلت ناسها، لأنني نصير وطني الصغير سوريا ووطني العربي الكبير، ونصير كل مواطن فيهما، نصير الحرية والديموقراطية (…)
أنا الإنسان والمواطن الحر ميشيل كيلو، الذي يعبر، حباً بسوريا وبالعرب، عن إصراره على خط المصالحة الوطنية والتوافق في بلده (…) لأن المصالحة والتوافق ضروريان لحماية الوطن والشعب والأمة في الداخل والخارج، من القمع والفساد الداخلي ومن الاحتلال الخارجي. كما أُعلن تمسّكي بسياسة «اليد الممدودة والعقل المفتوح» تجاه النظام التي كنت من أوائل مَن قالوا بها. وإذا كنت أكرر اليوم هذا، فليس خوفاً من السجن أو القمع (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)، بل لإيماني الراسخ بأن المرحلة تضمر أخطاراً جسيمة إلى درجة يعجز النظام والمعارضة عن التصدي لها كلٌّ بمفرده، تحتم الوطنية مواجهتها بجهود مشتركة متوافق عليها ومعلنة وتحظى بدعم الشعب والمواطنين، وإلا ضاعت البلاد (…) وطننا مهدد بأخطار داهمة، داخلية وخارجية، بل قد يكون هدفاً لضربات عسكرية معادية لا ترحم، قد توجّه إليه في أي وقت (…)
أنا مجرد مثقف يجبره الانهيار العربي العام على الاهتمام بالشأن العام. ولست سياسياً بأي معنى من معاني الكلمة، بل مواطن يهتم بالشأن العام لأسباب روحية وضميرية تقلقني. كما تقلق النخب المثقفة العربية في كل مكان، ترجع إلى انهيار ما كنت أؤمن به وأعمل لأجله، مع جيلي كله، من أحزاب وأيديولوجيات وزعامات، وإلى كون «الثورة العربية» أو ما عرف بذلك، أعادت إنتاج الوضع الذي تمردت عليه ووعدت بتغييره إلى الأحسن، لكن في طبعة أسوأ بكثير من تلك التي كانت ترفضها (…)
إنني لا أسعى إلى أية مصلحة خاصة، لو كنت أسعى إلى مصالحي لتعاونت مع النظام وصرت مليونيراً أو مسؤولاً ككثير من المنافقين والتافهين، لكنني لست والله منافقاً أو تافهاً، لذلك أعلن عزوفي اليوم، وفي أي زمن آخر، عن أخذ أي موقع في أي مكان من السلطة أو الدولة، وتمسكي بأن يكون لي دور أكيد في إصلاح أوضاع بلدي ومؤسساته وسياساته بصورة سلمية
وعقلانية (…)
هذا الدور الذي يمليه عليَّ حبي لأمتي ووطني، وواجبي تجاههما سيتواصل بإذن الله، فهو واجب لا أعتذر عدم عن القيام به، ولا أطلب المغفرة أو العفو من أحد بسبب تأديته، وهو سيستمر بإذن الواحد الأحد، حتى في السجن، إلا إذا أقنعني أحد ما، أو أقنعت نفسي، أنا الذي يرى عمله بعين النقد القلقة، ولا يراه بعين الكمال المطمئنة، أنه خطأ، وهو أمر مستبعد، كما أعتقد.
* مقطع من المرافعة التي ألقاها ميشيل كيلو أمام محكمة الجنايات دفاعاً عن نفسه في 7 أيّار (مايو) ٢٠٠٧