صفحات مختارةمازن كم الماز

نحو نمط جديد من الممارسة السياسية

null


موري بوكشين*

هناك طريقتان للنظر إلى كلمة “السياسة” . الأولى – و الأكثر تقليدية – هو وصف السياسة كمنظومة محصورة حقا و احترافية عموما لعلاقات القوة يقوم فيها أخصائيون نسميهم “سياسيين” بوضع القرارات التي تقرر حياتنا و تنفذ هذه القرارات عبر وكالات و بيروقراطيات حكومية .

هؤلاء “السياسيين” و “سياستهم” تقابل عموما بدرجة معينة من الازدراء من قبل كثير من الأمريكيين . إنهم يأتون إلى السلطة جزئيا عبر “أحزاب” ما هي إلا بيروقراطيات عالية التنظيم و تزعم أنها “تمثل” الشعب – و من وقت لآخر ( إشارة إلى أوقات الانتخابات – المترجم ) تزعم أن شخصا واحدا يمثل عددا ضخما من الناس كأعضاء الكونغرس و مجلس الشيوخ . إنهم “منتخبون” و ينتمون إلى “المختار” ( لترجمة التعبير الديني القديم إلى تعبير “سياسي” ) , و بهذا المعنى فإنهم يشكلون نخبة تراتبية هرمية متمايزة مهما ادعوا أنهم يتحدثون “باسم” الشعب . إنهم ليسوا “الشعب” . إنهم “ممثليه” في أفضل الأحوال مما يعزلهم عن الشعب , أو المتلاعبين به في أسوأ الأحوال مما يضعهم في مواجهة الشعب . غالبا ما يكونون مخلوقات عدائية جدا لأنهم ينخرطون في ممارسات مخاتلة غير أخلاقية و نخبوية , مستخدمين وسائل الإعلام الجماهيرية و متخلين بشكل طبيعي عن بعض التزاماتهم البرنامجية الأكثر أساسية “لخدمة” الشعب . عوضا عن ذلك فإنهم يقومون بخدمة مجموعات ذات مصالح خاصة , عادة صاحبة الثراء الواسع , التي تدفع حياتهم المهنية و خيرهم المادي .

هذه المنظومة الاحترافية النخبوية و غير الأخلاقية غالبا و المخادعة من “السياسة” و التي تجعل من العمليات الديمقراطية مجرد زيف و التي نقرنها بتقاليدنا هي مبدأ سياسي جديد نسبيا . لقد ظهرت مع ظهور الدولة القومية قبل عدة مئات من السنين عندما بدأ الملوك المطلقين في أوربا مثل هنري الثامن في انكلترا و لويس الرابع عشر في فرنسا بتركيز سلطات هائلة في أيديهم مؤسسين الدولة ذات التراتبية الهرمية التي نقرنها مع “الحكومة” و مشكلين تلك الإطارات الجامعة التي نسميها “الشعوب” من نطاقات أكثر لا مركزية مثل المدن الحرة و اتحادات الأقاليم و مجموعة من المقاطعات الخاضعة للإقطاع .

قبل تشكيل الدولة القومية كان ل”السياسة” معنى مختلف جدا عن معناها اليوم – و “السلطات القائمة” اليوم تبذل كل ما بوسعها لتمحو ذاكرة ذلك المعنى من أذهاننا . في أفضل حالتها كانت تعني أن الناس على مستوى الجماعة – في القرى , البلدات , المناطق المتجاورة , و المدن – كانوا يديرون الشؤون العامة و التي منذ ذلك الحين حل السياسيون و البيروقراطيون مكانهم . لقد قام الناس بإدارة هذه الشؤون مباشرة , من خلال جمعيات المواطنين وجها لوجه كما نشاهد في اجتماع البلدات في نيو إنجلاند . قاموا غالبا بانتخاب مجالس فقط لتنفذ القرارات السياسية التي قررها المواطنون في جمعياتهم الخاصة . و كانت هذه الجمعيات حريصة على أن تشرف عن قرب على النشاطات التنفيذية للمجالس لتقوم بإقالة “المندوبين” الذين يصبح سلوكهم محلا للرفض الشعبي .

أكثر من ذلك مضت الحياة السياسية أبعد من جمعيات المواطنين لتشكل ثقافة سياسية غنية : مناقشات علنية يومية في الساحات , الحدائق , زوايا الشوارع , المؤسسات التعليمية , المحاضرات المفتوحة , النوادي و ما شابه . لقد ناقش الناس السياسة حيثما اجتمعوا معا , معدين أنفسهم بذلك لجمعيات المواطنين . كانت السياسة شكلا للتثقيف و ليس للتعبئة , لم يكن هدفها فقط صياغة القرارات بل بناء الشخصية و تطوير العقل . كانت عملية موجودة ذاتيا حيث طورت جماعة المواطنين من خلالها ليس فقط المعنى الغني من التماسك الداخلي بل أيضا معنى غنيا من الفردية الشخصية – هذا التطور الذاتي الذي لا غنى عنه و الذي يقوي الإدارة الذاتية و الإشراف الذاتي . في الخاتمة فإن مبدأ الثقافة السياسية أدى لانبثاق طقوس و مهرجانات و احتفالات مواطنية و تعابير مشتركة عن الفرح و الحزن و التي أعطت لكل منطقة , سواء أكانت قرية أو بلدة أو حي أو مدينة , معنى خاص للشخصية و الهوية , الأمر الذي عزز تفرد الإنسان أكثر من أنه أدى إلى تحويله إلى تابع للجماعة .

إن سياسات كهذه عند تنفيذها كانت عضوية و إيكولوجية ( بيئية ) بدل أن تكون “تركيبية” بمعنى أنها تتركب من الأعلى إلى الأسفل . كانت عبارة عن عملية مستمرة و ليس “حدثا” مقيدا و مقصورا كما نشاهده في “أيام الانتخابات” . يتطور المواطن شخصيا كنتيجة لمشاركته السياسية بسبب ثراء النقاش و التفاعل الذي يشارك فيه و القوة التي يخلقها . يؤمن المواطنون عن حق أنهم يملكون السيطرة على مصائرهم و يمكنهم تقرير قدرهم – لا أنه يقرر سلفا من قبل الأشخاص و القوى التي لا يملكون أية سيطرة عليها . هذا الشعور متبادل : إن المجال السياسي يعزز الفرد بإعطائه شعور من القوة , فيما يعزز دور الفرد الإطار السياسي بدعمه بشعور قوي من الإخلاص و الولاء . في هذه العملية المتبادلة فإن الفرد “أنا” و الجماعة “نحن” لا يتبع أحدهما الآخر , بل كل منهما يعضد الآخر . يوفر الإطار العام القاعدة و التربة الجماعية لتطور شخصيات فردية قوية و تتحد الأخيرة لتشكل معالم و إطار الحقل العام القوي .

يبقى أن نؤكد أن هذه المجتمعات الحرة تنحل دوما أو بالضرورة إلى وحدات مستقلة ذاتيا تعاونية حصرا و ضيقة . إنها غالبا ترتبط ( تتشابك ) مع بعضها البعض لتنسق قراراتها بطريقة تعاونية . إنها تتشارك – في البداية على أساس ما يعادل ما نسميه اليوم “المقاطعة” , فيما بعد و في حالات كثيرة على مستوى إقليمي ( ربما يعادل , في الولايات المتحدة , حدود الولاية ) . لدينا تاريخ غني عن هذه الاتحادات الكونفيدرالية ذات الاستقلال المحلي , التي كانت في بعض الحالات تقيم بنيتها على أساس إدارة القاعدة , و حتى الأحياء , و التي ما تزال تحتاج إلى الدراسة التي تستحقها – و في الولايات المتحدة , ليس أقل مما في أوروبا . في بعض الحالات أيضا تنسق المجالس الاتحادية القرارات التي تتخذها الجمعيات المحلية المسؤولة عن صياغة السياسات في كل الأوقات , فبينما هي قابلة للإقالة بتصويت شعبي فإن هذه المجالس المراقبة بعناية تديرها بطريقة تقنية على نحو صرف . عندما كانت توجد الحاجة للخبراء ليقدموا بدائلهم التقنية البحتة , كان يجري تنظيمهم في هيئات استشارية , حيث لا يملكون أية سلطة لاتخاذ القرارات , و يقومون بتقديم بدائل مختلفة للنظر فيها , تعديلها و إقرارها من قبل جمعيات المواطنين في القرى , البلدات , الأحياء و المدن . و حيثما توجد اختلافات كان يجري اتخاذ الحكم فيها في لجان المؤتمر أو هيئات التحكيم , كما ما يزال يجري العمل به اليوم عندما تظهر تباينات غالبا خلافية عن نفس القانون عند مناقشته في مجلس الشيوخ و مجلس النواب .

إن النسخة المعاصرة لما نسميه “السياسة” اليوم هي بالفعل فن إدارة شؤون الدولة . إنها تصر على “الاحترافية” , و ليس على سلطة الشعب , احتكار السلطة من قبل قلة , و ليس تفويض الأكثرية , “انتخاب” مجموعة “مختارة” , لا العمليات الديمقراطية التي تمارس وجها لوجه و التي تشمل الشعب بمجمله , “التمثيل” و ليست المشاركة . إننا نستخدم “السياسة” بقصد تعبئة “جمهور الناخبين” لتحقيق أهداف محددة سلفا , و ليس تثقيفهم لتولي الإدارة الذاتية للمجتمع و بناء شخصيات قوية توطد الفردية و الشخصية الأصليتين . إننا نتعامل مع الشعب على أنه “جمهور ناخبين” سلبي تنحصر مهمته “السياسية” في أن يصوت على نحو طقسي “لمرشحين” قادمين من ما يسمى “بالأحزاب” , و ليس لمندوبين يجري تفويضهم بشكل صارم لإدارة السياسة التي يصوغها و يقررها المواطنون الفاعلون . إننا نشدد على الطاعة , لا المشاركة – و حتى نشوه كلمات مثل “المشاركة” لتعني أكثر قليلا من موقف متفرج حيث يضيع الفرد في “الجمهور” و تجري تشظية “الجماهير” نفسها إلى أفراد معزولين محبطين و عاجزين .

إن صورة “السياسة” هذه كما عرضتها أنا هي ظاهرة جديدة نسبيا انبثقت في أوروبا في القرن السادس عشر و شقت طريقها إلى الوعي الجماعي في الأيام الحديثة نسبيا . لم تكن قد أصبحت بعد فكرة مقبولة عن “السياسة” حتى في القرن الماضي . على العكس تماما : كان على الدولة القومية في فرنسا , إسبانيا , ألمانيا , إيطاليا – و ربما بشكل أكبر , في الولايات المتحدة – أن تقوم بكل جهد ممكن لتفرض سلطتها على الأقاليم و المناطق في مواجهة المقاومة الشعبية الهائلة . في أمريكا كانت هذه العملية ربما أقل اكتمالا من معظم الدول الأوروبية . قامت ثورتنا قبل قرنين بمنح سلطات هائلة – بل في البداية سلطات كاملة – للمناطق و الأقاليم ( إنني أشير إلى دستورنا الأول , مواد الاتحاد و التي منحت الولايات ال 13 المؤسسة السلطة الوقائية على الحكومة الوطنية – دستور يمكنني أن أضيف أن قد فضل المزارعين و الفقراء في المدينة على الأثرياء , من هنا استحق مكانته “الحقيرة” في كتب تاريخنا ) و بنى دفاعاتنا حول ميليشيات المواطنين و ليس حول جيش محترف .

استمر واقع سياساتنا المبكرة لأجيال حتى بعد أن بدأت الدولة القومية بفرض نفسها بشكل قانوني . أي أن الأقاليم و المناطق احتفظت بسلطة فعلية هائلة و وفرت مجالات سياسية حيوية على الرغم من سن قوانين للتقليل من فعالياتها و وضعها تحت سيادة الدولة القومية . إن التراث الأمريكي , غالبا في تناقض كبير مع نظيره الأوروبي , يؤكد على هذا المثال الأعلى من الإدارة الذاتية المحلية و مخاطر سلطة الدولة الهائلة . يشدد هذا التراث على حقوق الفرد في أن يعزز نفسه في مواجهة السلطة , و على الرغبة في درجة معقولة من الاكتفاء الذاتي , حقوق المجتمع في مواجهة قوة الشركات – الحقوق “غير القابلة للتحويل” للبشر في “الحياة , الحرية , و الحصول على السعادة” , تعبير يلفت الانتباه لغياب أي تأكيد على الملكية . إن ابتعاد واشنطن ك”عاصمة قومية” كانت ميزة دائمة للغة الأمريكية السياسية و التأكيد على الإقليمية و المحلية كمثل أعلى ثابت .

لقد سمحنا للرجعيين السياسيين و للناطقين باسم الشركات الكبرى أن يستولوا على الأهداف الأمريكية التحررية الأصلية . لقد سمحنا لهم ليس فقط أن يصبحوا “الصوت” المخادع لتلك الأهداف مثل استخدام الفردية لتبرير الفردانية , “الحصول على السعادة” لتبرير الجشع , و حتى إصرارنا على الإدارة الذاتية للمناطق و الأقاليم استخدم لتبرير ضيق الأفق , الانعزال , التقييد – غالبا ضد الأقليات الأثنية و ما يسمون بالأفراد “المنشقين الذين يتحدوا النظام القائم” . حتى أننا قد سمحنا لهؤلاء الرجعيين بأن يزعموا أنهم “تحرريون” و هي كلمة ابتكرت لغويا في الواقع في التسعينيات من القرن التاسع عشر في فرنسا من قبل إيليه ريكلوس كبديل عن كلمة “أناركي” , التي قضت الحكومة يومها بأنها كلمة غير قانونية للتعريف بآراء أي شخص . استولى أصحاب الأملاك , في الحقيقة – مساعدو القساوسة لآين راند , الأرض الأصلية للجشع , الفردانية و فضائل الملكية – على التعابير و التراث الذي كان يجب أن يعبر عنه الراديكاليون لكن التي تم تجاهله عمدا بسبب إغراء التقاليد الأوروبية و الآسيوية عن “الاشتراكية” , “الاشتراكيات” التي تدخل اليوم في مرحلة انحطاط في نفس البلاد التي نشأت فيها .

إنه الوقت أخيرا لكي نطور سياسة لا تكون مجرد إدارة لشؤون الدولة – دولة ينظر إليها الشعب الأمريكي أصلا بريبة عميقة و مبررة . إنه الوقت كذلك لكي نبدأ فيه بالحديث إلى الشعب الأمريكي بمفردات الراديكالية الأمريكية التي ظهرت في الوطن , و ليس الماركسية الألمانية أو الماوية الصينية , و هي مفردات آخذة بالاضمحلال حتى في ألمانيا و الصين . أخيرا إنه الوقت لنطور سياسة عضوية – سياسة بيئية – و ليست سياسة دولتية ( تتركز حول الدولة – المترجم ) تتأسس حول أحزاب , بيروقراطيات , مختصين سياسيين , و نخب سياسية . صفة عضوية أو بيئية – أي خضراء بكلمة واحدة – تعني حرفيا نشوء سياسات العضوية بالمعنى الحقيقي للكلمة بأن نبدأ بالمستوى الخلوي من حياتنا الاجتماعية : الجماعة , سواء أكانت الحي , المدينة , البلدة أو القرية , و ليس الشعب “المجرد” و ما يعبر عنه من أحزاب سياسية , بيروقراطيات , “مسؤولين تنفيذيين” , و ما يشبه ذلك . تعني السياسات الخضراء أن نقوم بتطبيق المبادئ و العمليات الإيكولوجية البيئية على طرق نشاطنا السياسي – على مستوى القاعدة المحلية في جمعيات ذات ممارسة ديمقراطية و شعبية وجها لوجه . إنها تعني سياسة حميمية تقوم على التثقيف , و ليس مجرد التحشيد , بحيث أن ستساعد في خلق مواطنين فعالين مشتغلين بالسياسة و مشاركين , و ليس مجرد جمهور ناخبين سلبي منشغل بنفسه و متفرج لا يملك أية سلطة على مصيره . إن مجال هذه السياسة هو البلديات : جمعيات الأحياء , اجتماعات البلدات , اجتماعات الجماعات التي ستحول أقاليمنا إلى شبكة متحدة مرتبطة داخليا و جيدة التنظيم من المؤسسات المحلية – المؤسسات التي ستشكل بديلا عن المركزية و البيروقراطية المتفاقمة أبدا للدولة القومية . سيكون برنامجها الأساسي هو : دع الشعب يقرر ! و هو برنامج ينبثق من التراث الأمريكي الراديكالي بوضوح , و ليس مستعارا أو مجددا من الخارج .

هذه المؤسسات المحلية الموازية هي ضعيفة ربما لكنها ما تزال قائمة في الولايات المتحدة . إنها موجودة كديمقراطية داخل جمهوريتنا و كشكل من الراديكالية الداخلية داخل ديمقراطيتنا . يجب أن يكون مطلبنا :

أيها الأميركيون ! في وقت الزيادة المستمرة في مركزية و بيروقراطية الدولة , فإننا نطالب بدمقرطة جمهوريتنا و جعل ديمقراطيتنا راديكالية !

* موراي بوكشين ( 1921 – 2006 ) ناشط و منظر أمريكي أناركي و مؤسس للاتجاه الإيكولوجي الأخضر المعاصر .

ترجمة : مازن كم الماز


نقلا عن
//dwardmac.pitzer.edu/anarchist_archives/archivehome.html

نشرت في المنظور الأخضر – غرين بيرسبيكتيف , العدد الأول يناير كانون الثاني 1986

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى