قضْم العالم العربي
د. طيب تيزيني
جاءت الأنباء الأخيرة لتضع رصيداً جديداً في حساب العملية العريقة والمتمثلة في قضْم العالم العربي، فقد أعلنت وكالات الأنباء أن إيران افتتحت عدداً من الإدارات والمؤسسات غير الشرعية في إحدى الجزر الثلاث، التي احتلتها إيران من دولة الإمارات العربية المتحدة بكيفية قد تتماهى مع سلطة الغاب وفي مواجهة مع القانون الدولي. ويأتي ذلك بوصف كونه وريثاً شرعياً لعمليات القرصنة الاستعمارية، التي كلفت خسارة مجموعة من المناطق العربية، كان منها لواء الاسكندرون وعربستان ومرتفعات الجولان… إلخ، وما زال الأمر مفتوحاً، خصوصاً مع احتلال العراق، ناهيك عن أرض فلسطين السليبة.
وثمة ملاحظة عميقة الدلالة على ما نحن بصدده. إن المناطق العربية، التي تم قضمها حتى الآن، ما إن تدخل “حالة القضم”، حتى تصبح أمراً منسياً، إلا إذا مرت مناسبة تقتضي تذكرها أو التذكير بها. بل إن بعضها ربما أصبح خارج تاريخ بلدها العربي، ليلتحق بتاريخ البلد القاضم. ومن شأن هذا أن يجعل منه سابقة في حقله. وفي هذه الحال، يحق للباحث المؤرخ وللمواطن العربي أن يتساءلا فيما إذا كان فعل ذلك من حق أي كان إدخال ذلك في عالم النسيان، وليس صحيحاً أن نتغافل عن النظام الدولي ومقتضياته، التي منها أن يأتي توقيت الحديث عن عملية القضم المعنية في سياق دولي وإقليمي ومحلي يحتمله، بقدر أو بآخر؛ مع تأكيد قطعي على العمل- بحدوده الممكنة القصوى- على استرجاعه، اليوم أو غداً. بل في أحوال معينة وشديدة الخصوصية، يتعين على السلطة التنفيذية والأخريين التشريعية والقضائية أن يعودوا إلى أهم أداة فعلية يمكن عبرها معرفة ما يجب فعله؛ نعني استفتاء الشعب.
أما بالنسبة إلى الحالة الراهنة، التي ابتدأنا حديثنا بها، وهي ما فعلته إيران في الفترة الأخيرة بإحدى الجزر الإماراتية الثلاث المستعمرة من قبلها، فإن الأمر أكثر حساسية وخطراً، فإذا أخذنا مشكلة الجزر المذكورة بعين الاعتبار، فإننا نواجه مشكلة أخرى متممة هي البنية الديموغرافية في الإمارات العربية المتحدة؛ نعني أننا إذا انطلقنا من أن نسبة السكان العرب هناك لا تبلغ العشرين بالمائة، فإن كمّاً ضخماً من المخاطر تفصح عن نفسها. من هذه المخاطر اللعب بمستقبل الهوية العربية لدولة الإمارات، كأن يأتي من يأتي الآن أو غداً ويشكك في السياسة التي تتبعها هذه الدولة على صعيد القضايا المتصلة بـ”حقوق الإنسان” وذلك في هدف ينتهي إلى المطالبة بمنح جنسية الدولة الاتحادية (الإماراتية) لكل من يعيش على أرضها. وبذلك، يفعل أولئك المطالبون في الخارج والداخل إلى نقل الإشكالية إلى قلب المجتمع العربي الإماراتي، فتغدو مسألة “الهوية العربية” موضع نزاع لا نعدم مثيله في بلدان راهنة، وضمن الاستحقاقات التي يطرحها النظام العالمي الجديد.
وإذا كان الأمر على ذلك التعقيد القابل لأن يكون أكثر تعقيداً، فإن “كلمة حق” تنطلق من مواقع الفكر العربي الناهض والحر، تغدو ذات أهمية عظمى: لا تأمنوا من يدعو إلى استنفاد الهوية العربية باسم عالم جديد مطهّم بالحداثة والتقدم. فدعوة من هذا الطراز جاهلة بالاعتبار التاريخي والمعرفي، وزائفة بالاعتبار العالمي المعاصر. ذلك لأن الحفاظ على الهوية العربية في سياق من الرؤية النقدية العقلانية المفتوحة، لا يدخل في تضاد مع منظومة الحداثة والتقدم؛ بل يكاد يتماهى معها، خصوصاً وأن تقويض الهويات التاريخية المفتوحة والمتفتحة سيكون أمراً كارثياً على أهلها وعلى منطق الأشياء: إن العمومي الكوني لا يوجد في ذاته، وإنما في سياق الخصوصي المحلي (الوطني أو القومي).
ونكاد نقود فكرتنا النقدية هنا باتجاه القول بأن التقاعس التاريخي حيال الحفاظ على ذلك الخصوصي المحلي يمكن أن يفضي إلى تفكيك الاستقلال الوطني، ومن ثم إلى مواجهة الاستحقاق الاستقلالي في مراحل قد تجف فيها محاولات الانتصار. إن دعوة المفكرين والباحثين والمثقفين العرب لمواجهة تلك المهمات العظمى في الحقول العربية، وخصوصاً منها ما يتصل بهاتين القضيتين، قضم العالم العربي والحفاظ على “حصان طروادة” في هذا العالم، إنما هو أمر جد حاسم. أما ذلك، فهل تغدو الدعوة إلى مؤتمر من طراز جديد للمفكرين العرب، أمراً محتملاً؟!
جريدة الاتحاد