عطالة التاريخ والوعي المؤجل
د. برهان غليون
عندما قرأت في مطلع شبابي كتاب المرحوم هشام شرابي عن المثقفين والغرب، استفزني منهجه في التمييز الواضح بين نخبتين مسيحية وإسلامية ورصد مواقفهما المتباينة. وبدا لي هذا التمييز في ذلك الوقت مخالفاً للواقع ومبالغاً في رصد فروق ثانوية في المواقف لا تنتمي بالضرورة لاختلاف الانتماءات الدينية بقدر ما تعبر عن تبايُن وجهات النظر السياسية والفكرية على أرضية استيعاب تحديات الحداثة العربية. وعندما كتبتُ كتابي “المسألة الطائفية ومسألة الأقليات” بطلب من المرحوم عبدالوهاب الكيالي الذي أراد معرفة كيف ينظر مسلم سُني لموضوع الطائفية، تبنيت موقفاً مماثلاً، فرفضت أن أميِّز ظاهرتها كقضية مستقلة لها خصوصيتها، وبالتالي تاريخيتها الخاصة أيضاً، وأدرجتها في مسألة أكبر منها هي مسألة بناء الأمة. فصارت مشكلة الأقليات عندي بالدرجة الأولى مشكلة الأكثرية، أي نتيجة لعجز هذه الأخيرة عن بناء رابطة وطنية عميقة، أو جماعة سياسية مكونة من مواطنين أحرار ومتساوين قادرة على دمج الأقليات وتحريرها من تواريخها الخاصة، وبالتالي ثمرة العجز عن بناء تاريخ عام جديد وموحد هو تاريخ الجماعة السياسية الوطنية. والتاريخ هنا يعني الذاكرة، ويعني أيضاً الصيرورة والاندماج في سيرة مشتركة.
كنت أعتقد بالفعل أن الحساسيات التاريخية المرتبطة بفكرة الأقليات ذاتها ستزول من تلقاء نفسها عند نشوء ديناميكية وطنية جديدة وشاملة تجذب الجميع إليها وتجرف مخلفات الماضي جميعاً وتقضي عليها. وكان هذا الموقف انعكاساً للمناخ السائد في ذلك الوقت، الذي وجه بصورة لا شعورية وعينا وتفكيرنا، أعني سيطرة الفكرة القومية بالفعل على العقول والأذهان، ونجاحها في أوج ازدهارها في الحقبة الناصرية المثيرة، في انتزاع الناس من قوقعاتهم التاريخية الملِّية وإدراجهم في حركة واحدة، مسلمين ومسيحيين، شيعة وسُنة، عرباً وأكراداً وشراكسة وغيرهم. وقد نشأ هذا النجاح عن الأمل الصاعد، في أعماق كل فرد عانى من القلق والتمزق والنزاع بسبب الانقسامات العصبوية التقليدية، بوجود فرصة تاريخية لتكوين جماعة وطنية حقيقية، والخروج من تاريخ الضياع والفرقة والانقسام الماضي والسيطرة الاستعمارية معاً، أي للقطع نهائياً مع تاريخ الطوائف والملل والإثنيات، تاريخنا الحقيقي الماضي، مسلمين وغير مسلمين.
ومنذ ذلك الوقت نشأ عندي اعتقاد عميق بأن الإنسان ليس حبيس تاريخه ولا ذاكرته، وأنه، بالعكس، ميال وجاهز ومستعد للتحرك إلى الأمام والتطلع إلى المستقبل والتفكير من منظوره بدل الانجراز في وحل التاريخ، حالما يشعر بأن هناك بصيص ضوء أو فرصاً للتحرر والانعتاق. فإرادة الحياة الحرة أقوى من إرادة التقوقع والانكفاء على النفس واجترار حزازات الماضي وآلامه. ولا يزال هذا الاعتقاد هو الذي يغذي موقفي الإيجابي من الإنسان ومراهنتي دائماً على قدرته على الارتفاع فوق أنانيته ومعانقة حياة المبادئ والسلوك حسب قواعد الأخلاق إذا ما توفرت له الفرص التي تسمح له بالارتقاء على شرطه القاهر، وإذا حظي بدرجة مناسبة من العناية الفكرية والعاطفية والتربية المدنية والإنسانية.
لكنني من دون أن أغيِّر هذا الاعتقاد، بدأت أشعر اليوم بشكل أكبر بأن للتاريخ عطالة حقيقية، أي ثقلاً لا يمكن التحرر منه إلا في حالات الثورات الحماسية الكبرى التي تفجر الوعي الماضي، وتنشئ في لهيبه وعياً جديداً بالفعل. وهو ما لا يمكن حصوله إلا عندما تكون هذه الثورات حاملة هي نفسها لمشروع إنساني ينطوي على فرص أكبر لتحرر الإنسان وانعتاقه، وتكون عندئذ مسبوقة بعمل طويل المدى على إعادة صوغ المبادئ الإنسانية والقيم الأخلاقية والمدنية. ومن دون ذلك تظل عقد التاريخ وحساباته المعلقة منذ قرون حية ولو تحت الأرض وجاهزة للبروز إلى السطح، وربما إلى احتلال مقدم ساحة الوعي الفردي والجمعي، في أي فترة تضعف فيها يقظة المجتمعات، أو تخونها نخبها القيادية، أو تزل قدمها وتنهار صدقية السياسة والسلطة فيها. ومن بين هذه العقد والحسابات المعلقة، الحزازات الطائفية والمشاكل المرتبطة بالتعامل التاريخي للأغلبيات المذهبية أو القومية مع الأقليات الدينية والإثنية.
ومن ينظر إلى مجتمعاتنا اليوم يعتقد أن تاريخ الحروب الأهلية الإسلامية الأولى، وتاريخ المعاملات التحقيرية للأقليات غير العربية وغير الإسلامية التي عرفتها عهود السلطنة لا يزالان عائشين فينا إلى اليوم، ولا تزال النزاعات التي رافقتهما ورهاناتها المختلفة مستمرة لم تحسم بعد. ويظهر هذا عبر النزعة المتنامية للانسحاب من الهوية الوطنية وإعادة بناء الجماعات العصبية، والانكفاء على القيم التقليدية الطائفية والقبلية والعشائرية والعائلية. كما يظهر من خلال عودة الإشكاليات القديمة على صعيد المناظرة العقلية، سواء أكان ذلك بصورة مباشرة، مثل بناء الدولة الإسلامية أو الخلاقة أو الإمبراطورية، أو من خلال تلغيم جميع المناظرات الفكرية والسياسية الحديثة، وتبطينها بحساسيات الماضي ومخلفاته ونزاعاته التي لم يمكن حلها أو تذويبها واستمرت تعيش فينا حياتها السرية.
بل إنني أعتقد اليوم، ونحن في قلب المناظرة العربية التي أثارها انهيار النظام العام، أي المبادئ الفكرية والسياسية التي قام عليها الاستقرار المجتمعي في العقود الماضية، أن تلك البطانة التي لا ترى عبر الخطاب الظاهر أو التي لا يسعى هذا الخطاب إلا إلى إخفائها، لا تجعلنا ندور في حلقة مفرغة تمنعنا من التواصل والنقاش الفعلي فحسب، وإنما تعيق، أكثر من ذلك، أي تقدم لنا على طريق حسم الخلافات الفكرية والسياسية. وأننا لن نستطيع الخروج مما ينبغي تسميته بالفعل حوار الطرشان “الوطني” من دون تنكُّب مهمة الغوص في هذا الباطن، الذي لا يرى ولا يسمع ولكنه هو الذي يتكلم في غالب الأحيان من وراء غلالة اللغة الفكرية والمفاهيم العقلية المستخدمة. ومما يزيد من قوة فعل هذا الباطن وشدته، كونه ليس فكرة ولا مفهوماً ولا حجة عقلية وإنما هواجس تكونت بفعل تراكم الحزازات التاريخية، وتحولت إلى كرة من المشاعر الملتهبة التي تسكن الأعماق وتوجه تفكيرنا الباطن، حتى عندما تخفى على الجميع، بما في ذلك على أصحابها أنفسهم، ويصبح من غير الممكن التحكم فيها ولا الكشف عنها.
هكذا يبدو للمرء أحياناً أن نقاشاتنا النظرية وحججنا العقلية في الديمقراطية والعلمانية والحداثة والقومية والوطنية والحرية والعدالة والمساواة والاشتراكية والرأسمالية والغرب والعولمة كثيراً ما تبقى ملغمة ببقايا التاريخ الماضي ونزاعاته الدينية والمذهبية والإثنية، وذاكرات أطرافه المليئة بالمخاوف والهواجس والشكاوى غير المسموعة والحسابات غير المسددة. وإذا ظهرت آثار هذه الذاكرة غير المطهرة على مستوى الجمهور العام من خلال الانكفاء على الجماعة الخاصة وتحويلها إلى هوية أساسية، مع ما يعنيه ذلك من بلورة مواقف ومشاعر وعادات وتقاليد ومواقف تعكس التأكيد على هذه الهوية والحفاظ عليها من الذوبان، أي إعاقة أي بناء جديد لوعي وطني جامع، وبالتالي لقانون جامع أيضاً، ونزعة قوية للتميز والتقوقع ضمن منطق القوانين والشرائع الخصوصية، فإن آثارها عند المثقفين بارزة في عجز هؤلاء عن الدخول في حوارات جدية منتجة، وبناء لغة مفهومية واحدة. فتكاد تكون لكل فئة، لغتها المزدوجة النابعة من تمحور تفكيرها حول أولويات وقضايا ومفاهيم خاصة، وتجسيدها رهانات ومشاعر وحقائق غير معلنة نابعة من الحرص على تأكيد مواقف أو اعتقادات مسبقة أو تعزيزها. وهكذا لم يعد من الممكن بناء أي حياة ثقافية أو كتلة ثقافية حية في البلاد العربية. وبدل أن يتوحد المثقفون الذين تحولوا إلى أقلية مهددة، حول رؤية مشتركة للمستقبل، تدفعهم الشكوك والحساسيات والهواجس الخاصة، المستندة إلى ذاكرة تاريخية غير مفكر فيها، إلى تحطيم بعضهم بعضاً والتشكيك في خياراتهم واصطناع الحيل المعقولة وغير المعقولة للإيقاع بعضهم ببعض والتشهير بمواقفهم ونزع الصدقية عنها.
جريدة الاتحاد