صبحي حديديصفحات ثقافية

غربان الحرب الباردة

null
صبحي حديدي
‘بالنسبة إلى الـ CIA، كانت الرسالة السياسية (في موسيقى الـ ‘ريغي’) تشكّل خطراً مباشراً لأنها تسهم في إيقاظ الوعي السياسي عند الجامايكيين الأكثر فقراً، أي في صفوف الجزء الأكبر من السكان. وفي مثل هذا المناخ ولدت، وعلى نحو طبيعي كما ينبغي أن أقول، فكرة استهداف حياة بوب مارلي’. هذا الكلام الصريح يقوله فيليب آجي، العميل السابق للمخابرات المركزية الأمريكية، أمام كاميرا المخرج البريطاني جريمي مار، صاحب الفيلم الوثائقي ‘موسيقى التمرّد: حكاية بوب مارلي’. والشريط يقتفي أثر الحادثة التي وقعت في أواخر العام 1976، حين اقتحم ملثّمون مقرّ بوب مارلي (1945ـ1981)، وأمطروه بوابل من الرصاص، وشاءت المصادفة وحدها أن تخترق الطلقة الذراع الأيمن للمغنّي الشهير، وليس قلبه. آنذاك كان ‘ملك الريغي’، أحد أشهر ألقابه، قد حسم خياراته في دعم مايكل مانلي زعيم الحزب الوطني الجامايكي، والسياسي الإشتراكي ـ العالمثالثي الذي كانت وكالة المخابرات المركزية تناهض وصوله إلى السلطة في جامايكا، حتى عبر صندوق الإقتراع! والحقّ أنّ شريط ‘موسيقى التمرّد’ لا يعلّمنا جديداً حول نهج المخابرات المركزية الأمريكية، وإنْ كان يزوّدنا بمادّة تحقيقية جديدة ومدهشة بالفعل، كما يسرد روايات صاعقة أدلى بها شهود عيان أو عملاء سابقون أو أصدقاء مارلي وأقاربه. الجانب الثاني الهامّ يتمثل في أنّ الشريط يذكّرنا بوقائع مماثلة سابقة انطوت على تورّط مختلف أجهزة الإستخبارات الأمريكية في عمليات استهداف، أو تصفية، أو تشويه سمعة، عدد كبير من رجال الفنّ والأدب كلّما لاح أنّ فنونهم تسهم مباشرة في إحياء أو إعادة تشكيل الوعي السياسي الجَمْعي في البلدان التي ينبغي أن تظلّ ‘تحت السيطرة’.
وهنا، وليس في وسع المرء إلا أن يتذكّر حكاية الفنّان الأمريكي الأسود بول روبسون (1898ـ1976)، أو تلك العبقرية السوداء التي لا غنى عن اقتباسها في كلّ حديث صادق، كما في كلّ تشدّق كاذب، عن معجزات ‘الحلم الأمريكي’ دون سواه. لقد ولد لأبٍ أفريقي الجذور، تمرّد على استعباد السود في ولاية كارولاينا الشمالية، وقاتل ضدّ الجنوبيين أثناء الحرب الأهلية، وجسّد الدم الذي أراقه السود من أجل تطهير روح أمريكا من آثام تمييز عنصري بغيض بشع. وأمّا روبسون الفتى فقد كان أوّل طالب أسود يتخرّج من مدرسة الحقوق في جامعة كولومبيا، وأوّل ممثّل أسود يؤدّي دور عطيل في مسرحية شكسبير (إذْ كان البيض يقومون بالدور، بعد طلاء وجوههم بصباغ أسود!)، وأوّل مغنٍّ أسود يتجرأ على رفض الغناء في صالة يحظّر على السود دخولها. كذلك كان أوّل فنّان أمريكي أسود يأسر قلوب البريطانيين، وأوّل أمريكي غنّى للعاصمة الإسبانية مدريد وهي تسقط في براثن الفاشية، وأبرز قدوة نضالية أمريكية يستلهمها زعماء أفارقة شباب من أمثال جومو كينياتا وكوامي نكروما.
لقد كان، استطراداً، الأمريكي الأسود الأوّل في هذه الإعتبارات، وفي الكثير سواها. ولكنه لم يكن الأوّل في ناظر الملايين من مواطنيه الأمريكيين البيض، ولم يقتصر الأمر على مشاعر عنصرية كتيمة أو مكتومة في الصدور، لأنّ المؤسسة بدورها وقفت ضده، بكلّ ما تستدعيه قامته الشامخة من شراسة في توجيه الضربة. وهكذا، سحبت وزارة الخارجية جواز سفره لأنه يتدخّل في شؤون السياسة الخارجية الأمريكية (دافع روبسون عن حقّ الدول الأفريقية في تقرير مصيرها!)، وأحالته المكارثية إلى المحاكمة أمام لجنة النشاطات المعادية لأمريكا، وسهرت أجهزة الـ CIA على ضمان التعتيم الإعلامي التامّ حول نشاطاته الفنية.
باختصار، وحسب الكاتب والمؤرّخ الأمريكي بول كنيدي: ‘في عام 1948 قرّرت وكالة المخابرات المركزية تدمير بول روبسون. لقد كان مستقبله الفني يعد بالكثير من التألّق والتأثير، ولكنهم عملوا جاهدين على تجميد الزمن، وتجميد بول روبسون في ما نعيشه نحن من أزمنة، تمهيداً لاستبعاده من الوجود وفق مفهوم جورج أورويل للكائن الموجود في حال التغييب وحدها’. لماذا؟ لقد مثّل أكثر مما يمكن احتماله من ‘تعددية’، في ألوان الحلم الأمريكي؛ وكان شيوعياً ربما أكثر بكثير مما ينبغي، أو يمكن، للأخلاق الليبرالية أن تحتمل؛ وكان عبقرية سوداء، ولكنها… حمراء! وذات يوم، حين أرادت أن تشارك في إحياء الذكرى المئوية لولادة الفنّان الأمريكي روبسون، اختارت الأسبوعية الأمريكية New Republic المعلّق لي سيغيل للقيام بمهمة استحضار الوجوه المتناقضة لشخصية روبسون، فكان أن كتب التالي: ‘لقد كان رجلاً عاطفياً شجاعاً، ولكنه كان حماراً مغروراً جباناً. كان التزامه السياسي (بفكرة الشيوعية) تامّاً، لأن موهبته الفنية كانت ناقصة. لقد كان مصدر أذى للعنصرية الأمريكية البيضاء، ولكنه كان متواطئاً مع الشرّ’… وهذا مجرّد غيض من فيض في مقالة طويلة على أربع صفحات، بدت وكأنها قفزت من أرشيف الحرب الباردة في أواسط أربعينيات القرن الماضي.
وليس على مَن يزعم أنّ الحرب الباردة وضعت أوزارها إلا أن يقرأ ما يتعالى اليوم من ضجيج حول ضرورة ‘تأديب روسيا’ بسبب ما فعلت في جورجيا، ولسوف يدرك سريعاً أنّ خطاب تلك الحرب لم يندثر البتة في عرف العشرات من كبار ممثّلي اليمين الأمريكي المحافظ. هؤلاء يعششون هنا وهناك، مثل غربان شاخت أجنحتها وخرّت أرياشها، لكنّ شهيّتها في النعيق على جثث الماضي ما تزال عارمة متقدة.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى