صفحات ثقافية

فتاة تتكسّب من الكلمات

null
عناية جابر
من أكثر القصص التي أحببت في ‘حكايات ايفا لونا’ جديد الكاتبة ايزابيل ألليندي، حكاية فتاة اسمها بيليسيا كريبو سكولاريو، تمتهن بيع الكلمات، وتجوب العالم قاصدة المهرجانات والأسواق تنصب فيها أربعة عصي ومظلة من أكياس، تحتمي تحتها من الشمس والمطر، أثناء تكسّبها وتلبيتها طلبات زبائنها. قصة من أجمل قصص ألليندي، مكتوبة برقة أنثوية وصنعة أدبية كسائر القصص القصيرة في: ‘حكايات ايفا لونا’ جديد الكاتبة التي تلاحق مصير شخصياتها كجزء لاينفصل عن المصير الجماعي لناس أمريكا اللاتينية، القارة الخلاسية في قهرها الاجتماعي الحّاد وبحثها الدؤوب عن الهوية. ايزابيل ألليندي النشطة الى الرواية والقصة القصيرة والسير، فلا تخلو سنة من عمل لها أو اكثر، يبين النضج الذي استوت عليه كتابتها هنا، والترجمة لصالح علماني تمنح العمل بالعربية، على عادة ترجماته، روحاً وتناسقاً ومصالحة تامّة ما بين القارىء وصاحبة العمل الأصلية، اذ تنتشل ترجمة علماني الكلمات من غربتها، مُقربتها من ذائقتنا العربية. في السرد اللطيف، ان بائعة الكتب لم تكن تحتاج الاعلان عن بضاعتها، من كثرة تنقلّها من مكان الى آخر. الجميع يعرفها وينتظر ظهورها في هذه القرية وتلك، حزمتها تحت ابطها ويصطفون أمام محلها بالدور. بيليسيا تبيع بسعر مناسب. فبخمسة سنتافو، على ما تقول الحكاية، تُقدّم أشعاراً مرتجلة، وبسبعة تُحسّن من نوعية الأحلام، وبتسعة تكتب رسائل للمحبين، وبأثني عشر تُعلّم شتائم محدثة لأعداء لدودين، ومن يشتري منها بخمسين سنتافو تهمس له في اذنه بهدية هي كلمة سريّة لها قدرة على إبعاد الكآبة. لم تكن تقول الكلمة نفسها للجميع بالطبع. فكل واحد يتلقى كلمته التي لايستخدمها لهذا الغرض أحد سواه في الكون الرحب كله، او فيما وراء الكون. ألسنا جميعاً بائعي كلمات كبيليسيا الصغيرة ؟ كلمات نصطادها كالعصافير وبقليل من السحر والحنكة نحبسها في السطور لنتاجر بها. كلمات في الحب، في الصداقة، في الشتائم وفي الأحلام، وكلمات سرّية أحياناً، لاتظهر الآ لصاحبها وقادرة مع ذلك، على إبعاد الكآبة. بائعو كلام كلنا، مهنة لانهتّم بمهنة سواها، نبيع بضاعتنا للعاشق والحاقد، للنبيل واللئيم، وبداهة لكل من يقرأ ما نكتبه من كلمات. قليلون من نمنحهم كلماتنا السرّية، سواء استحقوها أو قصرّوا عنها. كلمة أحياناً تُشبه جروة ضامرة، وأخرى ذات بشرة براقّة. كلمات نفكر فيها، كخيط لا ينفد نحوكه كما لو نُشكلّ حياة في الكتابة. كلمات متجمدة كما لو في صورة فوتوغرافية، وكلمات ناعمة، وكأنها مرسومة بريشة دقيقة. كلمات كثيرة نُسطرها هي كل ما عشناه وما سنعيشه،عمراً متداخلاً دون بداية ولا نهاية. القارىء مُشارك ومُشاهد حتى ولو كان في الظل. القارىء مُذنب، وان غللته غمامة شفافة. كلنا مُستغرق في طقس الكلمات المتعجّل، ومنغمس في الدفء وفي رائحة الحروف التي نحييها من عدم بأقلامنا وبعيون قُرائنا. أحببت كثيراً جداًحكايات ألليندي، منها عن هذه الفتاة التي تكتشف هول خديعة الكلمات فتتخذ منها سلعة لتجارتها. ثمة حكاية أيضاً عن طفلة متوحدة تقع في حب عشيق أمها وتمارس في حمى الحب طقوساً غامضة. حكاية اخرى عن زعيم محلي غيور يحبس معشوقته في قبو طوال نصف قرن. أخرى، عن رجل عنيف يؤرقه حب امرأة اغتصبها وهي صبية غضة وقتل أباها… هذه بعض قصص ‘ايفا لونا’ بلغة ألليندي التي تعنف وترقّ، تتدفّق وتُعيد خلق ظروف عذبة ومشؤومة في عالم خصيب وشهواني. يمكنني أن أتلهى قليلاً وكثيراً بالكلمات، محتجزة فيها أعالج تلف الذاكرة، أو أدخل الى رحابتك، فينكسر التناسق الهادىء وأسمع أنين الكلمات قريباً جداً من قلبي فأقول لك: اكتب لي كلمات لم تكتبها لأحد من قبل. على كلّ، أقرأ كلماتك من دون أن تكتبها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى