ضوء أصفر
ساطع نور الدين
هو نوع من العبث الدبلوماسي الذي باتت باريس تتميز به وتحترفه، عندما تدعي لنفسها أدوارا تفوق حجمها، وتطرح أفكارا تتعارض مع وزنها، وتزعم انها مركز استقطاب إلزامي لكل من يعمل على تنظيم السياسة الدولية، ومعالجة أزماتها الكبرى. كانت حرب القوقاز بين روسيا وجورجيا نموذجا. وها هي سوريا مثال آخر، يقع لبنان على هامشه، ويمثل اختبارا لسياسة فرنسية متحركة في فراغ.
أراد وزير الخارجية الفرنسية برنار كوشنير خلال عبوره في بيروت امس، في طريقه الى دمشق، ان يقنع الغالبية اللبنانية ان الانفتاح الفرنسي على سوريا، الذي تحفظ عليه علنا ، لن يكون على حساب تلك الغالبية، كما ان زيارة الرئيس نيكولا ساركوزي الى العاصمة السورية الاسبوع المقبل، التي توقع لها الفشل، لن تؤدي الى التخلي عن لبنان.
الرسالة وصلت، برغم أن أحدا في بيروت لم يكن حاضرا لتلقيها، لا الغالبية التي تبحث عما يحفظ موقعها امام واحدة من اشد الهجمات الامنية والسياسية ضراوة عليها من قبل خصومها المتحالفين مع سوريا، ولا الاقلية التي تتطلع الى دمشق لكي تتابع الاستقبال الرسمي لوزير فرنسي لا يكن لها أي ود، لكنه أرسل الى العاصمة السورية لابلاغها انه لا مكان للاجتهادات الخاصة في السياسة الفرنسية.. غير الثابتة.
سأل كوشنير في بيروت عما يمكن ان يقوله في دمشق، فسمع اقتراحات لبنانية عديدة تنطلق من الاشادة بالانجاز الذي يمكن ان ينسب لباريس اكثر من غيرها والمتمثل بإقامة علاقات دبلوماسية بين دولتي لبنان وسوريا، وتتناول قضية مزارع شبعا والمعتقلين اللبنانيين في السجون السورية.. وتفترض، عن حق طبعا، ان العاصمة الفرنسية هي الوسيط الوحيد بين الدولتين، بعدما غاب الوسطاء الآخرون او انحازوا لاحداهما.
لكنها وساطة تشبه الى حد بعيد الدور الذي قامت به باريس بين كل من موسكو وتبليسي في الاسبوعيين الماضيين، وتخدم وجهة النظر الشائعة حاليا في كل من دمشق وبيروت عن تماثل بين حرب القوقاز الروسية الجورجية وبين الحرب الباردة السورية اللبنانية.. برغم ان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي لا يمكن ان يدعي انه هو الذي انهى الحربين، او انه حصل على ضمانة من نظيره الروسي ديمتري مدفيديف بالالتزام بتنفيذ النقاط الست الشهيرة الخاصة بالانسحاب التام من جورجيا وعقد مؤتمر دولي لحل ازمة الحدود والسيادة على اقليم اوسيتيا، او على ضمانة مماثلة من الرئيس السوري بشار الأسد..
ما جنته باريس حتى الآن في الوساطتين لا يؤسس لاكثر من هدنة، ولا يجعل منها مفاوضا رئيسيا، لان حدود حركتها تجاه روسيا تشبه قيود حركتها تجاه سوريا: حصلت على ضوء اصفر اميركي يمنعها مثلا من ان تبيع طائرات ايرباص ومن ان توقع عقود النفط مع كل موسكو ودمشق، ويفوضها التحدث فقط مع المسؤولين في العاصمتين عن حقوق الانسان الروسي والسوري.. الى ان يحين موعد التفاوض الجدي معهم حول قضايا عديدة بينها لبنان وجورجيا!.
السفير