صفحات سورية

أسرار الغارة الاسرائيلية على سورية عام 2007

null
د. حسن مصدق
فى محاولة للاجابة عن التساؤلات التى طرحناها سابقاً، نسرد تفاصيل الضربة وفق مصادر متعددة تدعم هذه الفرضيات تباعاً. فقد قامت قيادة هيأة الأركان بترخيص من رئيس الوزراء الإسرائيلى بتنفيذ عملية تحمل اسم << فيرجي>> الخاصة بقصف هدف عسكرى على بعد 25 كلم شمال غرب مدينة دير الزور، شرق سوريا وعلى بعد 145 كلم من الحدود العراقية. إذ شمل الهدف بناية مربعة الحجم من الإسمنت المسلح يبلغ طولها 47 مترا و32 مترا عرضا، بإضافة علوها الذى يصل إلى حوالى 20 مترا، تقع على 800 متر من سطح نهر الفرات، حيث إن صور الموقع الفضائية التى باعتها شركة “Digital Globe” للعديد من الشركات الإعلامية فى أكتوبر 2007، تؤكد هذه المعطيات جملة وتفصيلا.
ذلك أن قيادة هيأة الأركان الإسرائيلية اعتبرت العملية فى حد ذاتها عملية <<حاسمة>>، حيث أنها تخلّت عن خيار اعتماد الهجوم المباشر على الموقع العسكرى عبر سرب من الطائرات يتم إعدادها لهذا الغرض، بل إنها ببالغ من الحيطة وخوفا من افتضاح أمرها من مراكز الرصد السورية ووسائل الإنذار المبكر، اختارت عدم التوجه نحو الهدف مباشرة، بل أمرت السرب بالالتفاف على حدود الأراضى السورية فى حركة دائرية من جهة بحر الأبيض المتوسط، أى قبالة الشواطئ السورية والقبرصية، ثم دخول الفضاء الجوى التركى الذى ترخص اتفاقية التعاون العسكرى بينهما السماح للطيران الإسرائيلى القيام بعمليات تدريبية فى فضائه جوا، لكن دون اتخاذه وسيلة من أجل قصف عسكرى خارج مهمات التدريب المحضة، لكن وقوع الاعتداء السافر يشكك فى كون السلطات التركية لم تكن على علم بذلك، فيما يرجح البعض أن تل أبيب وضعت تركيا أمام الأمر الواقع. هذا فى الوقت الذى عمد فيه الطيارون الإسرائيليون إلى التخلص من خزانات الوقود الإضافية فى طائراتهم الحربية على الأراضى التركية؟ فهل بقصد توريط السلطات التركية فى الجريمة وتوقيعها المباشر للعملية، أم أن الأمر لا يعد أن تكون ضرورة فنية وتقنية اقتضتها ضرورة الإفلات من أجهزة المراقبة السورية والحصول على أكبر حيز من الحركة للعودة سالمة إلى قواعدها؟
عمليا، تكمن الغرابة فى أن يقوم الطيران الإسرائيلى برحلة جوية يقطع خلالها غمار 2000 كلم، بينما الحدود السورية جد قريبة ولا تحتاج إلى أقل من دقائق معدودة، حيث وقع الاختيار على أجود الطائرات الحربية ذوات القدرة على الاستعمال فى محيط ومسافات أوسع للغاية. هذا من دون الحاجة إلى التزود بالوقود فى الجو، كى تتفادى أمورا ليست فى الحسبان، على أن تتم رحلة العودة عبر نفس الطريق، وأن لا يتجاوز التحليق فوق الأراضى السورية 15 دقيقة فى كل الاحتمالات.
ويكمن لب الغرابة الثانى فى اختيار توقيت العملية ليلا بعد الثانية عشر ليلا على وجه التأكيد من أجل الزيادة فى حرصها على تفادى كشفها عبر الرادارات واعتراضها من قبل أنظمة الدفاع الجوى السورية. ومن ثم يتم التقليل من خطر اعتراضها أو إصابتها فى الأراضى السورية من قبل طائرات الميغ 25 والميغ 26 السورية، كون هذه الأخيرة تقع فى قاعدة تياس الجوية ” على بعد 200 كلم”، بحيث استقرت الخطة الإسرائيلية على تزويد المطاردات المقنبلة بصواريخ وقنابل موجهة بأشعة الليزر من أجل إصابة الهدف بدقة بالغة، إذ انتدبت لهذه المهمة طائرات الفانتوم “F 15 I” التابعة للسرب الجوى رقم 69، والتى تم تكليفها بتدمير الهدف الرئيسي، علاوة على تدريب الربابنة لهذه المهمة بكثافة ومنذ مدة طويلة، كما تم تكييف الطائرات العسكرية مع ما يتناسب مع المهمة عبر إمدادها بخزانات وقود إضافية، مما يحقق لها إمكانية الطيران طويلا بكل استقلالية وفعالية كبيرة. بالإضافة جرى أيضا تزويد كل طائرة على حدة بكل وسائل التشويش الإلكترونية وصواريخ جو جو “Python4 & AMRAAM” ثم بمدفع “Vulcan” 20 ملمتر من أجل تأمين حمايتها الخاصة.
هذا فى الوقت الذى تحدد فيه قبل الهجوم القيام بهجوم إلكترونى واسع المدى بحيث تُشل الشبكات الإلكترونية السورية، ناهيك عن محاولة التحكم فيها عن بعد Aviation Week & Space technology, 21 novembre 2007″ ” كما صرح بذلك مدير عام وزارة الدفاع الإسرائيلية. بل إنه بموازاة ذلك تقرر أن تقوم طائرات فانتوم 15 بدورات استطلاعية قرب الحدود السورية بغاية التدخل من أجل اعتراض الطائرات السورية إذا تحركت من قواعدها، وبالتالى قام سرب من ثمانى طائرات فانتوم “F 15 I” مدعمة بطائرة ضخمة من نوع “Gulfstream G-550 Nachson” مجهزة بأحدث وسائل التشويش الإلكترونية وأجهزة الحماية الإلكتروإشعاعية للمطاردات، من الإقلاع من قاعدة عسكرية إسرائيلية. هذا فى الوقت الذى تفيد مصادر أخرى حضور أربعة مطاردات مقنبلة أخرى من نوع فانتوم “F-16 I”، بغاية الزيادة فى إمكانية التشويش الإلكترونية حتى يتم تفادى الرادارات السورية “Jane’s Defence Weekly, 26 septembre 2007″ بالكامل.
وتكشف تفاصيل الخطة إقلاع كل طائرة على حدة، قبل أن تجتمع من جديد شمال إسرائيل فى اتجاه تركيا، بحيث تحاذى الشواطئ السورية بمسافة أمنية كافية، وكأنها متجهة نحو الفضاء الجوى التركى الذى من المعتاد أن تجرى فيه تدريبات تقليدية، ثم قيامها بعد دخولها الفضاء الجوى التركى بأن تُعرِّج بسرعة فائقة نحو شمال شرق الحدود التركية السورية على ارتفاع منخفض، فى الوقت الذى دخلت أجهزة التشويش الإلكترونى على الخط بنجاعة، حيث تنفصل طائرات فانتوم ” F-16 I ” عن السرب من أجل الهجوم على محطة رادار سورية تقع فى تل الأبواد، بالقرب من الحدود التركية ” Aviation Week & Space technology, 21 novembre 2007 ، وذلك نظرا لكون هذه المحطة تقع 80 كلم شمال الرقاح وبوسعها مراقبة مجمل الفضاء الجوى الذى ستتحرك فيه الطائرات العسكرية الإسرائيلية، لذا فإن تعطيلها بفعل عدة صواريخ” سيشل الرقابة الجوية السورية فى هذه المنطقة. وبالتالى تعود هذه الطائرات إلى إسرائيل بعد تنفيذ المهمة مع طائرة “Gulfstream G-550 Nachson” التى أمنت الحماية الإلكترونية فى المرحلة الأولى من العملية.
ومع اقتراب موعد عقارب الساعة الثانية عشرة ليلا وخمس عشرة دقيقة، قام الطيران الإسرائيلى بإفراغ ما لديه من قنابل وصواريخ، حيث سهر على توجيهها بدقة فريق كوماندوس “Sayeret Matkal” من وحدة الاستطلاع الملحقة بقيادة الأركان العامة، يتردد عن تسرُّبها فى عين المكان عبر الحدود التركية القريبة قبل يوم من ذلك من أجل << تحديد الهدف>> فى الوقت المعلوم، حيث أسفرت العملية فى النهاية عن تدمير البناية بالكامل، وتأكد بعد ذلك أن فرقة الكوماندوس هذه، تسللت من الأراضى التركية قبل ذلك وساهمت فى إرسال عدة إشارات ساهمت فى إصابة الهدف.
والحقيقة أن الطائرات الإسرائيلية لم تكن لتفشل فى مهمتها بعد جملة من التدابير الوقائية والاحترازية التى اتخذتها سلفا، كما أن المضادات الدفاعية السورية لم تستطع أن تفعل شيئا فى حينه، ما جعل الطائرات الإسرائيلية تعود إلى قواعدها حوالى الساعة الواحدة وخمس عشرة دقيقة صباحا، بعد أن تخلصت طائرتان حربيتان من خزانتين للوقود على الأراضى التركية، ما يطرح السؤال لماذا لم تتخلص من جميع خزانات الوقود الإضافية واكتفت باثنين، ثم لماذا لم تلق بها كلها فى عرض البحر الأبيض المتوسط عوض اختيار الأراضى التركية؟ الأمر الذى يترك بصفة أو أخرى معالم مادية ملموسة، دفعت بوزير خارجية تركيا إلى الاحتجاج بعد ذلك رسميا، قابلته الدبلوماسية الإسرائيلية بتوضيح أسبابه كالتالي: << وجدت المطاردة الإسرائيلية نفسها مرغمة على ذلك بعد أن تتبعها نظام الدفاع السوري، حيث قام الطيار بالتخلص من ثقلها من أجل الحصول على هامش إضافى من الحركة>>. لكن يبقى السؤال، لماذا فعل ذلك على بعد 150 كلم من الحدود السورية؟ ثم لماذا لم يقم الطيارون الآخرون الذين كانوا فى نفس السرب بذلك.
ثمة العديد من المعطيات تؤكد أن الحكومة الإسرائيلية أرادت أن تزج بتركيا فى هذه العملية، من أجل إرسال إشارة بالغة إلى كل من سوريا وإيران أنها قادرة على الحصول على الدعم التركى فى الساعات الحاسمة. هذا على الرغم من التعاون الاستراتيجى الذى انخفضت حرارته بعد أن اتضح دعم إسرائيل إلى المقاتلين الأكراد وتغلغلها فى شمال العراق “انظر الوثيقة السرية:TTU Monde Arabe, N°534, 1 novembre 2007″. غير أن الأمور لم تكن لتهدأ فى ظل حكومة مشكلة من تيار إسلامى تم إحراج قيادته السياسية للغاية، إلا بعد أن قام إيهود أولمرت وشيمون بيريز بتقديم اعتذارهما ” الأول فى لندن والثانى فى أنقرة”، لكى تقبل السلطات التركية على مضض إغلاق الملف بعد مرور شهرين على ذلك. غير أن عدة مصادر مطلعة كشفت أن الإسرائيليين فاوضوا الأتراك فى عدم استمرار تقديم دعم للمقاتلين الأكراد نظير استمرار حصولهم على حق استعمال الفضاء الجوى التركي، كما تم إمداد الجيش التركى نظير هذه الصفقة بطائرات استطلاع بدون طيار وحضور فنيين من اسرائيل من أجل مساعدة الجيش التركى فى تعقب فلول الجماعات الكردية المقاتلة التابعة لحزب العمال الكردى الماركسى ” انظر الوثيقة السرية: TTU Monde Arabe, N° 543, janvier 2008″
هكذا تم إذابة الجليد بسرعة فائقة وتمت المصالحة بين السلطات التركية والإسرائيلية بسهولة كبيرة، بحيث يستشف على عكس ما تدعيه السلطات التركية أنها كانت على علم بالعملية العسكرية، وهو ما يتضح من مصادر دبلوماسية تركية عديدة، أبرزها مصدرين يشككان بقوة فى عدم معرفة السلطات التركية بذلك ” ” Turkey Assents to Israeli raid on Syria “, Londres, London Cyprus Information Center, 29 septembre 2007 et L. Hardey ” Israeli Jets Attack Syria- Why the Secrecy ? ” www. Conent4reprint.com/ plitics/world-affairs ” “.
علاوة على ذلك، تؤكد العديد من المصادر بأن الولايات المتحدة الأمريكية أول من كانت على علم كامل بذلك، إذ أن سرب الطائرات العسكرية الإسرائيلية مرَّ بالقرب من القاعدة الأمريكية “Incirlik” فى شرق تركيا، حيث تظل العديد من طائرات الأواكس والرصد تقوم بدوريات فى الجو دون انقطاع، كما نجد العديد من الصحفيين نقلوا على لسان عسكريين أمريكيين فى عين المكان، أن واشنطن قدمت معلومات تقنية حول الشبكة السورية، بالإضافة إلى دعم إلكترونى على قدر كبير من الأهمية “D.Fulgham et R.Wall “2007” ” US Electronics surveillance Monitored Israeli Attack on Syria ” In Aviation Week & Space technology, 21 novembre 2007″.
فرضيات القصف الجوي: أكثر من محيرة ورواياتها كلها ملغومة!
وإذا كان السؤال المهم: ما هو الهدف الأساسى الذى توخى الإسرائيليون تدميره؟ فإننا نجد أن السلطات السورية صرحت فى نهاية يوم 06 سبتمبر 2007، بما يفيد بأن<< الطيران الإسرائيلى تخلص من ذخيرته فى أماكن غير مأهولة بالسكان، ثم أجبر على ترك الفضاء الجوى السوري>>. هذا قبل أن يسارع العديد من الدبلوماسيين السوريين بعد يوم من ذلك بالقول إن بلدهم << لن يتم جره إلى حرب يفرض اختيار توقيتها ومنهجها إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية>>. ومن ثم لزم انتظار ثلاثة أسابيع بالكامل، قبل أن يقوم فاروق الشرع نائب الرئيس السورى بالإعلان أن الهدف من القصف كان مركز الدراسات العربى من أجل مكافحة التصحر، لكن هذا المركز الموجود فى بلدة دير الزور سارع إلى نفى ذلك فى بيان تم نشره فى “Midle East Times, 30septembre 2007″، ما دفع الرئيس السورى بشار الأسد الصعود إلى الواجهة شخصيا، حيث صرح بأن الهجوم أصاب<< بناية عسكرية مُطهّرة>> “BBC, 1 octobre 2007”.
أما إسرائيل فهى أيضا لم تنبس هذه المرة بكلمة عن هذا الهجوم، على خلاف عادتها عندما قامت فى السابق بتدمير المفاعل النووى العراقى سنة 1981، وهى ضربة جوية توازى شكلا مع ما حدث فى منطقة دير الزور السورية. هذا فى الوقت الذى صرح فيه أموس يلْدين رئيس الاستخبارات العسكرية فى الكنيست مفتخرا بأن <<قدرة الردع الإسرائيلية تم ردها>> “AFP,16 septembre 2007 “. ثم ما لبث أن صرح إيهود اولمرت باقتضاب شديد << أن قوات الدفاع الإسرائيلية برهنت على شجاعة خارقة ستبهر العالم إذا تم الكشف عن وقائعها>> “The Guardian, 17/09/2007”. ومما يجدر ذكره أننا انتظرنا إلى غاية 2 أكتوبر كى تخرج الحكومة الإسرائيلية عن صمتها وتعلن فى بيان مقتضب أن قواتها قامت فعلا بقصف جوى فى سوريا، لكن حيثيات وأهداف هذا الاختراق لا يمكن فى الوقت الحاضر الإعلان عنها>> “Haaretz, 02/10/2007″، وبالتالى استمر فرض رقابة عسكرية صارمة منعا لتسريب أى معلومات عن الموضوع فى وسائل الإعلام الإسرائيلية.
وبالعودة إلى وسائل الإعلام الغربية، ثمة تضارب كبير بينها، حيث نجد قناة “CNN” تعلن أن الهدف كان هو تدمير قافلة أسلحة وصواريخ آتية من إيران إلى حزب الله، غير أننا لا نجد أى شرح مقنع يفيد كيف يمكن لهذه القافلة العسكرية أن تعبر الأراضى العراقية فى ظل الاحتلال العسكرى الأمريكي، ثم كيف يمكن مواراتها على الأنظار فى بناية مربعة تمتد إلى أربعين مترا، ثم لماذا لم ينتظر الجيش الإسرائيلى اقتراب الشحنة العسكرية من الحدود اللبنانية من أجل تدميرها بسهولة. بالإضافة نجد الصحيفة الفرنسية ليبراسيون “Libération, 18 septembre 2007” نقلا عن مصادر صحيفة <<الصنارة العربية>> فى إسرائيل المؤرخة ب 12 سبتمبر، تحاول أن تجد تفسيرا من خلال إعادة التذكير بالاتفاقية العسكرية السورية الإيرانية المبرمة بتاريخ 15 يونيو ـ تموز 2006، ما يفسر فى نظرها هجوم إسرائيل على رمز هذا التعاون السورى الإيرانى من خلال اختيار <<قاعدة سرية للصواريخ الإيرانية>> فى الأراضى السورية، كما نجد روايتين أخريين قريبتين من هذه الفرضية، حيث تتحدث الرواية الأولى عن أن البناية المدمرة كانت تخفى مصنعا سوريا إيرانيا لتجميع الصواريخ الباليستية “Iran Press Service, 13 septembre 2007″، بينما تذهب الرواية الثانية المسماة “Raw Story” بأن هذه البناية عبارة عن مصنع مختص فى وضع رؤوس كيماوية على صواريخ باليستية أتت من كوريا الشمالية، وهى الرواية التى تبنّتها جامعة فينيكس “ولاية أريزونا بأمريكا” منذ 24 شتنبر 2007.
وإذا قمنا بفحص هذه الفرضيات سنجد أن بها العديد من العناصر الواهية والتى لا تستقيم مطلقا، إذ من الوهم الاعتقاد بمجازفة السلطات العسكرية الإيرانية والسورية حقا بوضع صواريخ هامة من نوع ” سكود، س س 21 أو شهاب وزلزال” فى بناية تقع على رأس جبل مكشوف، حيث من السهل جدا التعرف عليها، أما بخصوص الرواية المصطنعة التى تحدثت عن مصنع خاص برؤوس كيماوية فوق صواريخ بعيدة المدى، أغلبها يمكن أن يصل العاصمة تل أبيب بسهولة، فهى لا يبرر منطقيا قصف إسرائيل للبناية وتعريض أجود طياريها وطائراتها للخطر البالغ، علاوة على إمكانية اندلاع مواجهة مفتوحة بين سوريا وإسرائيل فى ظرفية بالغة الحرج لإسرائيل، إذ من المعروف أن إيران وسوريا تمتلكان صواريخ بالستية، وبالتالى حتى لو افترضنا جدلا وجود عدة رؤوس إضافية منها فى عين المكان، فهذا لا يغير من الأمر شيئا فى موازين القوى الحالية، بل إن ذلك يمكن أن يجر ذلك إلى حرب مفتوحة بين إسرائيل وسوريا، لا يمكن التكهن مسبقا بآثارها فى المنطقة.
وبالعودة إلى المجلة المتخصصة فى القضايا العسكرية “Jane’s Defence Weekly” بتاريخ 12 سبتمبر 2007، ترى إن الضربة لا تعد أن تكون فى نظرها محاولة إقناع سوريا باختلال التوازن الاستراتيجى العسكرى بينها وبين إسرائيل، مما يفرض عليها لاحقا تقديم تنازلات فى معرض المفاوضات بين تل أبيب ودمشق. لكن تبقى هذه الفرضية ضعيفة السند شكلا ومضمونا.
– ذلك أنه إذا كان الهدف هو التأثير سياسيا ونفسيا على سوريا من خلال البرهنة على قدرة الطيران الإسرائيلى على التحليق فى فضاء سوريا ذاته، لماذا تم القصف ليلا فى منطقة غير مأهولة، ولماذا حاول الطيران الإسرائيلى معظم الوقت الالتفاف على أنظمة الدفاع السورية واستعمال أجهزة التشويش الإلكتروني، بحيث تفادى حتى النقطة الأخيرة التحليق فى فضاء سوريا الجوى كما تم الكشف عنه مؤخرا من خلال مسار رحلة الطائرات الإسرائيلية نفسها.
ويتبين من خلال تغطية صحيفة “هارتس” الإسرائيلية للحدث ترجيح قيام الحكومة الإسرائيلية باستفزاز سوريا، ما يحمل سوريا على الرد عسكريا من أجل اختبار قوتها على ضوء صمود حزب الله العسكرى البطولي، وبالتالى التغطية على هذه الهزيمة النكراء، حيث تم تمريغ مصداقيتها العسكرية فى الوحل من طرف حزب الله فى لبنان. لكن هذه الفرضية تظل ضعيفة جدا إن لم تكن واهية، حيث لم يكن بمقدور إيهود أولمرت وإيهود باراك تحمل مسؤولية استفزاز جديدة قد يؤدى إلى مواجهة مع سوريا قد تستخدم فيها أسلحة غير تقليدية، فيما كانت هناك أولوية كبرى تخص مواجهة إسرائيل مع حزب الله وحماس، ناهيك عن محاولة عدة أطراف عربية ودولية دفع سوريا نحو المشاركة سياسيا فى مؤتمر أنابوليس آنذاك!
بيد أن ثمة قراءة أخرى لهذا القصف تفيد بأن الخبراء العسكريين الإسرائيليين كانوا يريدون دفع سوريا للكشف عن محطات الرصد والرادارات الجديدة، بخاصة صواريخ أرض – جو الروسية والصينية، ثم اختبار شبكة دفاعها المضاد للطيران والتعرف على أنظمتها التقنية “CIRPES, Paris12 septembre 2007” الجديدة. لكن إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لزم الأمر البدء بهجوم إلكترونى من تشويش وغيره، الأمر الذى أعاق الحصول على معلومات كافية عن هذا النظام إلى أبعد حد، بل أن يظل صامتا ومجهولا؟!
ثمة تكهنات أخرى ذهبت إلى القول بأن قصف سوريا هو رسالة إلى طهران، وهو التحليل الذى يتبناه إفراييم كام نائب مدير المعهد الإسرائيلى للدراسات الأمنية القومية “INSS”. لكن هذه الفرضية لا تصمد نهائيا، لأنه فى هذه الحالة لماذا ضرب سوريا والدخول فى تجاذبات أو متاهات مع الجانب التركى فى الوقت الذى كان على إسرائيل أن تواجه خطر خسارة أحسن الطيارين وتدمير طائراتها فى عملية استفزاز كهذه.
وبالتالى لماذا لم يكن عليها أن تقوم بالتحليق رمزيا فوق أى هدف إيراني، ما سيدفع ذلك الحدث إلى واجهة الأحداث ويحظى بتغطية كبرى، ثم لماذا لم تحرك إحدى غواصاتها المسلحة بصواريخ نووية بالقرب من الشواطئ الإيرانية؟ لذا من دون شك، تسقط هذه التفاسير كلها فى ميدان التحليل الموضوعي، حيث يرجح شلومو بين عمي، وزير الأمن الداخلى السابق ووزير خارجية إسرائيل سابقا أن هذه العملية فى حد ذاتها كانت موجهة إلى <<شيء>> يطرح <<ثقلا كبيرا وجديدا فى ميزان الأمن القومى الإسرائيلي>> . لكن هذا التصريح المبطن هل يخفى محاولة استغلال بعض الشخصيات الإسرائيلية كثرة الافتراضات المحيرة على أكثر من صعيد بقصد التمويه على الاعتداء واستغلال الإشاعة للتعريض بسوريا والنيل منها قدر المستطاع من أجل تضييق الخناق عليها دوليا مجددا “New York Time, 22 septembre 2007” فى محاولة عزلها كليا.
الفرضية النووية الكورية هل هى خرافة من وحى الخيال الإسرائيلي؟
كانت صحيفة الصانداى تايمز فى 16 سبتمبر السباقة إلى الانقياد إلى ما وراء فرضية أخرى تتعلق بكون إسرائيل قامت بتدمير موقع سرى يحتوى على العديد من قطع غيار نووية تم الحصول عليها سرا من كوريا الشمالية، بالمقابل دفع هذا التصريح إلى الواجهة العديد من الخبراء فى وكالة الطاقة الذرية إلى تكذيب ذلك بشدة، معربين أن هذا الادعاء كاذب بالمرة، يعادل كذبة واشنطن عن أسلحة الدمار الشامل فى العراق، بل أصر البعض على أن وكالة الطاقة الذرية لم تجد أبدا أدنى عنصر مادى ملموس يفيد بأن السلطات السورية تتوفر على برنامج نووى سري.
ولا غرو أن نتساءل عن ما مدى صحة هذه الفرضيات؟ وما هو حجم التواطؤ القائم بين إسرائيل وواشنطن فى إعداد هذه المسرحية، لاسيما أن بناء هذا الموقع تم قبل سنة 2003، ولم يظهر فجأة على صدر الاهتمامات الأمريكية والإسرائيلية إلا بعد ما صدرت معلومات تمت نسبتها إلى على رضا أصغرى الجنرال الإيرانى المستجوب من قبل الأمريكيين فى سنة 2006، بحيث تفيد مصادر متضاربة بأنه كان وراء اتخاذ الإسرائيليين قرارا بتدميره فى ربيع 2007، لكن الأمريكيين عارضوا ذلك لغياب أدلة كافية وفى ظل سياق إقليمى يمكن أن يدفع فى اتجاه مواجهة كبرى فى المنطقة، بحيث انتظرت تل أبيب إطلاق قمرها الاصطناعى “OFEQ-7” للقيام بعملية مسح شاملة للتأكد من وجود البناية، فى حين تحدثت صحف إسرائيلية عن تسريب فريق إسرائيلى إلى عين المكان عثر على عناصر ومواد نووية من أصل كورى “Haaretz, 23 septembre 2007″، لكن ذلك لا يعد فى الحقيقة أن يكون حملة إعلامية مدروسة ومجانية خالية من كل مصداقية، حتى تثبت هذه المزاعم.
بالإضافة إلى ذلك تحدثت مصادر إسرائيلية أن تل أبيب قدمت على إثر ذلك مجموعة من الدلائل المادية إلى واشنطن وتركيا من أجل الحصول على الموافقة على عملية عسكرية من أجل تدمير الموقع، ما جعل السفير الروسى يتدخل على الخط من أجل تحذير سوريا من قصف محتمل باتت علاماته وشيكة فى ظل الاتفاقية المبرمة بين سوريا وكوريا الشمالية للتعاون التقني. ثم ما تردد من إفراغ حمولة باخرة شحن عملاقة فى ميناء طرطوس السورى بتاريخ 28 يوليو إلى غاية 3 سبتمبر، تكلم فيه السوريون عن صفقة إسمنت بين الطرفين، ما أدى إلى تسريع توقيت القصف الجوى الذى راجت بعده أنباء عن مقتل وجرح فنيين من كوريا “Guysen Israeel News, 8 octobre 2007”.
لكن من المفيد أن نذكر بأنه لم يتم التأكد مطلقا من هذه المزاعم التى روجتها مصادر قريبة من إسرائيل، غير أن الحجاج واللجاج ارتفع من جديد، عندما قامت صحيفة “New York Times, 14 octobre” بتبنى رواية الخبراء الأمريكيين والإسرائيليين الذى وصل بهم الأمر الادعاء بأن البناية تشبه كثيرا المحطة النووية الكورية الشهيرة “Yongbyon”، حيث الأشغال جارية لبناء محطة نووية! وهو الأمر الذى سقطت فى تبنيه بدورها العديد من وسائل الإعلام العربية والغربية دون تمحيص، حيث لم يكن الأمر فى الحقيقة إلا محاولة تصفية حسابات بين جناحين فى الإدارة الأمريكية، الأول يبحث بكل قوة عن الدخول فى مواجهة مع سوريا وإيران وكوريا ” وراءه كل من ديك تشينى وجون بولتون” وبين جناح براغماتى لا يريد تصعيد الموقف مع سوريا ” روبرت غيتس وكريستوفر هيل” يرى بأن الاتجاه الذى يدفع فيه صقور المحافظين الجدد يمكن أن يغير من موقف كوريا الشمالية وتشديد موقفها من جديد حول الملف النووي، خاصة عندما صعد جون بولتون إلى الواجهة من أجل دفع وزارة الخارجية الأمريكية إلى تبنى خيار المواجهة، واعتبر أن كوريا الشمالية تحاول من خلال تسريب جزء من برامجها النووية إلى سوريا الضحك على المجتمع الدولى باللعب على واجهتين: الواجهة الأولى الظهور بمظهر الشريك الذى يحترم تعهداته فى الاتفاقية ” 31 ديسمبر 2007″ التى تقضى بالتخلص من برامجه النووية، أما الواجهة الثانية، فهو يحاول الاحتفاظ بوسائل برنامجه النووى سالما، ما سيمكن بيونغ يانغ لاحقا من استئنافه “Wall Street Journal, 31 octobre 2007” وقت ما تريد. لكن السلطات اليابانية والكورية الجنوبية سارعت إلى التخفيف من حدة هذه التصريحات، بعدما تأكد لها بأن صقور المحافظين الجدد يدفعون بكل ما أوتوا من قوة نحو خيار المواجهة، سيما بعد أن دخلت منظمة الأمم المتحدة ووكالة الطاقة الدولية على الخط واعتبرت الهجمة الإسرائيلية تنخرط قلبا وقالبا فى خطة المحافظين الجدد.
والمؤكد أن تفنيد المزاعم الإسرائيلية والأمريكية سيأتى هذه المرة من الصحفى الإسرائيلى الشهير يوسى ميلمان “Yossi Melman” فى 22 نوفمبر 2007، حيث اعتمد على دراسات الأستاذ “Ouzi Even” الخبير فى الفيزياء النووية فى جامعة تل أبيب وأحد خبراء محطة ديمونة النووية فى إسرائيل سابقا، بأن البناية موضوع القصف الإسرائيلى فى سوريا من المستحيل أن تكون محطة نووية فى طور البناء “Haaretz, 12 janvier 2008″، لكنه بدافع تجنب الحرج، بخصوص أن تحتضن البناية مصنعا من أجل تخزين قطع غيار نووية أو غيرها من الذخائر الحربية التقليدية، فترك الباب مفتوحا واكتفى بالقول أن كل بناية عبارة عن مستودع، يمكن أن تكون مأوى لأى شيء.
لكن ثمة حقيقة لا بد من ذكرها للرد على هذه المزاعم والأكاذيب، تكمن أولا فى كون أن السلطات السورية لو أرادت بالفعل برنامجا نوويا سريا، فمن المستحيل أن تحتضنه بناية مكشوفة وغير مؤمنة بالشكل الكافى أمام مسح الأقمار الاصطناعية والجواسيس… فالبناية تؤكد العديد من التقارير المستقلة بأنها عادية وغير سرية على الإطلاق، مما يقطع نهائيا مع وجود برنامج سرى نووى سوري.
إجمالا، يبقى الجدير بالنظر تصريح الرئيس الأمريكى جورج بوش فى زيارته الأخيرة إلى الشرق الأوسط بأن القصف الإسرائيلى << عملية وقائية هامة من أجل التوازن فى المنطقة>> “Defense News.com, 14 janvier 2008″، حيث استغل جهات عديدة هذه الضربة لكى يكيلوا اتهامات جديدة بعد أن اعتبروا بأن هذا التصريح كان وراء تشدد الموقف السورى واشتعال فتيل الأزمة اللبنانية من جديد التى راح ضحيتها الجنرال الحاج فى 13 ديسمبر 2007، ما يعنى بطريقة مباشرة فى نظر هؤلاء أن سوريا اختارت أن ترد سياسيا على الهجوم الإسرائيلي.
ومهما يكن من أمر هذه الادعاءات التى تظل دون حجة، فإن السؤال يبقى أن إسرائيل ظلت تعمه هى أيضا فى صمتها، عوض أن تحيط القصف بدعاية إعلامية كما جرى غالبا، بحيث يفسر هذا الصمت والرقابة الصارمة المفروضة على وسائل الإعلام الإسرائيلية، أنها استجابت لضغط أمريكي، ظل يخشى بأن تتراجع كوريا الشمالية عن الاتفاق مع كوريا، وبالتالى تخسر الإدارة الأمريكية أى نجاح يذكر لها سياسيا، لذا كافأتها واشنطن ب 10 مليار دولار وطائرات “J-35” الخفية، وهى قيمة المساعدات العسكرية التى ستحصل عليها تل أبيب خلال السنوات المقبلة.
سياسيا، يبقى أن إيهود أولمرت استفاد بعض الوقت وارتفعت شعبيته من جديد كى تصل إلى 35 بالمائة، لكن ذلك لا يمكن أن نعتبره هدفا سياسيا كافيا، يمكن أن يبرر هذا القصف، بحيث إذا كان غالبا ما يلجأ هذا التفسير إلى اعتبار القصف بمثابة رد اعتبار لقوة الردع الإسرائيلية التى تم تمريغها فى الوحل، من خلال إثبات تفوق الطيران الإسرائيلى من جديد فى عموم المنطقة وقدرته على إصابة أهدافه بدقة، بما فيها الأهداف البعيدة “إشارة موجهة إلى طهران”، خاصة عندما أطلقت إسرائيل تجربة صاروخ باليستى جديد طويل المدى من قاعدة بالْمَهين فى 17 يناير 2007.
العرب  اليوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى