عن الرأي الآخر
رزان زيتونة
كثيرون، يبالغون إلى حد كبير وغير مفهوم في تطبيق مقولة فولتير، قد أختلف معك في الرأي، لكني على استعداد لأن أدفع حياتي ثمنا لحقك في التعبير عن رأيك.
هؤلاء تتسم ردود فعلهم بالقسوة و«العنف الفكري» على من يختلفون معهم في الرأي. هم يصنفون هذا الآخر المختلف معه، إلى خانات ومقامات. وطني وغير وطني، عميل للخارج وغير عميل، مؤمن بالقضية أو كافر بها! وهلم جرا.
«نقدهم» للآخر، لا ينصب على نقاط وتفاصيل معينة في مواقفه الفكرية، أو رؤيته السياسية أو برنامجه إن وجد. ولا يتوقف عند مناقشتها أو تفنيدها أو معارضتها بأفكار ورؤية مقابلة. بل هو يأخذ الأمور بكلياتها، يركز على القضايا الكبيرة، والمفردات المفخمة، والمصطلحات ذات الرنين الإيديولوجي الخلاب، والمعاني السامية، لينتهي الآخر إلى موقف المُدان والمتهم الثابتة جرائمه، حتى قبل أن يتاح له تقديم دفاعه.
هؤلاء يتحول لديهم مَن يختلفون معه في الرأي إلى عدو أخلاقي قبل أي شيء آخر. الأمور لديهم واضحة ومبتوت في صحتها، لا رمادي ضمن مجموعة ألوانهم، والحقيقة لا تحتاج إلى برهان، طالما أنها نابعة مما يعتقدون ويؤمنون.
قد يكون المرء في نظر هؤلاء قد انسلخ عن وطنيته أو غرق في غمار الكفر، وهم يعبرون عن ذلك بشفافية وصراحة كبيرتين. مع ذلك، فهم يدافعون عن حقه في التعبير عن رأيه! ويقفون ضد ممارسات تعسفية تمارسها سلطات ظلامية أو قهرية ضده. أي أنهم يجتمعون مع سلطات القهر على التخوين والتكفير، لكنهم يفترقون عنها في امتلاك آلية القهر وممارستها.
وهم بإصرارهم على الدفاع عن خصومهم ممن تعرضوا لانتهاك حقهم في التعبير الحر عن آرائهم، يتلبسون موقفا أخلاقيا ساميا، ويبرهنون بما لا يدع مجالا للشك، على حسهم الديمقراطي، وإيمانهم بالرأي الآخر والدفاع عنه.
يقف المرء صاغرا أمام إخلاصهم لمبدأهم في الدفاع عن الرأي الآخر، وهم يتصدون للظلم الذي لحق بخصومهم المذنبين، فيظهرون في مثل هذه اللحظات، كالجدة الحنون تبادر دوما للدفاع عن أحفادها المشاكسين الصغار ضد عقاب يستحقونه من آبائهم!
فولتير كان ليفخر بهم، فقط لولا أنهم أساؤوا قليلا فهم مقولته وتطبيقها.
فالعنف بأشكاله المختلفة وبغض النظر عمن يمارسه، يحتاج إلى مقدمات. وهذه تتضمن فيما تتضمن، التحريض ضد ضحايا العنف، وتصنيفهم في خانة الأشرار والشياطين، الكفار والأعداء والعملاء، لا فرق.
وليس المقصود على أي حال، كبت أو تجميل النقد الذي يعتمل لدى بعضهم تجاه فكر وممارسة آخرين. لكنه لا يعني أيضا المساهمة في تأسيس المبرر الأخلاقي أو السياسي لممارسة القهر والعنف ضدهم، خصوصا، ضمن مجتمعات تغلب فيها «ثقافة» القضية على ثقافة الحرية واحترام الآخر. وفي ظل سلطات، لا تحتاج إلى مبررات من أحد لممارسة القهر، لكنها لا تمانع في الحصول على سند أخلاقي وسياسي لممارساتها تلك.
قد يبدو أكثر انسجاما وصدقا مع الذات مَن يقوم بإصدار حكم إدانة مماثل ضد الآخر، ويتعفف عن مد اليد إليه لدى تنفيذ الحكم بحقه.
فمسألة الحقوق والحريات، ليست مسألة تسامح وقلب كبير. ولا يمكن أن تقوم بشكل مجرد عن أساساتها الثقافية والقانونية. وهي لا تقوم وترفع شعاراتها فقط بمواجهة السلطة. ومَن يسمح لنفسه بمصادرة الحقيقة واحتكار الوطنية، يقع في تناقض عجيب مع نفسه عندما يبادر إلى إدانة مصادرة مشابهة، حينما تقع من طرف ثالث، مع اختلاف الوسائل والتطبيق.
أن يكون المرء إقصائيا ومحملا بأحكام الإدانة المؤدلجة، ويكون في الوقت نفسه مدافعا شرسا عن الرأي الآخر ضد قمع وقع وانتهاك تحقق، فهو مما يسيء إلى قضية الحقوق والحريات ولا يدعمها على عكس ما يعتقد ويحب أن يعتقد.
جمع المجد من أطرافه كلها، «الوطنية الحقة» في مواجهة اللاوطنية، والإيمان الحق في وجه الكفر والزندقة، والوقوف في وجه منتهكي حقوق «اللاوطنيين» و«الكفار»، يضع أصحاب هذه الرغبة في موقف لا يحسدون عليه.
ذلك ببساطة، أن فولتير تحدث عمن يختلف معهم في الرأي، وهم إذ تلقفوا قولته وبالغوا في تطبيقها، خلطوا الأمور ببعضها، حتى لم يعد المرء ليميز بين صاحب الرأي الآخر والمجرم المدان، بين الحرية وقفص الاتهام.
* كاتبة سورية