شعاع قبل الفجر مذكرات أحمد نهاد السياف
شاهر أحمد نصر
ولد أحمد السياف (1909 – 1992) في مدينة حلب في عائلة مدينية تنتمي على مستوى تراتيبيات القوة الاجتماعية إلى فئة الأعيان المتوسطين، فكان والده موظفاًً عثمانياً في الإدارة العثمانية، ويرأس إدارة سجن حلب، بينما كانت والدته تنتمي إلى أسرة متوسطة الغنى… تلقى تعليمه الثانوي في تجهيز حلب، وانتسب إلى معهد الحقوق بدمشق، لكنه قطع دراسته بسبب اضطراره للعمل الوظيفي لمساعدة عائلته… تولى إدارة الفرع الإقليمي لشركة “الريجي” في العام 1945 في سوريا في إطار نقل المصالح المشتركة من الفرنسيين إلى الحكومة الوطنية السورية، وكان أول مدير وطني لهذه الشركة، وكان ما يزال مديرها العام ومقره ببيروت فرنسياً.
ينتمي التكوين الأساسي للسياف إلى مرحلة العشرينات التي تميزت بدعاية ثورية نشطة تحمل رائحة “التبلشف”… ولقد تميزت رسالة هنانو إلى القناصل الأجانب في حلب في أيلول / سبتمبر 1920 بهذه النكهة البلشفية حيث كتب حرفياً: “نحن السوريون نموت ونتبلشف ـ أي نصير شيوعيين ـ ونجعل البلاد رماداً، ولا نخضع لحكم الظالمين”.ص16
أدى تخلي الكماليين عن ثورة الشمال التي وصلت عبر جبهة جسر الشغور ما بين ثورة هنانو في جبل الزاوية وبين ثورة الشيخ صالح العلي في جبال العلويين إلى نهاية الثورة، ومن ثم القبض على هنانو في آب / أغسطس في القدس، وتقديمه للمحكمة العسكرية بحلب (1922) إلى تغير اتجاه نظر النخبة الوطنية الديناميكية الحلبية مصيرياً من تركيا الكمالية إلى العمق السوري المحتل.ص17
تعرف الشاب أحمد السياف على هنانو مباشرة من خلال الاجتماع الذي عقده هنانو في 16 كانون الأول / ديسمبر 1926 مع عدد من وجوه الحركة الوطنية والوجوه الشبابية الناشطة في الحقل الطلابي، وتقرر فيه استنفار طلاب الثانويات للحيلولة بين الناخبين الثانويين وبين الوصول إلى صناديق الاقتراع، والذي انتهت مواجهته باعتقال عدد من القادة الوطنيين في سجني جزيرة أرواد وقلعة صافيتا.ص18
تكمن أهمية مذكرات أحمد نهاد السياف أكاديمياً ـ من وجهة نظر الأستاذ محمد جمال باروت الذي حقق الكتاب وأغناه بهوامش هامة ومفيدة (حبذا لو ذكر الاسم في بداية كل هامش لتسهيل الاطلاع) ـ في نقطتين أساسيتين تتلخصان فيما يلي: 1 ـ التعبير عن تجربة الجيل الثاني في الحركة الوطنية السورية متمثلة بجسمها القيادي الأساسي “الكتلة الوطنية”… 2 ـ إضاءة تجربة شخصية ورسمية وديناميكية في فصل من أكثر الفصول طمساً وتهرباً منه في التاريخ السوري الحديث، وهو الفصل المعقد المتعلق بـ “قضية سلمان رشدي” الذي نقل المرشد من الزعامة إلى المشنقة.ص31 ولعلني أضيف قضية جوهرية أخرى تكسب هذه المذكرات أهمية كبيرة ألا وهي النزعة الوطنية والمدينية القريبة من العلمانية واليسارية عند أهم شخصيات الحركة الوطنية في سوريا، والتي يجسدها في هذه المذكرات أحمد نهاد السياف… بل نجد مواقف علمانية وديموقراطية ووطنية بعيدة عن التعصب الديني والطائفي تتجاوز كثيرين ممن يعيشون بعد قرن من ذلك الزمان…
إن عرض بعض ما جاء في هذا الكتاب الوثيقة لا يغني عن قراءته، وسأكتفي بإيراد بعض المواقف ذات المغزى الوطني علها تشي بشيء من جوهر هذا الكنز الثمين:
ـ من جملة العروض التي تقدم بها الجنرال غوبو أثناء مناقشته هنانو إقامة دولة تضم لواء اسكندرون وحلب ينصب هنانو أميراً عليها، على أن تلحق اللاذقية بدولة لبنان. أجاب هنانو: “لا أستبدل تاجاً وضعه ربي على رأسي منسوجاً من قلوب الشعب، بتاج مرصع باللالئ تضعه يد جنرال فرنسي، ولا أقبل بتقسيم سوريا”.ص53
ـ انتفاضة الرجعية:
كانت فرنسا تعتمد في بسط نفوذها على مختلف رجال الأديان بشكل متفاوت، وفي سبيل ذلك أخضعت دوائر الأوقاف الإسلامية لمسؤول فرنسي يهودي الأصل اعتنق الإسلام بحكم الضرورة، حيث شغل منصب المستشار العام للأوقاف الإسلامية في سورية ولبنان.. كما تزوج من مسلمة من عائلة دمشقية، وإلى جانبه وضع شفيق الملك أحد رجال الدين الإسلامي كمراقب عام مشرف على مديريات الأوقاف في مختلف المدن. وبحكم هذا الوضع أمكن التحكم ببعض رجال الشعائر الدينية الذين استغل كثير منهم لمقاومة الحركة الوطنية.ص64
ـ كنتيجة لفشل قائمة بركات ـ شعباني (في الانتخابات) راحت (جريدة) التي يصدرها الشعباني ويحرر بها عدد من رجال الدين، بإيعاز من مديرية الأوقاف بالهجوم على الاتجاه الوطني الذي يمثله هنانو ورفاقه… وهاجمت جريدة الأهالي جماعة هنانو واصمة إياهم بالإلحاد، وبأنهم دعاة للسفور والإباحية..ص64
ـ من بين الممارسات التي أدت إلى الصدام بين الشباب الوطني والرجعيين أنّه وتمهيداً لتعيين الشيخ تاج الدين الحسيني رئيساً للوزارة، فقد قام والده الشيخ بدر الدين الحسيني المحدث الأكبر آنذاك برحلة إلى حلب، ألقى فيها دروساً دينية في الجامع الكبير خص بها المرأة، وهاجم النسوة التقدميات هجوماً عنيفاً ودعا إلى التحجب بقماش أبيض مع برقع أسود على الوجه (أي لباس أبيض ووجه أسود)، بحيث طغت على أزقة المدينة وشوارعها هياكل أكفان من اللواتي غرّر بهن، فكأننا بين موتى يتحركون. وانطلق أنصاره من الشباب المخدوعين به يرشّون غير ذوات الحجاب الأبيض بالحوامض السائلة التي كثيراً ما أصابت أجسادهن بحروق. وكرد فعل على هذه التصرفات، قام الشباب الوطني بدعاية معاكسة، مما أدى إلى الصدام الذي تحدثنا عنه مع الرجعيين الذين كانت تمثلهم آنذاك جريدة الأهالي.ص65
ـ هنانو ضد المال السياسي:
أثناء المعركة الانتخابية حضر ذات يوم الدكتور الكيالي، وقال لهنانو: لقد “طبقت أكثر من مئة ناخب”، وكانت الانتخابات على درجتين، على أساس بين 20-30 ليرة ذهبية للناخب، وبذلك وبالإضافة إلى عناصرنا نكون قد أمنّا ربح المعركة. فقاطعه هنانو غاضباً وهو يقول: “يا دكتور هذه خيانة… وأية خيانة؟! إنّها خيانة بل إجرام، أنا أفضل أن أخسر معركة الانتخابات، وأن أخوضها معركة بالدم والنار، على أن أعوّد الأمة على بيع ضمائرها بالدينار.” فقال الدكتور: “وهل في ذلك خيانة وإجرام ونحن بفضل المال نحجب هذه الأصوات عن أعدائنا؟!..” فردّ هنانو: “كلا، لا أقبل الانحراف حتى ولو كان فيه مصلحتي”.ص69
ـ ازدواجية مواقف البعض من الحركة الوطنية: فهذا سعد الله الجابري وأحمد خليل تتوسطهما مائدة تضم ما لذ وطاب من أكول ومشروبات والشعب تحصده نيران المحتل في إحدى المواجهات في شوارع حلب، وأحمد خليل يرفض إرسال أية سيارة من سياراته لنقل الجرحى خشية أن يتلوث فرشها بالدم مما تسبب في وفاة بعضهم ممن يعيل خمسة أولاد وأمه وزوجته…ص71
وهذا هنانو يخشى من الكيالي أن ينقل أخبار المجاهدين اللاجئين إلى تركيا إلى زوجته ومن ثم إلى دوائر المخابرات الفرنسة، وهذا ما حصل:
“ما ظننت يوماً أنك غبي إلى هذا الحد. كيف أطلعت الكيالي على هذا السر؟! (خاطب هنانو أحمد السباعي). وإذ أجابه بأنّه يعرف أنهم ثلاثة أشخاص في شخص واحد “هنانو ـ جابري ـ كيالي”، انتفض هنانو هائجاً وقال: “كلا، كلا… لكل منهما حده في العمل السياسي لا أتجاوزه معه إطلاقاً… بعد ثلاثة أيام طوق الفرنسيون الحي، وجرت مصادمة مع المجاهدين…ص72
ـ هنانو ضد الاحتكارات الرأسمالية
حدثني بير كالان المدير العام لشركة الريجي المنحلة قائلاً: “يا سيد سياف، لقد اتفقنا مع جميل مردم وزير المالية على إلغاء نظام البندرول وإعادة الحصر، وعلى أن يمنحنا امتيازاً يحصر بموجبه استثمار (التبغ والتنباك ـ ورق السيجار والكبريت ـ الملح والسكر) بنا كشركة ذات امتياز، على أن نتوسط نحن بدورنا لدى الحكومة الفرنسية على منح سوريا استقلالاً مشروطاً بمعاهدة…
في اليوم التالي توجهت مع الزعيم إلى اسكندرون، وأطلعته على الاتفاق الواقع بين مردم وكالان، فانفعل وقال: “لا يمكن أن يتم ذلك إطلاقاً. إنّ قضية الحرية وحدة لا تتجزأ، وأنا لا أقبل بأي استقلال مشروط بأغلال، أما الاحتكارات فأنا خصم لها من حيث المبدأ…”ص76 وأجبر مردم على الاستقالة..
ـ وطني غيور في اللاذقية
ينتقل أحمد السياف إلى اللاذقية لإشغال مديرية الريجي بدلاً من السيد شيكس، ويجتمع بعدد من الشخصيات من بينهم مظهر باشا رسلان الذي استقبله بنصائح منها قوله: هنا الطائفية تلعب دوراً مقيتاًً في كيان الشعب، وهنا قواعد اتخذها الفرنسيون لهم مستغلين ذلك الخلاف بين سني وعلوي، ويوجد مسيحيون يبتعدون عن غمرة الصراع…ص122 فاعمل جاهداً بأن تعمل متجرداً وللمصلحة العامة التي تقتضينا القضاء ـ مهما كلفنا من تضحيات ـ على تلك الخلافات التي تشل طاقات الأمة وتحولها من البناء إلى الهدم.ص123
واجتمع بالعمال مخاطباً إياهم: “.. أعمل معكم على تدعيم كيان هذا الوطن وهذا الاستقلال، بعيداً عن روح التعصب، أي تعصب، لا فرق عندي بين سني وعلوي واسماعيلي، وبين مسلم ومسيحي”.ص123
ويسرد السياف خطة الحكومة الإيجابية مع سلمان رشدي، وكيف لعب دوراً هاما فيها، ونصيحة المدير العام للريجي كوتورييه له بألا يتدخل في السياسة، وألا يثق بالسياسيين، لأنّ حالته تشبه حالة ديغول عندما انتقد بعض تصرفات تشرشل، فأجابه الأخير: “إنّك تتصف بصفات الزعامة، ولكنك لا تتصف بصفات السياسيين، ذلك أنّ السياسة عاهر، وأنت لا تحسن صناعة العهر”، فأجاب السياف: ولكنها بلادي، تتطلب مني التضحية، ليتبين له لاحقاً صحة رأي كوتورييه، إذ أنّ زعماء المدينة أفسدوا خطة الحكومة، كما أن البعض في دمشق حنث بيمنه، ونفذت خطة قد تكون أرادتها بريطانيا… كان نتيجتها مواجهات وإعدامات… وهو يحاول مقاربة قضية المرشد بموضوعية كصراع على الأرض، اغتصبها فريق من متنفذي المدينة من أصحابها البسطاء في الريف، حسب رأي المرشد..وبعيداً عن الدعايات التي كالها خصوم المرشد عليه.. ويتذكر الشعارات التي رفعها عمال وموظفو الريجي في هذه المناسبة: العروبة فوق الجميع، ناضلوا ضد الطائفية والإقطاعية، كافحوا التسلط والاستغلال.. التي ألبت الزعماء ضده فهاجموه ناقلين سخطهم إلى رئيس الجمهورية، وجعلت قادة البعث كالدكتور وهيب غانم وميشيل عفلق يتقربون منه…
كما يستعرض الموقف السلبي للمحافظ الجديد عادل العظمة من معالجة قضية المرشد، وكيف “استبيح الجبل وحرم على أهليه إغلاق الأبواب في الليل والنهار، وبُعثرت القبور بحثاً عن الأموال، وسيقت الصبايا مصحوبات بالمتاع والمجوهرات… هدايا وسبايا تستقر في قصور دمشق وعلى صدور غوانيها” كما يقول السياف ص171 ويورد سجاله مع سعد الله الجابري طالباً منه مسايرتهم… فأجابه السياف: أنا وأنت إلى زوال، وإن أخطاء الحكام والمسؤولين تدفع ثمنها الشعوب، والوطن ليس لك ولا لي بل هو للأجيال المتعاقبة عليه منذ البداية وحتى النهاية” طالباً فصل حقدهم على سلمان عن الجبل..ص172
ـ أجنة الديموقراطية
يورد السياف حادثة لها دلالة كبيرة حول أهمية الحياة الديموقراطية وأثرها في مكافحة الفساد والفاسدين، فها هو محافظ اللاذقية الجديد عادل العظمة يهاجمه ويهاجم جريدة الجلاء التي تنشر أخبار مشروع الطيران الذي كلف السياف بمتابعته، حيث قال له عبر الهاتف حانقاً: “مولانا شو هالمبلغ الضخم اللي دفعته لأصحاب جريدة الجلاء حتى عم يساووا لك هالطنطنة وهالفخفخة”. وحصل ذلك بوجود رشاد رويحة ، فما كان من الدكتور رياض رويحة أن يسطر إنذاراً إلى المحافظ يعلن فيه أنّهم سيهتكون ستره إذا لم يحضر إلى مكتب الجريدة معتذراً عما بدر منه، لكن عادل العظمة لم يأت واستنجد بأخيه نبيه (العظمة) الذي قدم إلى اللاذقية لينوب عن عادل معتذراً، لكنهم لا يقبلون بغير ذلك المتأله معتذراً لما صدر عنه من إهانة لهم.. استحكم الخلاف، وانعكس على العظمة وعلى أخوانه من الذين سيروه وسايروه في سياسته، وانتقلت نقمة أصحاب جريدة الجلاء إلى أبناء المدينة واستقطبت العناصر الواعية التي كونت نواة انتخابية قاومت انتخابياً مرشحي قائمة عبد القادر شريتح المدعومة من العظمة… وانتهت شخصيته في المحافظة مما اضطر الحكومة إلى سحبه من اللاذقية..”ص174 كم نحن بأمس الحاجة إلى حياة ديموقراطية سليمة فاعلة لمجابهة الفساد والمفسدين، وهل توجد شعوب تتحسر للعيش في ماضيها كما نتحسر، أليس لذلك دلالة عميقة مرة..
ويستعرض السياف المعركة التي أجريت للانتقال من قانون الانتخاب الثنائي الرجعي إلى قانون الانتخاب المباشر.
ـ المرأة
يورد السياف صفحات مشرقة من نضال المرأة في مجتمعنا ومساندتها للرجل في معاركه الوطنية، منها على سبيل المثال: مواجهة أم أحمد السياف للمندوب السامي، وإحراجها له مما دفعه لإطلاق سراحه.ص73 وموقف المناضلة عفيفة صعب التي كان له دور كبير في وأد الفتنة في الجبل في محافظة السويداء… وموقف هلالة زوجة سلمان المرشد الشجاع..
ترى ما نسبة الشباب من أبناء وطننا الذين يعرفون تاريخ مناضلينا الوطنيين أمثال السياف ورفاقه؟!…
إن الحس الوطني النظيف الصادق عند أحمد نهاد السياف وتجربته الغنية يجعل من هذه المذكرات مادة وطنية هامة؛ من المفيد أن تقوم وزارات الثقافة والتربية والتعليم والإعلام بتبنيها وجعلها مادة بحث لطلاب المدارس الثانوية والمعاهد والجامعات، كما أدعو كافة الأحزاب الوطنية في سوريا لاعتمادها مادة تثقيفية لأعضاء هذه الأحزاب وشبيبتها.. كم هو ضروري جمع مثل هذه الوثائق الغنية في متحف وطني حول تاريخ الحركة الوطنية في سوريا وتاريخ روادها، وإحداث فروع له في جميع المحافظات، تكريماً لهم، وفائدة لأبناء الوطن وإنصافاً للحركة الوطنية في بلادنا…
كل الشكر إلى الأديبة نبال أحمد السياف التي حفظت لنا هذا الكنز، ووضعته بين أيدي أبناء شعبنا، والشكر للمفكر محمد جمال باروت الذي كان موفقاً في تحقيق وتقديم هذه المادة الغنية، والتي زادها غناً بهوامشه الموثقة الهامة والضرورية لكل باحث في تلك المرحلة الهامة من تاريخ سوريا. ويؤسفنا عدم ورود اسم دار النشر والمكتبات التي توزع هذا الكتاب الذي صدر في إصدار خاص عام 2005.
الحوار المتمدن