في تحية الرفيق كاسترو
صبحي حديدي
قبل عقد كامل من السنوات، وفي مناسبة زيارة البابا يوحنا بولس الثاني التاريخية إلي كوبا، وضع أحد ثقاة المعلّقين الأمريكيين، جيم هوغلاند، رهانات قصوي علي ذلك الحدث المشهود، وذهب إلي درجة التنبؤ بأنّ الزيارة سوف تعجّل بسقوط فيديل كاسترو. أكثر من ذلك، اختار هوغلاند ذلك التفاؤل الذي لا يمكن أن توفّره إلا أبراج التنجيم، فاعتبر أنّ الحدث أفضل ما يمكن أن تقدمه كرة الكريستال السحرية إلي أولئك الحالمين بسنة جديدة معطاءة!
البعض، من خصوم كوبا وأصدقائها علي حدّ سواء، رأوا أنّ العكس قد يكون هو الصحيح في الواقع، لأنّ الزيارة يمكن أن تنقلب إلي مسمار جديد يُدقّ في نعش الحصار الأمريكي المفروض علي الجزيرة الصغيرة منذ نحو أربعة عقود. ولقد جادل هؤلاء بأنّ هذا البابا تحديداً لا ينتمي إلي تراث الحرب الباردة ولم يكن حليفاً لأقطابها في أيّ يوم، وهو تالياً لن يسعي إلي إشعال فصل جديد من حرب وضعت أوزارها وتجاوزتها العلاقات الدولية بسبب من غياب الخصم أو اندثاره شبه التام. ومن جانب آخر كانت الكنيسة الكاثوليكية تعرف أنّ المجيء إلي الجزيرة علي رأس جيش إيماني لن يصطدم بالجيوش الماركسية ـ اللينينية وحدها، بل بجيوش عشرات العقائد الإيمانية الأخري التي تتعايش في الجزيرة، وتبدأ من الوثنية والتقمّص والشامانية والـ فودو الأسود، ولا تنتهي عند تنويعات البروتستانتية واليسوعية و اللاهوت الثوري الذي اشتهرت به أمريكا اللاتينية.
كذلك كانت الكنيسة تعرف، من جانب ثالث، أنّ إنجازات الثورة الكوبية (محو الأمية، الإصلاح الزراعي، تطوير صناعة السكر، الثورة الثقافية…) أعطت أُكلها، بمعدّلات لم يكن ينتظرها أعتي خبراء البيت الأبيض والوكالة المركزية وأجهزة الإستخبارات الأمريكية الأخري. وحجم المبادلات الكوبية مع أوروبا الغربية برهن علي حيوية مدهشة ومرونة متقدمة، خصوصاً إذا ما قيس بما آلت إليه الإقتصادات الأخري للدول الاشتراكية سابقاً، حيث جري فرض اقتصاد السوق قسراً، بوحي العقيدة وليس استناداً إلي أيّ منطق اقتصادي سليم.
ونظام كاسترو ليس ديمقراطياً وفق معايير الحدّ الأدني من أيّ تعريف سليم متفق عليه لمفهوم الديمقراطية، وهو أقرب إلي دكتاتورية الحزب الواحد والحاكم الأوحد في كلّ ما يخصّ حرّيات كبري مثل التعبير والصحافة والتظاهر والتعددية الحزبية والقضاء المستقلّ. ولكن إذا أخذ المرء بعين الاعتبار حجم المصاعب الخارجية التي تعرضت لها كوبا، ليس بعد انهيار المعسكر الإشتراكي فحسب، بل قبل هذا التحوّل الكوني بسنوات طويلة، فإن سجلّ نظام كاسترو يترك انطباعات حسنة تحسده عليها الغالبية الساحقة من أنظمة العالم الثالث التي سُمّيت ذات يوم ثورية أو تحرّرية أو تقدّمية .
وعلي الصعيد الإيديولوجي لم يتضح أبداً أنّ كاسترو خسر الكثير من جرّاء سقوط النظام السوفييتي أو المعسكر الإشتراكي بأسره، لأنه أصلاً كان حالة وسيطة بين اللينينية الرومانسية، والماوية الثقافية، والبلانكية المعقلنة. وساعة وصول البابا إلي مطار هافانا كان في وسع الزعيم الكوبي أن يضحك في عبّه علي مشهدين متناقضين ـ متكاملين: الرأسماليات الغربية وهي تتسابق علي خطب ودّ الصين واختطاف ما يمكن توقيعه من عقود مع اقتصادها الذي يتنامي مثل تنّين خرافي، والرأسماليات ذاتها وهي تتملص من أعباء العلاقة مع روسيا بوريس يلتسين واقتصادها الذي يترنح مثل فلاّح موجيك خائر القوي، ذهبت الفودكا الرديئة بعقله وجسده.
ولعلّ هذه الأسباب كانت وراء إنحياز الكنيسة إلي القيام بدور إجتماعي إيجابي في النهاية، لا يمارس ألعاب مركز القوّة الموازي/المناهض، بل يحاول احتلال موقع وسيط بين سلطة الرفيق كاسترو وسلطة الرفيق الدولار . ومن المعروف أنّ هذا الرفيق الثاني صار سلطة فعلية يومية منذ القرار الدراماتيكي الذي اتخذه كاسترو في عام 1993، والذي أجاز التعامل بالورقة الخضراء. والكنيسة كانت تعرف، ربما أفضل من جميع خصوم كوبا علي اختلاف مشاربهم ومصالحهم، أنّ المعركة العقائدية مع الرفيقين متساوية في الشراسة، خصوصاً وأنّ أحدهما بشر من لحم ودم (ويمكن بالتالي التعامل مع ردود أفعاله علي نحو إنساني آدمي)، والثاني ورق لا دين له ولا مذهب ولا رائحة!
النبوءات ذهبت أدراج الرياح، إذاً، الآن إذْ يتقاعد كاسترو استجابة لضغوطات رفيق ، أو ربما بابا ، واحد وحيد هو الشيخوخة، وأثقال 82 سنة، بينها نصف قرن كامل في قيادة الثورة الكوبية، ومساندة حركات التحرّر في أمريكا اللاتينية، ومجابهة عشرة رؤساء أمريكيين (أيزنهاور، كنيدي، جونسون، نكسون، كارتر، بوش الأب، كلنتون، وبوش الابن)، وموقعة ملحمية أسفرت عن هزيمة نكراء للولايات المتحدة في خليج الخنازير ، وأزمة بين الجبّارين كادت تشعل أوار الحرب العالمية الثالثة… النووية.
وبصرف النظر عن اختلاف المرء، في الجوهر أيضاً، مع النظام السياسي الذي يخلّفه كاسترو اليوم، فإنّ من المبهج للمرء ذاته أن يقول: لا عزاء لأمثال هوغلاند وسائر الشاخصين إلي كرات الكريستال، وتقاعد هاديء للرفيق كاسترو، هذا الثوري الشيخ النقيّ الصامد.
القدس العربي
25/02/2008