دراسة إسرائيلية: مستقبل العلاقات بين تركيا واسرائيل
تربط اسرائيل بتركيا علاقات مميزة ويجمع بينهما تعاون عسكري ومخابراتي وثيق ومستقر بدأ مع تبادل التمثيل الديبلوماسي بين الدولتين العام 1992 واستطاع ان يصمد رغم كل التغييرات السياسية التي طرأت منذ ذلك الحين على الساحة الإقليمية وعلى السياسة الداخلية التركية مع تبدل الحزب الحاكم في تركيا وصعود نفوذ التيارات الدينية والقوميّة في هذا البلد.
ما هي أسس هذه العلاقات المميزة وما المصالح الإستراتيجية المشتركة التي تشكل القاعدة الراسخة للتعاون العسكري بين البلدين، وكيف استطاع البلدان ان يتجاوزا الإختلافات في وجهات النظر من مسائل اساسية مثل النزاع الفلسطيني والمشكلة الكردية؛ كل ذلك وغيره من القضايا تناولها رئيس مركز بيغن – السادات للدراسات الاستراتيجية في اسرائيل أفرايم عنبار في دراسة نشرها المركز على موقعه الالكتروني في شهر تموز باللغة العربية بعنوان:” الحلفاء الاستراتيجيون الجدد لإسرائيل: تركيا والهند”.
تشكل هذه الدراسة جولة في العمق في تاريخ العلاقات التركية – الاسرائيلية كما تقدم مقاربة لمستقبل هذه العلاقات بالاستناد الى طبيعة المصالح الاستراتيجية التي تجمع بينهما. يشرح الكاتب في مقدمته ما يُسمى ب”نظرية الأطراف” التي طبعت السياسة الخارجية الإسرائيلية في الخمسينات والستينات والتي تشجع على اقامة علاقات متينة مع دول بعيدة تستطيع اسرائيل بواسطتها تخطي عداء الدول العربية المجاورة لها. ورغم التحسن الذي طرأ على العلاقات الاسرائيلية – العربية في التسعينات لا سيما بعد انعقاد مؤتمر السلام في مدريد عام 1991، فإن هذه النظرية ما زالت صالحة، الامر الذي يفسّر العلاقات الجديدة التي سعت اسرائيل الى توطيدها مع كل من أنقرة ونيودلهي.
العلاقات المميزة مع تركيا
كانت تركيا الدولة الاسلامية الأولى التي اعترفت بقيام اسرائيل من 1949 ولكنها لم تقدم على اقامة علاقات ديبلوماسية معها الا بعد 43 عاماً. واذا كان الاعتراف التركي باسرائيل سببه بصورة خاصة الحصول على رضا الولايات المتحدة وتسهيل انضمام تركيا الى حلف شمال الأطلسي الذي جرى عام 1952؛ فإن المسار الذي عرفته العلاقات التركية – الاسرائيلية قام على التقاء متشعب للمصالح والأهداف بين الدولتين. ففي رأي أفرايم عنبار ثمة أكثر من وجه للتشابه بين تركيا واسرائيل لا سيما بعد انتهاء الحرب الباردة. فالدولتان ديموقراطيتان وتتميزان بدينامية اقتصادية خاصة ناهيك بموالاتهما للغرب مما جمعهما في معسكر واحد. ولكن رغم ذلك، من الملفت أن تركيا لم تقدم على توطيد تعاونها العسكري مع اسرائيل الا بعد تقدم العملية السلمية وبصورة خاصة بعد اتفاق أوسلو بين اسرائيل والفلسطينيين. حيث شهدت التسعينات مرحلة مضطردة من التعاون بين البلدين على جميع الصعد. وهكذا ارتفع حجم التجارة الخارجية بينهما من 200 مليون دولار عام 1993 الى أكثر من ملياري دولار عام 2007. لكن الجزء الأكثر أهمية من التعاون هو ذلك المتعلق بالمجال العسكري.
ويبدو واضحاً أن دولاً كبرى ومهمة مثل تركيا والهند تشكّل بالنسبة لإسرائيل سوقاً مهمة للسلاح وللتكنولوجيا العسكرية المتطورة.
بدءاً من التسعينات وقعت كل من تركيا واسرائيل على عدد من الاتفاقات العسكرية والتعاون المخابراتي، شملت هذه الاتفاقات وفقاً للكاتب شراء تركيا سلاحاً متطوراً ومتقدماً لا تريد الولايات المتحدة او الدول الغربية بيعه مباشرة لتركيا. وكان المستفيد الأكبر هو الصناعة العسكرية الاسرائيلية التي وقعت على عقود بملايين الدولارات مع تركيا مثل عقد تطوير طائرات الفانتوم أف-4 التركية، وبيع تركيا طائرات من دون طيار، وصواريخ من طراز “دليلة ” و”بوباي”. في عام 2007 وقعت اسرائيل عقداً مع تركيا لتطوير دباباتها من نوع أم-60، وهي تدرس حالياً امكانية شراء قمر اصطناعي من اسرائيل وصواريخ “حيتس-2″. في المقابل سمحت تركيا لإسرائيل باستخدام مجالها الجوي لإجراء مناورات وتدريبات (ويبدو ان الطائرات الاسرائيلية التي قصفت في ايلول الماضي المنشأة السورية استخدمت الأجواء التركية). كما سمحت اسرائيل للطيارين الأتراك التدرب في قواعدها والمشاركة بمناورات مشتركة مع الولايات المتحدة في البحر المتوسط.
يقول الكاتب:” طوال اعوام استخدمت تركيا علاقاتها الاستراتيجية الجديدة مع اسرائيل من أجل ردع الأطراف التي وقفت ضدها في المنطقة. وهكذا استطاعت ان تجبر سوريا عام 1998 على طرد عبد الله أوجلان زعيم حزب العمّال الكردستاني من دمشق الذي كان يقود التمرد الكردي ضد تركيا، وفي العام عينه حالت تركيا بمساعدة الولايات المتحدة، دون نشر صواريخ جوية من نوع أس-300 من صنع روسي في قبرص والتي تشكل تهديداً لمجالها الجوي. في عام 2001 وقفت تركيا ضد ايران بدعم صامت من اسرائيل والولايات المتحدة عندما هددت ايران بوقف تدفق نفط أذربيجان عبر البحر الأسود. كما منعت تركيا تهريب السلاح من ايران الى حزب الله عبر الأجواء التركية.”
أما بالنسبة لإسرائيل فلقد كان للعلاقات المميزة مع تركيا أهمية خاصة بوصفها الدولة المسلمة غير العربية الأهم في المنطقة والعلاقة الجيدة معها من شأنها أن تساهم في تحييد البعد الديني عن الصراع العربي الاسرائيلي، ناهيك بالفائدة القصوى التي تستفيد منها اسرائيل من التعاون العسكري والمخابراتي بين البلدين.
صلات تركيا مع اسرائيل
في القرن الحادي والعشرين
يتوقف عنبار أمام التغييرات التي طرأت على المنطقة مع بداية القرن الحالي والتي كان من شأنها أن تزيد من الخلافات في وجهات النظر بين الدولتين وأن تضعف المصالح المشتركة بينهما. ويعترف أن حاجة تركيا الى اسرائيل أقل من حاجة اسرائيل اليها. ومعنى ذلك أن باستطاعة أنقرة أن تتبنى توجهاً أقل حرارة تجاه اسرائيل في حال تطلبت منها الظروف الإقليمية ذلك. ولكن رغم ذلك يرى الكاتب أن العلاقات الجيدة بين الدولتين استطاعت أن تتغلب وتتجاوز أكثر من أزمة ومحنة. فلم يؤد مثلاً تبدل الحكم في تركيا ووصول حزب الرفاه الاسلامي الى الحكم بزعامة أربكان خلال عامي 1996-1997 ولا فوز الحزب الاسلامي العدالة والتنمية بالانتخابات عام 2002 الى تغير جذري في السياسة الخارجية التركية من اسرائيل. كما لم يساهم صعود نفوذ ودور الأحزاب الإسلامية في تركيا في تراجع العلاقات الثنائية بين البلدين مما يدل برأي الكاتب على أهمية الاعتبارت الاستراتيجية في السياسة الخارجية التركية.
الاختبار الثاني الصعب الذي مرت به العلاقات المميزة التركية – الاسرائيلية كان الموقف من انتفاضة الأقصى عام 2000 التي حملت بعداً دينياً ( الدفاع عن الأماكن المقدسة الاسلامية) الأمر الذي كان من شانه احراج تركيا. اما الإختبار الثالت فكان حرب تموز بين اسرائيل و”حزب الله” التي زادت من عداء التيارات الشعبية في تركيا لإسرائيل وبدا ذلك واضحاً في التظاهرات الشعبية التي شهدتها شوراع تركيا آنذاك تأييداً للحزب.
لكن ذلك لم يحمل الحكومة التركية ولا مرة على تجميد علاقاتها بتل أبيب أو قطعها، واكتفت بالتنديد والادانة الشديدة اللهجة لإستخدام اسرائيل المفرط للقوة مع الفلسطينيين وفي لبنان. واستطاعت الحكومات التركية طوال تلك الفترة مواجهة الضغوط التي تعرضت لها لتحجيم علاقاتها مع اسرائيل. لا بل على العكس من ذلك قامت تركيا فاعل في التقريب بين الدول الاسلامية وبين اسرائيل من خلال مؤتمر الدول الاسلامية، كما نجحت في لعب دور الوسيط في المفاوضات غير المباشرة الدائرة حالياً بين سوريا واسرائيل.
ثمة قضية أخرى كادت أن تطيح بالعلاقات الجيدة بين الدولتين هي المساعدة التي قدمتها اسرائيل للأكراد في شمال العراق بعيد سقوط صدام حسين. فلقد استدعت تركيا سفيرها في اسرائيل عام 2004 في أعقاب المعلومات التي تحدثت عن مساعدة اسرائيل للأكراد في شمال العراق لا سيما وان هذا يأتي على الخلفية التاريخية للدعم الذي قدمته في الماضي اسرائيل للأحزاب الكردية المطالبة بالحكم الذاتي وذلك ضمن النظرية الاسرائيلية الداعية الى تشجيع التحالف مع الأقليات في العالم العربي. وتخوفت أنقرة من التوجهات الاسرائيلية المؤيدة لتقسيم العراق الى فيديراليات دينية وقيام كيان كردي مستقل على حدودها، كما أثار النشاط الاسرائيلي الإقتصادي المتزايد في كردستان شمال العراق استياء تركياً كبيراً لا سيما قيام مصارف اسرائيلية بتمويل شراء أراض من التركمان بهدف احداث تغيير ديموغرافي في مدينة كركوك الغنية بالنفط.
يقول عنبار إنه مهما كانت المصلحة الاسرائيلية في اقليم كردستان فإنها لا يمكن أن تعرض للخطر المصالح الاستراتيجية البعيدة المدى مع دول كبرى مثل تركيا. من هنا اسراع اسرائيل الى التوضيح بأن من مصلحتها قيام عراق موحد قادر على الوقوف في وجه النفوذ الايراني، ناهيك بخطر تغلغل السيطرة الايرانية الى الاقليم الكردي مما يسمح لإيران محاصرة اسرائيل من شمال العراق ومن سوريا ولبنان.
الخطر الايراني
من زاوية التعاون الاسرائيلي التركي
يلاحظ الكاتب ان سعي ايران الى الحصول على السلاح النووي ساهم في ازدياد التقارب بين تركيا واسرائيل. وفي الواقع تنظر تركيا بكثير من القلق الى المشروع النووي الايراني الذي يشكل تهديداً للإستقرار في منطقة الشرق الوسط وفق كلام السفير التركي في واشنطن عام 2003. في السياسة الدفاعية التي تبنتها تركيا عام 2005 جاء ان ايران هي مصدر محتمل لعدم الاستقرار في المنطقة بسبب مشروعها النووي. صحيح أن تركيا لا تعتبر ايران الخطر الأول الذي يتهددها كما تفعل اسرائيل وتعارض اي حل عسكري للموضوع، لكن ذلك لا يعني تباعداً حقيقياً في الموقف من هذا الخطر بين البلدين.
الاتجاهات المستقبلية للسياسة الخارجية التركية
في رأي الكاتب أن هناك عدم وضوح في التوجهات المستقبلية للسياسة الخارجية في تركيا. وان هذا منوط بعدد من الأمور مثل كيفية تطور “أزمة الهوية التركية” وتأثير صعود نفوذ التيارات الاسلامية والقومية المتطرفة في تركيا، ناهيك بالانعكاسات السلبية لعدم انضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي. ويستنتج الكاتب من ذلك :”بات الرأي العام التركي اليوم أقل من الماضي تأييداً للإنضمام الى الاتحاد الأوروبي. فالمشاعر القومية التركية المعادية للغرب ولأميركا بدأت تنتشر بين مجموعات كبيرة في المجتمع التركي الأمر الذي قد يدفع بتركيا الى اتخاذ مواقف مختلفة وأكثر انغلاقاً. من هنا نجاح المحاولات الأميركية والأوروبية في ادخال تركيا ضمن خريطتهما السياسية والعسكرية سيكون له الدور الأكبر في تحديد توجهات السياسة الخارجية لأنقرة بما في ذلك العلاقات مع اسرائيل.
ولكن حتى لو تراجع التحالف التركي مع الغرب ستظل تركيا في رأي الكاتب حليفة اقليمية لإسرائيل وهذا يعود الى أهمية اسرائيل في المنطقة من جهة والى خيبة الأمل التركية من الغرب.