أهمية اقتصادية أم استراتيجية؟
جمال باروت
هل أهمية المنطقة العربية بالنسبة إلى النظام العالمي اقتصادية أم جيو-بوليتيكية بالمعنى الذي تطرحه جماعة الجيو-بوليتيكا للنظم العالمية؟ وبصيغة أوضح، ما هي أهمية المنطقة العربية بالنسبة إلى النظام العالمي خارج النفط؟
يقول الاقتصاديون عموماً، واقتصاديو الطاقة خصوصاً، إن المنطقة العربية تمتلك %56 و%50 على التوالي من احتياطي النفط والغاز العالميين، وتمتلك الدول الشرق أوسطية الخمس (السعودية، والكويت، والإمارات، وإيران، والعراق) وحدها أكثر من %60 من احتياطي النفط في العالم، وتمتلك دول الخليج العربي بينها أفقاً نفطياً يمتد حتى ما بعد العام 2050، بينما لا يتجاوز احتياطي الولايات المتحدة التي تستهلك برميلاً من كل أربعة براميل في العالم، أو ما يقارب الإنتاج الكلي للمملكة العربية السعودية، نسبة %2.5، كما لا يتعدى مجموع احتياطي الصين والهند اللتين تمثلان %40 من سكان العالم مجتمعتين أكثر من %1.9 من الاحتياطي النفطي العالمي.
لكن مساهمة المنطقة العربية كلها التي تمثل حوالي %4.3 من سكان العالم لا تزال حتى العام 2008 في الناتج المحلي الإجمالي كما كانت في العام 2005 أقل من %3، رغم الفيوضات الريعية الهائلة وغير المسبوقة التي نتجت عن ارتفاع سعر برميل النفط لأسباب جيو-بوليتيكية عالمية أكثر منها اقتصادية صرفة. وقد رفعت هذه الفوائض الريعية الناتج المحلي الإجمالي العربي إلى حوالي %6.2 خلال عام 2008، لكن الناتج المحلي الإجمالي لدولتين مثل إسبانيا وبلجيكا ارتفع بحوالي %42. وبالتالي، لا تزال المنطقة العربية في بؤرة «الثقب الأسود» الملتهبة، بحسب تعبير مؤلفي تقارير التنمية الإنسانية العربية، وهي جوهرياً بؤرة إخفاق التنمية.
لكن إذا ما اعتبرنا أن النفط سلعة استراتيجية -وهناك شرعية كبيرة لهذا الاعتبار- أكثر منها سلعة اقتصادية صرفة، فماذا يتبقى من قيمة مضافة للمنطقة العربية برمتها في الناتج المحلي الإجمالي العالمي؟ وبالتالي، ما هي أهمية المنطقة العربية بالنسبة إلى النظام العالمي الذي لا يزال يتشكل وسط استقطاب حاد حول مضامينه واتجاهاته؟ هل هي أهمية اقتصادية ترتبط بتملكه قدرات قطب منافس وسط الأقطاب الاقتصادية المتنافسة في العالم التي تشكل القيمة المضافة ما يرتفع إلى ثلاثة أخماس منتجها المحلي؟ أم هي أهمية استراتيجية أكثر منها اقتصادية صرفة؟ هذا هو أساس رؤية قابلة للنقاش تقول خلاصتها المكثفة إن أهمية المنطقة العربية ستبقى كما هي الآن خلال العقدين القادمين أهمية استراتيجية أكثر منها اقتصادية بحدّ ذاتها، في حال بقاء النفط سلعة استراتيجية معقدة بالفعل أكثر منه سلعة اقتصادية بحتة، وفي حال عدم قدرة الغرب والولايات المتحدة الأميركية تحديداً على «التحرر» من «الارتهان» لنفط الشرق الأوسط بواسطة استراتيجية البدائل عن الطاقة الأحفورية «التقليدية» التي حددتها رؤية أميركا 2025 للتخلص من «التورط» في المنطقة، وفي عدادها «الوقود الحيوي» الذي بدأ للتو بقرع جرس «الجوع» في العالم، والذي تردد مثل أصداء «الصهريج الرنّان» في مناطق مختلفة من العالم.يندرج في اعتبار الأهمية الاستراتيجية بروز العوامل الجديدة، وفي مقدمتها عامل الفوبيا-إسلامية والهجرة «غير الشرعية» (وهو اسم شوفيني تسلطي للهجرة القسرية)، ومنطقة العبور. ومفاد الكلام هنا أن قراءة المشهد الجيو-بوليتيكي العالمي في ارتباطه بالعامل الاقتصادي وبتحديد أكبر عامل الطاقة لا تزال تشير على مستوى الصورة العريضة إلى أن أهمية المنطقة ستبقى استراتيجية خلال العقدين القادمين، ما لم تحدث تبدلات جوهرية تفضي إلى قيام عالم متعدد الأقطاب يقوم على توازن المصالح، وسيبقى فيها النفط سلعة ما فوق اقتصادية، يحدد السيطرة عليها مصير السيطرة على أوراسيا. وعلى كل حال، استكملت المنطقة دمجها ضمن تعاريف الأمن الجيو-سياسي للدول «الفاعلة» التي تتسم بخصائص الأقطاب في الإقليم والعالم. وخلال «مسيرة الآلام» هذه ستتفجر الصراعات المقطعية على أوراسيا من كوسوفو إلى جورجيا مروراً بدارفور والنفط الإفريقي، مغطاة بالـ «ميرونة» الديمقراطية الليبرالية للدول المسيطرة على النظام الدولي، والتي هي في حقيقتها «ميرونة» ليبرالية أكثر منها ديمقراطية، تضطلع بوظيفة البلاغة في «تحسين المعنى» و «تزيين» تشظياته.
والمنطق الجوهري أن أحوال الصراع في مرحلة تحول النظم الدولية لا تحدث بشكل سببي تقليدي صرف، بل في شكل أعراض أو طفرات «ميدانية» في الانتشار، سترتهن فيها القيمة الاقتصادية الريعية النفطية للمنطقة للاعتبارات الاستراتيجية الكلية للصراع على من هو الأقوى وصاحب الكعكة الأكبر في تحولات النظام العالمي الجارية بكل السبل الممكنة. فلا تزال المنطقة العربية أبعد ما تكون عن أن تكون قطباً اقتصادياً حقيقياً في العالم رغم كل الفيوضات الريعية التي لم تطور مساهمتها في الناتج المحلي العالمي إلى أقل ما هو %3، ويا لها من نسبة مخجلة ومدعاة للإحساس الدائم بـ «الثقب الأسود».
العرب القطرية