حالة المعارضة السورية
مازن كم الماز
إن الانقسام العلني مؤخرا في المعارضة السورية قد أدى إلى تكريس انقسام فكري عقيدي و سياسي بين معسكرين موجودين سلفا في هذه المعارضة , كانت الأحداث تدفعهما بعيدا عن بعضهما , خاصة وتيرة الصراع بين النظام و القوى الخارجية التي تنظر إلى النظام كعدو..المشكلة الآن أننا أمام قسم يعتبر أنه معارضة وطنية في مواجهة معارضة “غير وطنية” بالضرورة
و يتحدث عن تغيير غائم ينشغل بضرورة الوقوف في وجه المخططات الإمبريالية أولا و آخر يعتبر أية معارضة لأمريكا و مشروعها الإقليمي وقوفا إلى جانب النظام أو رفضا لتغيير يبدو سهلا على أيدي المارينز..في السابق كانت الحاجة إلى حل وسط بينهما تحتم البقاء ضمن الحدود المقبولة لكليهما لكن الانقسام أطلق العنان لكل أشكال الاتهامات ضد الآخر و للمضي في الأطروحات الخاصة بكل طرف إلى أقصاها , فجاء تصريح الأستاذ رياض الترك الشهير و كانت الحملات على المعارضة “الليبرالية” أشنع من تلك التي وجهت ضد النظام..في النقد المبرر تماما لهذه النيو ليبرالية مثلا ميزت الحملة على المعارضة بين النظام النيو ليبرالي حتى نخاع العظم و بين المعارضة التي تلبرت لتنسجم هي أيضا مع جملة التطورات السياسية العامة و مع التغييرات الفكرية التي طرأت على العالم , خارج سوريا , بدا و كأن النظام رغم أنه يدفع معظم السوريين إلى حافة الفقر بسياساته النيو ليبرالية أقل خطرا على السوريين الفقراء من المعارضة الليبرالية . لم يحظ النظام النيو ليبرالي بمثل ما حظيت به المعارضة من نقد “مبدئي” وصولا إلى استبعادها من الدائرة “الوطنية” , من الواضح أن القضية الأساسية هنا كانت الموقف من المخططات الإمبريالية التي يتهم هؤلاء المعارضة الليبرالية بالسكوت عنها , يبقى جوع الناس أقل أهمية كما كان على الدوام و تبقى المبدئية تتعلق أساسا بالموقف من المخططات الإمبريالية..على الجانب الآخر بدا التحشيد خلف المجلس الوطني لإعلان دمشق و كأنه تحقيق لمشيئة الشعب السوري و صور الموضوع على أنه “انتخاب حكومة ظل” و ليس اجتماعا لنخبة سياسية ثقافية و صور التغيير الديمقراطي على أنه عبارة عن استبدال النظام ببديله الجاهز الآن و حظي بالتالي كل أعداء النظام من جماعة الحريري في لبنان إلى جورج بوش بتعاطف هذه المعارضة التي تعلن هي الأخرى ولاءها “للبديل” الليبرالي لكن “الديمقراطي” لتمييزه عن ليبرالية النظام الاستبدادية , و جرى تصوير الصراع بين المشروعين الأمريكي و الإيراني على أنه صراع بين “الخير” و “الشر” على طريقة ريغان-بوش-ابن لادن..انتهى الموضوع نظريا إلى أن يجري الحديث من جهة عن سوريا كجزء من محيط عربي متهالك مستباح خاضع تماما للطغيان , و من جهة أخرى محاولة تأسيس “مواطنة” سورية على “أسس” جديدة تحاول أن تستند إلى التصور الليبرالي عن الإنسان و حقوقه و مصالحه و تشكيلاته الاجتماعية..تاريخيا ظهرت المعارضة من رحم الأحزاب التي شكلت النمط الأساسي – الوحيد – للفعل السياسي , أساسا من انشقاق الأحزاب التي بدأ النظام عملية احتواء و تدجين تدريجية ناجحة لها منذ لحظة ظهوره في 1970 , هذه الأحزاب القريبة من فكر و ممارسة حزب النظام “القائد” , يجب في الحقيقة الانتباه إلى أن هذه الأحزاب كانت بحد ذاتها مدارس توليتارية فكرية و تنظيمية , و أن الشق المعارض فيها كان “ديمقراطيا” أو “يتدمقرط” بقدر ما كان يعارض النظام و يتعرض لسياط قمعه الوحشي أي أن معارضة النظام أصبحت عنوان الديمقراطية و من ثم أضيفت إليها الليبرالية الاقتصادية و السياسية , لكن بقيت “السياسة” في مفهوم الجميع ممارسة سلطوية دولتية أساسا , شرطها الأول هو الولاء و الخضوع الكاملين من قبل الجماهير , الأعضاء , أي باختصار احتقار الجماهير و أي فعل ديمقراطي جماهيري على مستوى القاعدة , لقد تلوثت أرواحنا جميعا داخل هذه الأحزاب كما جرى في المجتمع ككل..تعود “قيادات” المشهد السياسي عمليا إلى فترة الستينيات و السبعينيات , و هذا أيضا صحيح بالنسبة لأبطال المشهد الفكري و التنظيري , هذا ليس اتهاما , لقد بذل الكثيرون أجمل سنوات عمرهم داخل سجون النظام , و واجهوا بشجاعة الظروف التي فرضها النظام عليهم من أقبية التحقيق إلى مهاجع المزة و تدمر..لكن هذه النخبة , التي تلوثت , مثلنا جميعا , لا تستطيع أن تتجاوز حدود مأساتها الخاصة , تربيتها التوليتارية و قمع النظام الذي تعرضت له , و خاصة محدودية فهمها السياسي و الفكري و خاصة جرثومة احتقار الجماهير و عبادة القوة أو السلطة , و لو ضمنا , هذا الذي يجعلها اليوم محشورة بين ثنائية النظام و الخارج , بعيدا جدا عن الجماهير..في الحقيقة نحتاج اليوم لنقول للناس في الشوارع , للشباب , للفقراء في بيوتهم المتواضعة جدا , في كل مكان يمارس فيه السوريين العاديين حياتهم , حيث يعملون و يحاولون أن يبنوا عالمهم تحت وطأة سياسات النظام , أنهم هم المسؤولون فعلا اليوم عن بناء المعارضة الجدية للنظام , أنهم , أكثر من ذلك , هم سوريا , هم الوطن , أن نكون هناك لنحذرهم بقوة من أية أفكار تسلطية أو من أية أفكار قد تقود إلى استبداد أقلية أو نخبة ما بمصيرهم , أن ننقل للشباب تفاصيل القمع الذي جرى , كل ما جرى في السجون ليس فقط لتسجيل واقعة تاريخية بل كي لا يسمحوا باستمرار القمع , و لكي لا يسمحوا بإعادة إنتاجه من جديد تحت أي حجة أو أي مسمى , أن ننقل للشباب تفاصيل ما جرى , كيف انتهى الوعد بعالم جديد إلى هذه الحالة من الاستغلال و القهر , أن نكون مع مبادراتهم الخاصة التنظيمية و في خضم نقاشاتهم الفكرية و السياسية , مع الأشكال التنظيمية الجنينية لمؤسساتهم البديلة عن النظام و عن أية مؤسسات تحمل داخلها أجنة الاستبداد و القمع و الاستغلال , هذه هي المهمة الحقيقية لمن لا يريد أن يستمر في خداع الذات , يكتب التاريخ حتى اليوم بواسطة فعل “سياسي” هو فعل قوى فوق الجماهير , عادة قوى عسكرية أو شبه عسكرية دولتية سلطوية أو باحثة عن السلطة , و لن يتغير إلا إذا كتبه الناس أنفسهم هذه المرة..لنذكر المؤتمر القومي العربي في باريس عام 1912 الذي توج فترة طويلة من الدعاية و التحريض القوميين في الشرق , اعتقد الكثيرون من نخبة النهضة الأولى أن الثورة العربية “الكبرى” التي قامت على أساس وعد بريطاني بمنح شعوب الشرق حريتها و بدعم بريطاني مباشر بالسلاح ستؤدي إلى خلق الدولة القومية التي طالما حلموا بها كأساس ضروري للنهضة في الشرق , لكن ما كان في الواقع وهما استمر حتى السقوط الكامل على وقع جيوش “الانتداب” و هي تدخل عواصم الشرق..إن أي تغيير على هذه الدرجة يجري عادة على مستويين : مستوى طبيعة و علاقات النخبة المحلية من جهة و على مستوى توازن و علاقات القوى الدولية من جهة أخرى , استمرت هذه النخبة بالحكم لفترة قصيرة جدا كانت عبارة عن محاولات مستمرة للوقوف في وجه التوسع الاستعماري البريطاني الفرنسي , قبل أن تجرف الأحداث ليس فقط سلطتها , بل و فكرها الذي أنتجته بالأمس فقط , انقسمت النخبة فيما بعد بين من أفزعه سقوط الخلافة في تركيا فتحول محب الدين الخطيب مثلا من نهضوي إلى إنتاج أفكار الإخوان الأولى و تحول البعض إلى ليبرالية “أتاتوركية” و ظهرت الأشكال الأولى من أحزاب اليسار و الحركة القومية , في الحرب العالمية الثانية كان هناك من راهن على النازية – مصر الفتاة , و أصبح اليسار “صديقا” لسلطات الاستعمار “المعادية للنازية” وفاء لضرورة النصر في المعركة الكونية “الأشمل”..تستطيع النخبة أن تكرر ما فعله أسلافها بنجاح منقطع النظير , إن مبادئها هي ذاتها في كل تلك المنعطفات , حتى عندما كان الشوارع العربية تغلي في الخمسينيات فضلت الوسائل الفوقية “لممارسة” السياسة , تركت الشارع يخمد , ثم بدأ القمع من الأنظمة الناشئة بهدف تدجينه من جديد..بعد سقوط نظام صدام اختفى أبطال الجدال المحتدم حول شرعية الاحتلال أو استمرار النظام و أطلقت القوى الاجتماعية الفعلية التي كان النظام يكبتها لتدير الواقع الفعلي على الأرض و تراجعت النخبة إلى ملاجئها السابقة بالمعنى الحرفي للكلمة منزوية بعيدة عن الجماهير و عن أي فعل جدي على أرض الواقع..هناك اليوم فرصة ممكنة لعمل من نوع آخر , مختلف جذريا عما مارسته النخبة حتى اليوم , لكنه عمل لا تتصدره هي , بل ستلعب فيه فقط دور الحفاز لحراك جماهيري أصيل يدور حول مصالح الجماهير الواسعة – أعتذر للمصطلح الماركسي الصحيح تماما لأن هذه الجماهير موجودة بالفعل حولنا دون أن تثير انتباهنا في معظم الأحيان – و حول بناء حريتها – ليست بمعنى الأساس الشرعي القانوني و السياسي المؤسسي لسلطة القوى صاحبة الامتيازات – بل سلطتها هي تحديدا..
الحوار المتمدن
2008 / 2 / 26