عندما لا يبقى دور للاتجاهات غير الدينية … هل يفيدها “نقد الخطاب الديني”؟
الطاهر إبراهيم
بعد أن تضاءل دور الاتجاهات غير الدينية وتلاشى تأثيرها أو اضمحل في محيطها العربي ، وخبا بريق شعاراتها التي كانت تتوهج في خمسينيات وستينيات القرن العشرين. حتى إذا ما شارف ذلك القرن على الرحيل كادت تلك الاتجاهات تصبح أثرا بعد عين. وحتى لا تبقى التيارات الدينية لوحدها في الساحة، فقد تداعى من يهمه الأمر لدراسة الأسباب.
وقد كثر في الآونة الأخيرة المقالات التي تعالج فشل الأحزاب اللبرالية واليسارية والعلمانية – وحتى القومية – في الوطن العربي. فقد أفردت بعض الصحف حيزا واسعا على صفحاتها، كان منها “النهار” البيروتية ضمن صفحة قضايا النهار. وذهب الكتّاب في تحليل هذا الفشل مذاهب شتى، وأدلى كلٌ بدلوه في ما اعتبر أعماقا للمشكلة تعاني منها مختلف تلك الأحزاب ، واختلفت تلك المقاربات باختلاف كل كاتب وما يراه من منظوره الخاص.
ونستعجل فنقول: إن استيلاء بعض الأحزاب على الحكم في بلدين عربيين أو أكثر، لم يكن نجاحا لتلك الأحزاب بل كان فشلا لأسباب أهمها: أن تلك الأحزاب لم تصل إلى الحكم عن طريق ديمقراطي، مثلما هو الحال في سورية والعراق، وأن ممارسة الحكم كشف المستور من تلك الأحزاب، وكرّس فشلها على مستوى الشارع، بعد أن كانت منافسا قويا فيه.
نزعم أن أكثر تلك المقاربات كان وراءها الإشفاق من وصول الإسلاميين إلى الحكم، عسى أن تبادر تلك الأحزاب بتصحيح مسيرتها. وهي خطوة – مِنْ قِبَل الكتّاب – لا توصم بالخطأ، بل هي عملية نقدية جادة، إذا اكتفت بتقويم اعوجاج الأحزاب دون أن يكون الهدف الرئيس منها هو قطع الطريق على وصول الإسلاميين للحكم.
وبالعودة إلى بدايات عهد الاستقلال، وبعد التحرر من حكم الأجنبي، حيث شارك وطنيون وإسلاميون، جنبا إلى جنب في القتال ضد المستعمر الذي اضطر للرحيل، بعدما سلّم مقاليد الحكم لقادة وطنيين حيث تم استبعاد الإسلاميين من الحكم بترتيب مقصود من المستعمر. وفي عهد الحكم الوطني الديمقراطي كانت المنافسة على أشدها بين الإسلاميين والعروبيين. وكان الشارع هو الحَكَمَ الذي يخطب وده الجميع والميدان الذي يتبارى فيه الطرفان. عندما حلت نكبة فلسطين عام 1948، حشد الإسلاميون قواهم وأثبتوا جدارةً على تراب فلسطين بالفعل بعد القول. كما شاركهم وطنيون كانوا لا يرون فرقا بين العروبة والإسلام. وبحدود علمي لم أسمع أن أعضاء شيوعيين أومن حزب البعث العربي شاركوا في حرب فلسطين، إلا ما كان من أكرم الحوراني وأفراد قلائل معه، قبل توحيد الحزبين.
وعندما وُطِّئ – بضم الواو وكسر الطاء مع تشديدها – الأمر لحزب البعث في العراق ثم في سورية واستولوا على الحكم كانت مناسبة لهؤلاء وأولئك ليضعوا شعاراتهم موضع التطبيق – فيما لو أرادوا ذلك حقيقة – فإما أن يكونوا صادقين مع مبادئهم فينجحوا، ويكونوا كسبوا الجولة ضد الإسلاميين، أو يرسبوا في الامتحان. وكانت النتيجة أن حكام البعث في البلدين انشغلوا بالانقلابات على بعضهم، ونسوا المبادئ التي كانوا يدعون إليها، فبقيت حبراً على ورق، وهتافاتٍ ترددها ميكرفونات الإذاعة.
ونظرة شاملة على سنوات ستينيات القرن العشرين تعطي القارئ صورة نمطية لما آل إليه الأمر تحت حكم البعثيين في كل من سورية والعراق، حتى خرج أحد المنظرين ليقول: “إن البعثيين كسبوا الحكم وخسروا المبادئ”. ولأنه يصعب مناقشة جميع ما كتب في الموضوع – خصوصا ما ورد في قضايا النهار – فسنكتفي بالتعرض لمثال أو مثالين مما كتب، لنرى كيف تمت معالجة هذا الموضوع.
فقد عنونت الكاتبة “هلا رشيد مأمون” مقالها في قضايا النهار يوم 23 شباط هكذا: “التغيير يبدأ بنقد الخطاب الديني السائد”، فكتبت تقول:(إن موجة التدين الإخواني السلفي العاتية في السبعينات، جرفت في طريقها كل نزعة تنويرية أو إصلاحية في العالم العربي). فالتديّن هو نقيض التنوير والإصلاح حسب رأيها كما اعتبرت”هلا رشيد”: (أن الشارع العربي، بعد أن انعدمت لديه البدائل والوسائل الأخرى، التي من خلالها يمكنه التعبير عن غضبه ورفضه وحلمه في مجتمع أفضل – فإنه – يتفق مع الحركات الإسلامية في الأهداف “مقاومة المشروع الغربي، الدفاع عن العقيدة، الحفاظ على الهوية“).
فهذا “الشارع” بحسب هلا رشيد، – لأنه انعدمت لديه الوسائل – فقد سار مع الإسلاميين، ولا يختلف معهم في الأهداف. وهذا في رأينا تلاعب في الألفاظ على حساب الواقع. فالشارع ليس ساذجا إلى الحد الذي ذهبت إليه الكاتبة بل هو يعرف ما يريد. فهو لم يؤيد الإسلاميين لأن: (الفكر الديني قد أوجد أرضية له في المجتمعات العربية والإسلامية انطلاقاً من سياسة الولايات المتحدة … التي انحازت بشكل لا لبس فيه لمصلحة الكيان الإسرائيلي الغاصب)، فحسب – كما زعمت “رشيد”. التي اعتبرت التقاء الشارع مع الإسلاميين هو التقاء مصالح – بل لأن أهداف الشارع العربي وقناعاته لا تختلف مع أهداف الإسلاميين وقناعاتهم، إضافة إلى توحد المصالح في وجه أمريكا وإسرائيل. وسيفاجأ القارئ أن الكاتبة جعلت الخروج مما آل إليه أمر الاتجاهات غير الدينية هو “التغيير – الذي -يبدأ بنقد الخطاب الديني السائد“.
وعلى العكس ما ذهبت إليه “هلا رشيد”، فإن الكاتب السوري “محمد سيد رصاص” في مقال نشر في نشرة “كلنا شركاء” الناطقة باسم حزب البعث، في 23 شباط الحالي، حيث تساءل في العنوان: “هل من مستقبل للأحزاب غير الإسلامية في العالم العربي”؟ حيث جاء بمقاله: – و”رصاص” ليس كاتبا إسلاميا على كل حال – أن عقود النصف الثاني من القرن العشرين سجلت انحسارات متلاحقة للاتجاهات غير الدينية، حيث انهزمت في حرب 1948 وفي حرب 1967 ضد إسرائيل. وحتى عندما تعرض الإسلاميون لقمع الأنظمة الحاكمة في كل من مصر وسورية وتونس والجزائر، لم تستطع الأحزاب غير الدينية أن تقف على قدميها، بعد تغييب خصمها التقليدي –الإسلاميين- في المعتقلات والمنافي.
لقد كان الأستاذ رصاص أكثر إنصافا مما بدت “هلا رشيد” عندما قال: (إن قوة الإسلاميين لا تأتي فقط من فشل القوميين في تجارب السلطة، ولا من فشل اليسار الماركسي في أن يكون بديلاً للأحزاب القومية العربية، وإنما أيضاً من قدرتهم – أي الإسلاميين – على التعبير عن طبقات وفئات اجتماعية كانت متضررة من التجارب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي طبقها القوميون بالسلطة).
ويبقى أن نقول أن ما تعانيه الاتجاهات غير الدينية من تهميش وانحسار داخل المجتمع، لا يكون علاجه بنقد الخطاب الديني كما عنونت “هلا رشيد”، لأن ذلك قد يشوش الساحة، ولا يفيد تلك الاتجاهات. فقد ثبت بالدليل القاطع والبرهان الساطع أنه كلما ازداد التضييق على الإسلاميين من قبل الأنظمة كلما ازداد تعاطف “الشارع” معهم. بل إن الاتهامات التي كانت توجه للتيارات الدينية في هذا القطر العربي أو ذاك لتبرير ضربهم، لم تجد آذانا صاغية، لدى المواطن بل تجد المناصرة حتى من معارضين غير إسلاميين كما هو حاصل الآن في مصر، حيث تصدى كثير من الكتاب للتنديد بممارسات أجهزة الأمن ضد الإسلاميين.
بل إن المعارض الشيوعي “رياض الترك” انشق عن الحزب الشيوعي جناح “خالد بكداش”، ورفض أن يساير النظام في سورية في تحميل الإخوان المسلمين وحدهم تبعة الأحداث التي استعرت في سورية في بداية الثمانينيات. واعتبر أن النظام في سورية يتحمل القسم الأعظم من المشكلة بسبب مصادرته للحريات واعتماده الأسلوب الأمني في معالجة أساس المشكلة، فكان أن دفع 17 عاما من حياته قضاها في المعتقل.
وإذْ ثبت – بعد حقبة الاستعمار – أن التضييق على الإسلاميين يأتي دائما بنتائج عكسية، فَلِمَ لا يُعطى الاتجاه الديني فرصته في العمل السياسي من خلال صناديق الاقتراع؟ فإن فاز في الانتخابات ونجح فيما فشل فيه غيره فذاك، وهو مكسب للجميع. وإن فشل كما فشل غيره، فإن المجتمع سوف يسحب تأييده له، وتكون الممارسة الديمقراطية هي التي أقصته عن الساحة لا الاستئصال، وكفى الله الجميع شر الاقتتال على السلطة.
القول بأن تمكين الإسلاميين من الحكم، حتى ولو كان عن طريق صناديق الاقتراع، يؤدي إلى أن ينقلبوا على الديمقراطية ويستأثرون بالسلطة كما يردده خصومهم، وكما عبرت به “هلا رشيد”، إذ قالت: “الاحتماء في حضن الحقائق المطلقة، سرعان ما تصبح غير مطابقة، بل متخلفة عن الواقع”، قولٌ لا دليل عليه، ورجمٌ بالغيب ومحاكمةٌ للنوايا، وذريعةٌ مكشوفة لمصادرة الحرية والديمقراطية وسلبٌ للمجتمع حقه في اختيار ممثليه في الحكم عن طريق صناديق الاقتراع الشفافة، بعيدا عن التزوير. وماذا يبقى من الديمقراطية إذن، عندما يحرم حزب أو اتجاه أو جماعة من الحق في استلام الحكم عبر صناديق الاقتراع؟
إن الزعم بأنه يحق لمن بيده الأمر (حكومات منتحبة، أنظمة شمولية)، أو تآلف أحزاب غير دينية أو جماعات المجتمع المدني بأن يمنعوا الإسلاميين من الوصول إلى الحكم ديمقراطيا، فهذا الزعم، عدا عن أنه يعتبر مصادرة للديمقراطية، فهو تسويغ للاستبداد وسلب الحريات، لا يختلف – في قليل أو كثير – عما كان عليه الأمر في عهد الاستعمار، إذ الاستبداد الوطني كالاستبداد الأجنبي كلاهما عدوان على حرية الشعوب.
أتساءل أخيرا: عمن أعطى الحق للبعض من أتباع الاتجاهات غير الدينية بأن يعتبروا ما يقولونه مسلمات لا يرقى إليها الشك، مع أن هذه “المسلمات” صناعة بشرية كثيرا ما تكون متناقضة ومتعددة بتعدد من صدرت عنهم. ثم هم بعد ذلك يصادرون حق الإسلاميين في الدعوة إلى الإيمان بما ورد في القرآن مع أنه قطعي الثبوت. ويعتبرون ذلك من الغيبيات، كما ورد في آخر مقال الكاتبة “هلا رشيد“.
__________
كاتب سوري
أخبار الشرق – الجمعة 29 شباط/ فبراير 2008