ثمار الحرب الباردة الجديدة: سورية أبرز الكاسبين
أنور القاسم
ما الذي جعل الحرارة تدب بشكل مفاجئ بأوصال العلاقات بين سورية والغرب من جهة وبينها وبين الاشقاء العصاة من الجهة الاخرى، بعد ان وضعت هذه العلاقات في الثلاجة واقفل عليها طوال سنوات؟ سؤال يحمل الكثير من الاجابات والتأويلات ويضع دمشق في قلب معركة شد الحبال بين روسيا الناهضة مجددا والغرب القلق من مستقبل العلاقات بين الكتلتين؟ وربما أجابت صحيفة ‘التايمز’ البريطانية على جزء من هذا السؤال في افتتاحيتها التي اكدت أن احتمال نصب صواريخ روسية على الأراضي السورية أجج المخاوف من عودة أجواء الحرب الباردة في الشرق الأوسط. وترى التايمز أن التقارب الروسي- السوري الجديد عزز الاعتقاد بأن موسكو تنوي إعادة تشكيل تحالف دولي مناوئ للغرب يضم حلفاء الكتلة السوفييتية سابقا.
ويخشى المراقبون الغربيون من أن يصبح الشرق الأوسط مجددا مسرحا تمارس فيه القوتان العظميان نفوذهما العسكري والسياسي. ومع إقدام كل من إسرائيل والولايات المتحدة على دعم جورجيا عسكريا، فإن روسيا يبدو أنها على وشك الرد على ذلك بتقديم دعم نوعي لسورية.
وهنا ثمة مفارقة تاريخية مدهشة، ففي أواسط خمسينات القرن العشرين، وحين قررت روسيا السوفييتية اقتحام الشرق الأوسط، اختارت سورية (قبل مصر الناصرية) كجسر للانقضاض على المواقع الغربية. والآن سورية في أوائل القرن الحادي والعشرين تذهب بنفسها إلى روسيا لحثها على العودة إلى الشرق الأوسط عبر النافذة السورية نفسها، حتى ولو تطلب الأمر إقامة قاعدة بحرية روسية جديدة في اللاذقية أو طرطوس. العلاقات الروسية’- الغربية تقترب من الحضيض، وصحيح أن موسكو اوقفت تعاونها العسكري مع حلف شمال الأطلسي، رداً على نشر منظومة الدفاع الأمريكية ضد الصواريخ في بولندا، إلا أن الأمور لم تنحدر بعد من حافة الهاوية إلى الهاوية، أو من ‘التنافس التعاوني’ الساخن إلى الحرب الباردة. فلا تزال ثمة مسافات عدة يجب أن يقطعها الطرفان قبل الوصول إلى هذه النقطة. وعليه تبدأ التحالفات الدولية بالتغيير، ومن المعروف حسب صانعي الدبلوماسية الغربيين ان سورية ربما الدولة العربية الوحيدة في المنطقة التي تتقن فن السياسة حسب مصالحها، ومن هنا ربما اتى قرار الرئيس الاسد حين قرر زج سورية في أتون المواجهات الراهنة، بل ربما قرب الكثير من المسافات البعيدة، وجذب الغرب والعرب معا الى سورية بعد عقوق طويل بدأ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي حين مارس الغرب وبمساعدات عربية متواصلة كل انواع العزل والضغط والحصار على دمشق للتخلي عن الكثير من مبادئها ومسلماتها السياسية، فكانت اكبر الخاسرين.
وعلى الجانب الآخر فان عهدا جديدا ربما ستفتتحه زيارة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الى دمشق بعد اسبوع، حيث تبني باريس ودمشق عليه الكثير من الامال ما دفع رئيس مجموعة الصداقة الفرنسية – السورية في البرلمان الفرنسي فيليب ماريني للقول: ان ‘الرئيسين السوري والفرنسي مستعجلان في تطوير العلاقات بين البلدين’، املا، في ان تكون القمة بداية تحالف جديد.. وان فرنسا لديها القناعة بان الرغبة السياسية ستعطي زخما للعلاقات بين البلدين، باعتبار ان هذه العلاقات تمتلك كل مقومات التطور. ويتوافق تحليل الدبلوماسي الفرنسي مع عدد من التحليلات التي بدأت تخرج بعد زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى باريس، والتي تشير إلى تداخل عوامل إقليمية شرق أوسطية مع رغبة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بـ’الانتهاء من إرث جاك شيراك الذي كبّل الدبلوماسية الفرنسية’. وقد شهدت حركة التقارب الفرنسي مع سورية محاولات عرقلة وصفت بأنها ‘عنيفة’ أحيانا، سواء من أمريكا او من مصر والسعودية، وقد ترجم ذلك بوضوح في قصف إسرائيل لشمال سورية، وبدء الحديث عن ‘نشاط نووي سوري’ والمناورات التي رافقت القمة العربية في دمشق، والتحشدات السياسية التي أدت ورافقت ‘حركة 7 أيار’ في لبنان.
ويفسر ذلك وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير الذي ردد ان السعودية والولايات المتحدة لم تؤيدا انفتاح فرنسا على سورية واستقبالها للأسد، وقال: ‘لا أعتقد أن الولايات المتحدة معنا على الخط نفسه’. كما وصف تعامل الأمريكيين مع المعطيات التي خلقها انفتاح فرنسا على سورية ودمجها في إطار تعاون أوروبي – متوسطي بـ ‘البراغماتي’. وتطرق كوشنير كذلك إلى رد فعل الرياض في إشارة إلى الزيارة السرية لوزير الخارجية السعودية الأمير سعود الفيصل قبل القمة المتوسطية الى فرنسا، مشيراً إلى أن باريس ‘أطلعت الرياض على ما تقوم به’. ووصف رد فعلها بالبارد، وقال ‘لم تكن تحبذ لقاءنا مع الأسد’.
بدوره، يشير مصدر فرنسي إلى أن السياسة السعودية ‘مغايرة للسياسة الفرنسية’. ويرى ان ‘باريس تتفهم دوافع ممانعة الرياض وتتوقع أن تتفهم الرياض أهداف سياستنا’.
وتعول فرنسا وخلفها الاتحاد الاوروبي الذي تقوده باريس حاليا على وساطة يقوم بها الاسد بين ايران والغرب، فقد كشف رئيس مجموعة الصداقة الفرنسية – السورية ان الرئيس الاسد الذي زار ايران ويتشاور مع تركيا بشكل نوعي سوف يقوم بالاتصال مع ملك اسبانيا، وسيبقى على اتصال مع الرئيس ساركوزي من اجل التوافق مع ايران وتنفيذ المهمة الجديدة التي تفضل بالقبول بها’. في الوقت نفسه، لم يستبعد الرئيس السوري بشار الأسد لدى اختتام زيارته إلى إيران مؤخرا تدخله كوسيط في هذه المسألة، نافياً استجابته مباشرة لطلب من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي خلال لقائهما باريس منتصف شهر تموز (يوليو) الماضي بإقناع طهران بتقديم أدلة على أن برنامجها النووي سلمي محض.
وهذا ما اكده الرئيس الايراني أحمدي نجاد في المؤتمر الصحافي المشترك مع الرئيس الأسد في طهران بقوله ”إننا جادون في موضوع الحوار ونرغب ان يكتمل على الأسس والأصول والقانون وتتمخض عنه نتائج عملية على أرض الواقع ونأمل في أن يكون الآخرون جادين في الحوار وتسوية القضايا الاقليمية والدولية”.
واعلانه أن بلاده ترغب في الحوار مع الدول الغربية الكبرى بشأن شتى القضايا الخلافية بما في ذلك برنامجها النووي، دون تفريط في حقها في امتلاك الطاقة النووية. وربما مكنت هذه الانفراجة الدبلوماسية واتفاق تبادل السفراء لأول مرة بين لبنان سورية من تشريع الغرب لابوابه امام السوريين.
وما يعزز بدء صفحة جديدة مع الغرب اعراب وزراء خارجية كل من ألمانيا فرانك شتاينماير وإسبانيا ميغيل أنخل موراتينوس وإيطاليا فرنكو فراتيني في رسالة وجهوها الاسبوع الماضي الى وزير الخارجية السوري وليد المعلم، عن ترحيبهم بالخطوات ‘الأخيرة التي اتخذتها سورية لتحسين علاقاتها بالدول المجاورة’. ولفت الوزراء الى أن الحكومة السورية ‘أكدت رغبتها القوية لتحسين العلاقات مع الشركاء الأوروبيين’، مؤكدين ‘استعداد بلادهم للعمل على تحسين علاقاتها الثنائية مع سورية، وكذلك العمل مع شركائنا الأوروبيين لتطوير العلاقات بين أوروبا وسورية’.
واختتم الوزراء رسالتهم بالقول: ‘وبعد تقويم التقدم الحاصل حول هذه المواضيع، يدعو الاتحاد الأوروبي سورية الى توقيع معاهدة تعاون مع أوروبا قبل نهاية عام 2008’.
ولم تستبعد أوساط الاتحاد الأوروبي ايضا توقيع اتفاق شراكة مسودته موضوعة بالفعل مع نهاية العام الجاري بين الاتحاد الأوروبي وسورية، وهو الاتفاق الذي جرى تعليقه بعد اغتيال الحريري.
وفي الوقت الحالي فإن سورية هي الوحيدة في المنطقة التي لا ترتبط باتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي.
هذه المتغيرات الاقليمية والدولية، تدفع ببعض عواصم القرار الى إعادة النظر في مواقفها إزاء دمشق. ففي هذه الاثناء سربت وكالة الانباء الايطالية انباء عن مشاورات دبلوماسية للتحضير لزيارة يقوم بها الرئيس بشار الأسد إلى المملكة المتحدة قبل نهاية العام الحالي، وتشير وكالة الانباء الايطالية إلى وجود اتصالات ومشاورات دبلوماسية بين البلدين لاستيضاح الآراء حول الزيارة والملفات التي يمكن أن يتم النقاش حولها.وتكشف المصادر إن الجانب البريطاني لا يرى مانعاً في بحث ملفات شرق أوسطية مع الرئيس الاسد و خاصة ‘ملفات العراق وإيران والسلام مع إسرائيل’. وعلى خط مواز للهجمة الاوروبية على سورية، فبعد خمسة عشر عاماً من العمل في المنطقة، قامت الشبكة الدولية لمعاهد البحوث ومراكز الجامعات المستقلة المخصصة لتحليل المسائل الأوروبية المتوسطية (Euro MeSco) بتنظيم أولى حلقات البحث في سورية هذا الشهر تحت عنوان: (الاستفادة من العلاقات الأوروبية السورية.. من التوتر إلى التعاون). وكان محورها الرئيسي: أين سورية والاتحاد الأوروبي من السياق الإقليمي في الشرق الأوسط؟ هذا الانفتاح الكبير على الغرب ربما يستدعي تقاربا الزاميا بين العرب تقتضيه الظروف الغربية، فقد اعترف الرئيس السوري على هامش الاتحاد من أجل المتوسط الذي عقد مؤخرا في باريس، بتوتر العلاقات السورية مع مصر والسعودية، حينما قال: إنها ‘ليست على ما يرام’، لكنه أكد أن العلاقات السورية – الأوروبية ستكون في وضع أفضل لو كانت العلاقات السورية – العربية على ما يرام.
في هذه الاثناء نقل تلفزيون ‘الدنيا’ السوري مؤخراً خبرا عن مصادر دبلوماسية عربية ان الرئيس الاسد باعتباره رئيسا للقمة العربية سيقوم بزيارة الرياض خلال عيد الفطر لبحث قضايا لبنان والعراق بشكل اساسي. ويرى المتابعون انه ليس للسعودية، اذا صح هذا الخبر، ان تبدل موقفها الممانع هذا، الا وقد اخذت ضوءا اخضر، خاصة ان هناك مبادرة سعودية – مصرية لنشر قوات عربية بقيادة مصرية لحفظ الامن في غزة لن يكتب لها النجاح الا بتعاون سوري.
واذا سلمنا بان الحرب الباردة كانت وما زالت تصب في مصالح كافة الشعوب، ببساطة لانها تشكل توازنا للرعب، فان اخذ المواقف ضمنها وهي الخطوة التي اتخذتها دمشق يمكن ان تكون منجاة من التغول الامريكي – الاسرائيل في المنطقة برمتها.
فهل نرى اعادة لفنون الدبلوماسية السورية التي اذهلت الغرب أيام الاتحاد السوفييتي والتي عادت ثمارها ليس على سورية فحسب بل على العرب كلهم؟
‘ كاتب من اسرة ‘القدس العربي’