الدور الجديد لرجال الاعمال في مصر وسوريا
محمد سيد رصاص
لم يطبق الماركسيون منهج التحليل الماركسي في تفسير انهيار البناء الإقتصادي – الإجتماعي – السياسي الذي أقامته ثورة أوكتوبر 1917 بعد أربعة وسبعين عاماً من انشائه، هاربين من الموضوع إما إلى القول بنظرية المؤامرة، أو للحديث عن “غياب الديموقراطية” و”أخطاء التطبيق” كتفسيرين لذلك، فيما يقول منهج كارل ماركس بأن التحولات السياسية الكبرى في نظام معين (التي تتضمن إما ثورة أو انهياراً معيناً أوالإثنين معاً) هي حصيلة تغيرات بطيئة في البنية الإقتصادية – الإجتماعية تقود في مرحلة “ما” (وربما يجتمع آنذاك العامل الدولي مع المحلي أو لا) إلى نشوء تناقض بين تلك البنية والبنية السياسية – الدولتية، ما يؤدي في النهاية إلى التصادم حتى الوصول (مثلما رأينا في ثورة 1688بإنكلترا وفرنسا1789 وروسيا1917) لإزالة الأولى للثانية، من أجل إقامة شكل سياسي – دولتي جديد يعبر عن معظم مصالح الفئات أو الطبقات – المتبلورة أو المتجهة نحو التبلور – في المجتمع المعين، التي تميل إلى إقامة بنية اقتصادية – اجتماعية – ثقافية (وقانونية وإيديولوجية) أخرى تتظلل بذلك الشكل الجديد.
بدون هذا لايمكن تفسير سقوط نظام حزب كان يضم تسعة عشر مليوناً، وكان يمثل نظامه أحد قطبي العالم، بآلية تشبه سقوط أي بناء كرتوني في شهر آب من عام1991، بعد تلك المحاولة الإنقلابية الفاشلة من قبل شيوعيي الحزب المحافظين، الذين كان أداؤهم يذكر بذلك الذي أبداه أريستقراطيو فرنسا المهزومون أمام الطبقات الجديدة المنتصرة في ثورة1789.
من خلال ذلك يمكن القول إن يلتسين كان هو الوريث الشرعي للينين، ولمسار ثلاثة أرباع القرن من عمر ثورة أوكتوبر، وليس بريجينيف أوأندروبوف. والواقع أن المسار الذي اختطَه لينين، وعارضته غالبية كبار ماركسيي عصره من كاوتسكي وبرنشتين إلى بليخانوف، قد كان على تعارض جبهي مع ماوضعه ماركس كأسس لقيام الثورة الإشتراكية، التي كان يرى بأنها لا يمكن أن تقوم إلا في مجتمع رأسمالي متقدم يستنفذ فرص تقدمه عبر الشكل الرأسمالي حتى يصبح الأخير معيقاً لتطور القوى المنتجة من خلال علاقات انتاجه، لتأتي الإشتراكية كحل لذلك. وفي هذا الإطار تأتي ملاحظة مؤسس الحزب الشيوعي الإيطالي أنطونيو غرامشي بأن ثورة أوكتوبر، التي قامت في بلد متخلف تختلط فيه الرأسمالية الجنينية مع أنماط انتاج وعلاقات ماقبلها، هي”ثورة ضد كتاب رأس المال لماركس”.
إن عضو المكتب السياسي للحزب البلشفي، بين عامي1919 – 1921، (أوجين بريوبراجينسكي)، كان واعياً، بكتابه “الإقتصاد الجديد” عام1926، بأن البلاشفة وبسبب ظروف روسيا المتأخرة وشروطها مضطرون للمرور في مرحلة التراكم الأولي، وأنهم سيضطرون، من أجل ذلك ولوعبر وسائل عنيفة، لإنشاء نظام شبيه بنظام دولة الحكم المطلق، كما مارسه هنري الثامن في انكلترا (الذي حجَّم قوة الأريستقراطية وأمم ممتلكات الكنيسة والأديرة جاعلاً نفسه رأس الكنيسة بعد فصلها عن روما في عام1534) أولويس الرابع عشر الفرنسي الذي قال، في ثمانينات القرن السابع عشر،عبارته الشهيرة: “أنا الدولة”.
لم يؤدّ هذا كله إلى أكثر من نظام أحدث تأميمات للصناعة، وتجميعاً زراعياً ماجعل الدولة الرأسمالي الوحيد في المجتمع السوفياتي، وكذلك أجرى تحديثات وتطويرات تقنية ودخولاً في الحداثة لم يُستطع من خلالها “الدخول في الإشتراكية”، وإنما كان “اقتصاد السوق” و”الديموقراطية السياسية” بديلين بالنهاية من “رأسمالية الدولة” و”الحزب الواحد”.
في الصين أيضاً كان الرأسمالي الصيني الحالي هو الوريث لماوتسي تونغ، ولو مر هذا عبر سلطة الحزب منذ اصلاحات دينغ سياو بينغ الذي خطّ طريقاً منذ أصبح فيه الحزب الشيوعي، المتفرد بالقرار السياسي، قائد الثورة الرأسمالية، فيما لم يستطع الشيوعيون السوفيات ذلك مع غورباتشيوف.
هنا، في العالم العربي وعبر تجربتي النظامين الناصري والبعثي، يحصل شيء قريب من ذلك:قام عبد الناصر وحزب البعث بثورة اقتصادية – اجتماعية. عبر الوصول الى السلطة السياسية والتفرد بها، استطاعا بعد إزالة الرأسمالية القديمة وبقايا الإقطاع، إعادة صياغة الإقتصاد من خلال تأميمات المصارف والصناعة والإصلاح الزراعي وسيطرة الدولة على التجارة الخارجية، ليوضع مسار اقتصادي جديد كانت “رأسمالية الدولة” عنوانه. عبر هذا المسار، ومن خلال عباءة السلطة السياسية المتحكمة بالقرار الإقتصادي – الإجتماعي، تبلورت – أو هي على وشك التبلور – طبقة رأسمالية جديدة، أتت من أفراد في السلطة أو من جوانبها أو أطرافها أومن المتشاركين اقتصادياً مع أفراد منها من بقايا الرأسمالية القديمة أو من الأغنياء الجدد.
في مصر كان هذا المسار أسرع من سوريا، بسبب أن تحولات الإيديولوجيا والسياستين الداخلية والخارجية، منذ فترة 1974 – 1979، قد أمّنت مظلة كبرى ملائمة للتحول الإقتصادي – الإجتماعي نحو رأسمالية اقتصاد السوق: رغم هذا لا يمكن القول بأن هذه الطبقة الرأسمالية الجنينية هي التي تحكم القاهرة الآن، حتى ولو أتى نصف عدد مجلس الوزراء المصري الحالي من وسط رجال الأعمال وكذلك”مجلس الشعب”، بل يمكن القول أن الجيش، ومعه فئة بيروقراطية الإدارة، ما زالا يمسكان بالحصة الكبرى من القرار.
من جهة أخرى، نجد في سوريا الآن أن التحولات الإقتصادية باتجاه الليبرالية قد تسارعت خلال السنتين الماضيتين بما يعادل – بل يفوق – تحولات استغرقت ثلاثة عقود من الإنفتاح الإقتصادي الذي بدأ بعد حرب1973. حالياً، أصبح صوت رجال الأعمال والصناعيين والتجار أكثر سماعاً في دمشق، إلا أنهم أقل قوة من نظرائهم المصريين الراهنين، ولهم حصة أقل في صنع القرار، وهذا ربما عائد، الى حد بعيد، إلى أن مظلة الإيديولوجيا “الملائمة” لم تؤَمّن بعد في نظام ما زالت بنيته العقائدية – الإيديولوجية هي نفسها التي كانت في الستينات، فيما ما زالت دمشق – على الأقل منذ عام2003 مع سقوط العراق بيد الإحتلال الأميركي – على تصادم مع عاصمة الليبرالية العالمية في واشنطن، ولو أن المسار في العلاقات الأميركية – السورية، بعد “اتفاق الدوحة”، يوحي بأن الأمور قد أصبحت على سكة جديدة مختلفة عن السنوات الخمس السابقة، أو أنها على وشك البدء بذلك.
هل هذا التحول من “رأسمالية الدولة” إلى “اقتصاد السوق” هو اتجاه عالمي حتمي سارت عليه وستسير عليه كل الدول التي اختارت، في مرحلة من المراحل،التأميم والسيطرة على نشاطات الصناعة والتجارة، لتصبح الدولة من خلال ذلك هي الرأسمالي الأكبر أوالوحيد في المجتمع المعني؟
(كاتب سوري)
النهار