صفحات سورية

الشارع العربي

null
الياس خوري
مع انتشار ظاهرة الفضائيات، برزت عبارة جديدة في القاموس السياسي المتداول، هي عبارة ‘الشارع العربي’، وهي عبارة لا تدل على شيء لأنها تدل على كل شيء. وقام البعض بتشبيه دور الفضائيات، وخصوصا فضائية الجزيرة بالدور الذي كانت تلعبه اذاعة صوت العرب، زمن صعود المشروع الناصري. لن ابدأ من النهاية، مذكرا بالمصير البائس الذي انتهت اليه صوت العرب، بعد الهزيمة الحزيرانية، بحيث صار احمد سعيد، تجسيدا للفهلوية التي تأخذ اصحابها الى البهدلة. ولكن النهاية يجب ان لا تحجب وعود البداية، فصوت العرب جسدت مشروعا سياسيا ارتبط بتطور تقني هو ولادة الترانزستور، بحيث انقلبت المعادلة الاعلامية والسياسية رأسا على عقب، ووصل الصوت الطالع من قاهرة الناصر الى جبال الاوراس في الجزائر. كانت صوت العرب ذروة مشروع سياسي – ثقافي- اعلامي، اشترك فيه فنانون كعبدالحليم حافظ وصحافيون كمحمد حسنين هيكل، وانضم اليه المثقفون الشيوعيون الخارجون من سجون عبدالناصر. صوت العرب كانت تجسيدا اعلاميا لمشروع سياسي كبير. اي انها كانت بمعنى ما الصدى الشعبي لأهرام هيكل، التي استقطبت كل المثقفين المصريين. يومها كانت العبارة المستخدمة هي الجماهير العربية. وكانت الجماهير بقيادة ضباط من البرجوازية الصغيرة ذات الاصول الريفية، تحتل الشوارع. من بغداد والموصل الى بيروت ودمشق، وكانت المرحلة تشهد مزيجا من الانقلابات العسكرية والثورات الشعبية، التي وصلت الى ذروتها عشية حرب حزيران، قبل ان تبدأ في التلاشي بعد الهزيمة. عبارة الجماهير العربية، التي صارت بعد ذلك مدعاة للتندر والسخرية، كانت تجسد قوى فعلية قادرة على التحرك، رغم انها جسدت نقطة تقاطع ملتبسة بين مشروع قومي غامض يتبنى الطرح البروسي، وبين صراع اجتماعي طبقي هيمنت عليه رأسمالية الدولة الصاعدة، تمهيدا لمرحلة الانفتاح والخصخصة على الطريقة الساداتية.
اليوم حلت الفضائيات مكان الترانزيستور، وبرز تعبير جديد بدل التعبير القديم. اليوم يتحدثون عن الشارع العربي، وهو اسم بلا مسمى. وقد سقط هذا التعبير في الامتحان الاول الذي تعرض له، وهو امتحان الانتفاضة الثانية. دخلت صور مجزرة الاطفال خلال الاشهر الستة الاولى من انتفاضة الاقصى الى كل بيت. وشاهدنا المراسلين والمراسلات يتهدجون امام الصور الوحشية التي نقلتها الكاميرا، وسمعنا صرخات التلفزيون التي تتحدث عن ردود فعل الشارع العربي، لكن الشارع بقي صامتا ومتفرجا. اغلب الظن ان الذين نحتوا العبارة الجديدة كانوا يبحثون عن عبارة محايدة. فالاعلام الجديد، ممول من الدول النفطية، التي لا تحمل مشروعا جديا لحل القضية الفلسطينية، ولا تدعي افقا سياسيا قوميا. قطر، التي فتحت اراضيها للوجود العسكري الامريكي، لا تستطيع بحكم حجمها سوى ان تلعب في مربع توازن دقيق. اما السعودية، فان ارتباكها الاصولي بعد احداث الحادي عشر من ايلول- سبتمبر شلها لفترة، قبل ان يكون اقتراحها الوحيد للحل هو مبادرة سلام، شرط وجودها هو التبني الامريكي لها. ولأن امريكا منحازة في شكل مطلق لاسرائيل، فان المبادرة بقيت معلقة في فراغ الانتظار.
لكن الفضائيات وجدت حلا تقنيا عبر اللجوء الى التيارات السلفية بكل الوانها. غير ان هذا اللجوء، بدل ان يشكل عامل تعبئة للشارع العربي، حمل في داخله جميع تناقضات هذه التيارات، مما دفعه الى الانكباب على الفقه، وخصوصا فقه الحياة اليومية. الفضائية العربية الوحيدة التي حملت مشروعا سياسيا واضحا هي المنار اللبنانية، لكن الواقع المذهبي وصراعاته المتعددة رسم منذ البداية حدودا لقدرة المنار على تغيير صورة الشارع العربي من متفرج الى طرف فاعل.
فكرة الشارع العربي هي الانكفاء، وعدم تشكيل رأي عام فاعل ومغير. لذا كي تكتمل صورة الشارع العربي، كمفهوم وكواقع ملموس، يجب ان نبحث عنه في نوع آخر من الفضائيات، هي فضائيات الترفيه والموسيقى والنجوم الجدد، وظاهرة المسلسلات التركية التي تأتي كتتمة منطقية لظاهرة المسلسلات المكسيكية. فاذ كانت المسلسلات المكسيكية قد نجحت في اقناع العامة بأن اللغة العربية الفصحى هي لغة مكسيكية! فان مسلسل نور التركي، نجح في اقناع نساء العرب، بأن الرجل يجب ان يكون اشقر وذابل العينين مثل بطله مهند. اما الترفيه الذي يجد قاعدته في روتانا واخواتها، فانه نجح في ادخال الكاباريه الى البيوت، وفي تحويل المرأة سلعة مطلقة، تجسدها اغنيات التسليع التي تتلوى بها الفنانات.
آلية الترفيه التي تتخذ حجما كبيرا وغير متوازن، تشكّل وسيلة لتصريف المكبوت، في مجتمعات محجبة بالكامل. المرأة- اللعبة تصير بديلا من المرأة المنقبة، وحرية ابطال المسلسلات تتخذ شكل التعويض عن منع المرأة من قيادة السيارات، وادخال الكاباريه الى البيت تجسد ازدواجية المعايير التي يعيشها الرجل. احمد عبدالجواد بطل ثلاثية نجيب محفوظ استطاع رسم حدود ازدواجيته، عبر الفصل بين ما يقع داخل اسوار البيت وما يقع خارجها، اما حين يصير كل شيء مسورا، وتصير المدينة سوداء كلها ومحجبة في كل نواحيها، فان لعبة الثلاثية تصير مستحيلة. ويصير الكاباريه في البيت، وتدخل الازدواجية في ثنايا الحياة اليومية.
صورة الشارع العربي تتضح من خلال هذه الثنائية التي تشلّ الفعل، وتحوّل الشارع الى حال من الشلل المطلق.
انها ازدواجية التعايش الغرائبي بين سياسة لا افق لها، وثقافة اجتماعية مبنية على مزيج التزمت والانفلات. السياسة ليست سوى بحث عن الصورة المثيرة، ولو ادى ذلك الى فتح الابواب للقاعدة او ما يشبهها. اما الاجتماعي فينصب على الاثارة المطلقة، والتعويض النفسي، الذي لا يترجم الا على الشاشة.
شارع مصنوع من شوارع مليئة بالفقراء والبؤساء، الذين يريدون حلا فرديا لمشكلاتهم، ويبحثون في الشاشات عن تعويض لا يعوض شيئا.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى