صفحات سورية

الداخل السوري عشية عودة الانفتاح على الخارج

null
لؤي حسين
منذ استلام الرئيس الراحل حافظ الأسد السلطة في سوريا، ظهر خطاب سياسي داخلي يرى أصحابه أن خلافهم مع السلطة يقتصر على سياستها الداخلية، في مقابل اتفاقهم التام مع سياسته الخارجية القائمة على التصدي لإسرائيل وكل القوى والمشاريع الإقليمية والدولية التي تخدم وجودها. واستنادا إلى هذا الموقف من الخارج، وجدت بعض القوى السياسية السورية مبرراً قوياً للتحالف مع سلطة حزب البعث العربي الاشتراكي، حيث صرح بعض قادتها غير مرة أنه لولا السياسة الخارجية الوطنية والحكيمة للقيادة السورية لكانوا في مقدمة صفوف المعارضين.
في تلك الفترة، إبان انشغال القيادة السياسية بخلق مكانة إقليمية لسوريا والعمل على إقامة علاقات دولية ذكية لتوطيد هذه المكانة وترسيخها من خلال إيجاد دور إقليمي مركزي لسوريا السلطة، انتشر الفساد في جسد الدولة والمجتمع السوريين. ومع مضي الوقت وازدياد الانشغال السلطوي بالمحافظة على الدور الإقليمي، ولأسباب أخرى كثيرة وعديدة، تفاقمت الأزمة الاقتصادية والمعيشية إلى حدود مذلة للفرد السوري، وتكرس القمع واحتكار السلطات، واستشرى الفساد حتى نخر مفاصل الدولة متحكماً بجميع دوائرها الدنيا والعليا وفق آلياته. وقبيل وفاة الرئيس الأسد الأب وبعيدها سقطت شخصيات من الدائرة السلطوية الأولى بتهم الفساد الشنيع، لم تقتصر على رئيس الحكومة وعلى نائب رئيس الجمهورية.
وفي الفترة التالية، وفور وصول الرئيس بشار الأسد إلى سدة الرئاسة، أخذ خطاب السلطة ونهجها منحى جديدا: إصلاح الأحوال الداخلية. لكن ما لبثت الأزمات الإقليمية، بدءا من الغزو الأميركي للعراق، أن استحوذت على اهتمام القيادة السياسية السورية الشابة، التي أطاحت الشيوخ وعادت بعضهم. فخفت صوت الإصلاح تدريجيا تاركا مساحة الصوت الأكبر لخطاب خال من الوعود الداخلية ويفتقد إلى الاستراتيجيا بشكل عام؛ لكن لم يتم التنكر للنية الإصلاحية. وقد عبر الرئيس السوري عن ذلك بوضوح حين عزا سبب تباطؤ البرامج الإصلاحية، ومن بينها عدم إنجاز الشيء الكثير على صعيد محاربة الفساد، إلى الانشغال بالسياسة الخارجية والتصدي للهجمات الداهمة على سوريا من كل حدب وصوب.
أكثر من جبهة خارجية، دبلوماسية وأمنية، استأثرت بأغلب جهد القيادة العليا السياسية ووقتها، قبل أن تتمكن هذه الأخيرة من تعيين قاطرات الإصلاح ومن تحديد مساراتها وسككها الاستراتيجية الصحيحة. فبسبب الانشغال بالخارج عن الاشتغال في الداخل ـ متضافرا مع أسباب أخرى ـ فقد اقتصر الإصلاح السياسي على تعيين شخصيات غير بعثية في مناصب حكومية عليا، وعلى وعود، لم تتحقق، بإصدار قانون ينظم ويشرعن العمل السياسي والحزبي، ولو في ظل سريان قانون الطوارئ. غير أن عدم صدور هذا القانون والانشغال عن الإصلاح السياسي عموما »تَطَلَّبَ« من الفاعلية الأمنية والمخابراتية ملء الشغور غير القانوني لضبط الواقع السياسي غير »الشرعي«؛ ما نجم عنه إجراءات ارتجالية متناقضة في أغلب الأوقات والمرات.
أما الطامة الأكبر فقد وقعت في القطاع الاقتصادي. فالقيادة الجديدة ارتأت منذ البداية أنه لا بد لإصلاح الواقع الاقتصادي المزري من هدم البنيان (إن جازت التسمية) الاقتصادي السابق وإشادة بنيان آخر أثبت نجاعته في أغلب بلدان العالم: اقتصاد السوق الرأسمالي. فباشرت بالهدم الذي لم يحتج إلى وقت طويل ولا إلى إشراف من القيادة، ليداهمها الانشغال الخارجي والإقليمي عن البدء بتأسيس البنيان الجديد. غير أن هذا القطاع وجد من بين المسؤولين المتنفذين في السلطة، الذين لا علاقة لهم ولا اهتمام بالشأن الخارجي، مَن له مصلحة بإلغاء دور الدولة واحتكارها للكثير من القطاعات الاقتصادية. هذا أدى بدوره إلى انعدام وجود ضوابط ونواظم وآليات اقتصادية وقانونية واجتماعية تؤمّن اقتصادا وطنيا يحمي السوريين من الفلتان الاقتصادي الذي سيطر على حياتهم المعيشية مؤخرا، مهددا بإغراق ملايين منهم تحت خط الفقر.
إصلاح آخر أرادت القيادة السورية القيام به في القطاع الإداري، واستعانت في سبيل ذلك بخبرات فرنسية لتكريس العمل المؤسساتي في مؤسسات الدولة وأجهزتها. إلا أن هذا المسار لم ينطلق، وقد يعود ذلك إلى تدهور العلاقات بين سوريا وفرنسا؛ وطبعا، لن يعني تطبيع العلاقات مجددا بين البلدين أن تستأنف السلطة هذا المسار الإصلاحي. ومع ذلك فقد جرت بعض التعديلات على آليات العمل البيروقراطي، لكنها لا تدخل ضمن إطار الإصلاح المؤسساتي. ومع ذلك، فقد رأى بعض المسؤولين أن مثل هذه التعديلات هي كل ما أرادته القيادة من الإصلاح الإداري، ما دفع ببعضهم في بعض المؤسسات والوزارات، مستفيدين من الانشغال السلطوي بالسياسة الخارجية، إلى ارتجال إجراءات كان بعضها محسوباً وبعضها الآخر غير محسوب أو غير مقصود، تراوح بين الانكفاء عن القيام بأي فعل وبين تجاوز خطوط الصلاحيات.
الإصلاح الثقافي لم تقرره السلطة، مع أنها أوكلت للدكتورة نجاح العطار منصب نائب رئيس الجمهورية للشؤون الثقافية. وكان يمكن أن يُفهم من هذا الإجراء إيلاء أكبر من القيادة للشأن الثقافي والنية في جعل مرجعيته على المستوى الرئاسي، تقديرا لأهمية مواكبة النهوض الثقافي للتطورات المأمولة في بقية القطاعات والحقول الأخرى. غير أن الأمر لم يجر وفق هذا التصور الذي نعتقده، ولم تول الثقافة اهتماما رئاسيا. بل يمكن القول إن حال الثقافة ومكانتها سارا باتجاه معاكس تماما (إذا ما استثنينا احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية كونها مناسبة عابرة). فقد حوصر المثقفون السوريون بواسطة العديد من الإجراءات والقرارات، كان من بينها مؤخرا تعميم نُشر في اللوحات الإعلانية الداخلية لوزارة الثقافة، صادر عن الوزير ومعاونه والمدير الإداري، يمنع بموجبه العاملين لدى الوزارة من نشر تصريحات في وسائل الإعلام »تسيء إلى الوزارة قبل موافقة الوزير »تحت طائلة المسؤولية وتطبيق العقوبات وفق القوانين والأنظمة النافذة«. ومن المعروف أن وزارة الثقافة تضم من بين عامليها عددا لا بأس به من المثقفين: كتّابا ومترجمين وصحافيين وفنانين ومخرجين وموسيقيين وسينمائيين ومسرحيين، صار ممنوعا عليهم جميعا التصريح الإعلامي خشية أن يكون مسيئا للوزارة.
عدم توضيح محددات الإساءة في هذا التعميم ليس جديدا على الصياغات القانونية السورية، خاصة ما يمكن أن يطال منها المثقفين الذين تتم محاصرتهم وإلغاؤهم في كل المجالات التي يمكن أن يشتغلوا أو يكونوا فيها. فإضافة إلى القضاء الذي يمكن أن يدينهم في أي من أقوالهم وإبداعاتهم (وقد فعل ذلك أكثر من مرة)، وإضافة إلى الأجهزة الأمنية التي تشكك بكل ما يقولون وما يفعلون وتلاحقهم به، فإن وزارة الإعلام تمنع غير الموالين منهم وغير المرضي عنهم (أمنياً) من الاستفادة من منابر الإعلام الرسمي الذي تسيطر عليه، والتضييق عليهم في الإعلام الخاص حيث هي صاحبة السلطة في منح التراخيص وسحبها.
كانت وزارة الثقافة ملجأ لبعض المثقفين، في غياب السماح بالنشاط الثقافي الأهلي، ليمارسوا من خلال مؤسساتها المتنوعة مواهبهم وطموحاتهم، وهذا ما أضفى عليها طابعا ليبراليا نوعا ما، وأضفى على بعض خطابها الثقافي طابعا علمانيا. وبقي الخطاب الديني حكرا لوزارة الأوقاف. ولكن، وبسبب انعدام النية في إصلاح ثقافي، فإن المتابع لجانب من خطاب وزارة الثقافة ولبعض إجراءاتها، يلحظ أنها بدأت تنافس وزارة الأوقاف بخطابها الديني، وتغلق معرض الكتاب في الفترة الصباحية أيام الجمعة لتَعارض ذلك مع وقت الصلاة، وتصادر »خلسة« من أجنحة بعض الدور كتبا علمية ذات عناوين جنسية موافَقاً عليها مسبقا من أكثر من جهة؛ وليتها تنافس دار الإفتاء التي باتت مؤخرا تُقدّم خطابا مُرحِّباً بالحداثة، في الوقت الذي يصدح فيه الخطاب الوزاري الثقافي بمناهضة الحداثة و»إلحادها« و»رُسلها« وتياراتها على أنها »أدوات أوروبية غربية«.
ربما يحتاج الانفتاح على الخارج، وبالأخص الأوروبي، إلى أكثر من الاكتفاء بإنجازات »الممانعة« الخارجية، بل تهيئة داخلية على جميع الأصعدة والمستويات، تمكّننا من تحقيق النفع والفائدة من هذه العلاقة الانفتاحية غير المتكافئة أصلا.
([) كاتب وناشر سوري
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى